أتساءل أحياناً بيني وبين نفسي، حين أخلو مع الكتاب، وأنفرد بعوالمه الغرائبية والفنية وأجوائه الجمالية الأخاذة، هل يمكن للإنسان أن يحيا من دون كتاب؟
فإذا كان رواية شغفت بشخصياتها وهي تتحرك بين الورق والصفحات، قاطعة الأمكنة والأزمنة، مقدمة لي مأدبة من الخيال الذي أكون جائعاً إليه روحياً، وظمآنَ نفسياً بغية إرواء زوايا من مشاعري الداخلية، ومدّ قنوات الريّ اللغوي، التعبيري، واللفظي إلى مساحات واسعة من عالمي الباطني، أعود وأتساءل، هل يمكن للمرء أن يستغني عن الكتاب، والحياة التي ترتع بين سطوره، وتلمع بين جملة وجملة؟ وسريعاً يأتي الجواب أجل، ثمة بشرٌ لم يقرأوا كتاباً واحداً في حياتهم، أو في الحقيقة لم يقرأوا جريدة يوماً ما، ولكنهم عاشوا سعداءَ، طلقاءَ، فرحين، وسعيدين بأيامهم وهي تمرّ، ومسرورين بأوقاتهم.
وأقول نعم لقد مرّ في حياتي أناس، كانت الحياة بالنسبة لهم هي الجنس، والطعام، والعمل، وجمع المال، وإنجاب الأطفال، والتمتّع بما يرون ويسعون إليه، يرقصون، يغنّون، يسافرون، يأكلون، يشربون من ملذات الحياة الكثير، ولكنهم لا يقرأون، وعلى الرغم من ذلك، لم يكونوا يأبهون للكتب وعوالمها، ربما استهوت البعض منهم الكتب الدينية، كتب جلب الحظ، كتب الطبخ وكتب السحر والشعوذة، ولكن الكتب الأدبية تبقى في منآى عن أيديهم، في منآى عن أبصارهم، فهم قد يبصرونها في طريقهم، وهم يسيرون على الرصيف، أو يرونها في واجهات المكتبات، ولكنهم لا يتوقفون ليقرأوا حتى مجرد عناوينها، فهم حقّاً أناس لاهون، منشغلون ومسرعون، لأمر معيّن يخصّهم، يهرولون باتجاه شيء ما، حتى يكبروا ويشيخوا ومن ثم يوافيهم الأجل، وهم لم يكونوا قد قرأوا سطراً واحداً في حياتهم، ربما كانوا قد قرأوا الكتب المدرسيّة والجامعيّة والعلميّة، وحتى اللغويّة، لغرض نيل الشهادة الجامعيّة، بغية استخدامها في العمل، والعثور على وظيفة، قد يقرأون الجريدة، ولكن من أجل البحث عن الوظيفة، أو عن إعلان، أو قراءة برجهم في الصحيفة، أو حلّ الكلمات المتقاطعة، وما شابه، كالبحث عن رقم جائزة اليانصيب الرابحة لذاك اليوم مثلاً.
هذا النوع من الناس، رأيته في بلادي أوّلاً، ثم في البلاد العربية، ومن ثم في البلاد الأجنبية، عبر إقاماتي الطويلة والقصيرة، في بلدان العالمين العربي والأجنبي، هناك أناس لا يهتمون للكتاب، ولما هو موجود في داخله، فهو في رأيهم يخصّ نخبة بعينها، مجموعة من الناس، بعصبة ثقافية أو أدبية، وهم يرون في ذلك اختصاصاً هم بعيدون عنه، لا يعنيهم إن كتب أحد الناس شعراً، أو رواية، أو بحثاً علمياً وأدبياً ونقدياً، فهم يجدون في ذلك نوعاً من الاختصاص، أو مضيعة لوقتهم، وتشتيتاً لحياتهم، ولعلّهم يرونه اختراقاً لقوانينهم اليومية، في العيش السليم من دون كتاب، من دون ثقافة، من دون وعي، ومن دون خيال، فالثقافة بالنسبة لهم، هو أن تأكل بالشوكة والسكّين، وتلبس ربطة العنق الحريريّة، وساعة الرولكس، وتحمل حقيبة رجل الأعمال «السمسونايت» ولديك سيارة آخر طراز، وأن تكون حاصلاً على شهادة جامعية، أهّلتك بعد أن قرأت الكتب الجامعية المقررة، لكي تصل إلى مركز ما.
الوعي بالنسبة للبعض منهم هو كيف تكون شاطراً، وتغلب غيرك، وكيف تجمع المال بطرق مشروعة، وغير مشروعة، أما الخيال فهم يحسبونه الظل، ظلك أو ظلّ غيرك، فهم معتادون على أن يكونوا ظلالاً للرؤوس الكبيرة، تلك التي باستطاعتها أن تصنع خيال الظل.
الوعي بالنسبة للبعض منهم هو كيف تكون شاطراً، وتغلب غيرك، وكيف تجمع المال بطرق مشروعة، وغير مشروعة، أما الخيال فهم يحسبونه الظل، ظلك أو ظلّ غيرك، فهم معتادون على أن يكونوا ظلالاً للرؤوس الكبيرة، تلك التي باستطاعتها أن تصنع خيال الظل. فعلام إذن الانهمام بالكتاب؟ فإن قلت لهم هل قرأتم كتاباً في حياتكم؟ يأتي الجواب سريعاً، نعم قرأنا كتاب الله عشرات المرّات، وحفظنا أغلب الآيات، أو قرأنا الكتاب المقدّس بعهديه القديم والحديث، آخر يقول لقد قرأنا كتاب كيف تتعلّم الإيطالية في عشرة أيام؟ وقد تعلمناها، والدليل أننا قد طلبنا أمس البيتزا في المطعم الإيطالي.
أتذكر في هذا السياق المهووسين بالكتب، المحبّين لرائحة الورق، للونه، وحبره، لتصميمه، وحجمه وشكله ولون الغلاف، فمحبّو الكتب ومدمنوها يعرفون نوعية الورق، وزنه، مصدره، وكم سيطول عمره، وكذلك ورق الغلاف، سمكه، درجته، وكم سيعيش زمنياً. المهوسون بالكتب ومحبّوها، يطاردون الكتاب حيثما كان، مكدّسين المزيد منها في زوايا بيوتهم، وصالاتها، والغرف، والمخزن التابع للبيت، في التواليت، وفي المطبخ، وفي غرف النوم، تحت السرير وعلى الرفوف العالية، حيث يُنسى الكتاب هناك، ينام وينتظر سُلّماً ما، أو كرسياًّ ليصعد إليه أحدهم ويتناوله، لكي يُعيد الى صفحاته اليقظة، وبعض الهواء الذي سيمرّ عليه متخللاً سطوره، ومعرّضه للضوء قليلاً، ليطرد عنه بعضاً من العتمة التي التفّت عليه، معيداً له نفوذه، وقوّته المنسيّة في أعالي المكتبة.
حين قرأت مذكرات الكاتب البريطاني الشهير كولن ولسون، صاحب «ضياع في سوهو»، ضعت في حديثه وهو يتحدّث عن مكتبته، التي كانت تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب. كانت المكتبة تزحف في بيته، وتحتل كلّ أركانه، كان شغوفاً بالكتب من كلّ الأصناف، أدبية، روائية، شعريّة، قصصيّة، علميّة، تاريخيّة، فلسفيّة، فنيّة، في الرسم والتشكيل، كتب في علم الاجتماع والميثولوجيا، والأركولوجيا، وحتى في علم الفلك والنجوم والسحر، ومن هنا سر تأليفه للعديد من الكتب، التي تجاوزت المئة كتاب، وأغلبها كان يقع خارج نطاق الأدب. قضّى كولن ولسون حياته وهو يحلم بأن يكون فيلسوفاً، ومفكّراً، وباحثاً في الشؤون الحياتية، فضلاً عن كونه روائياً. قال إنه سيعيش إلى ثلاثمئة سنة، من أجل أن يقرأ الكثير، ولكن أجل الإنسان ليس بيده، حين تحين الساعة، فمات في عمر الثمانين عاماً.
من بين هؤلاء المهووسين بالكتب، كاتب هذه السطور، فمنذ تفتحتْ عيناي على العالم الواسع للكتاب، وأنا في سنّ مبكرة، وقعت صريع هذا الداء، داء مطاردة الكتاب، في حلّه وترحاله، بين المدن والعواصم العربية والعالمية، وبسبب سفري، ورحيلي، وهجرتي، وعيشي في أكثر من بلد، فقدتُ كتباً كثيرة، ولكنني دون شك كنت قد قرأتها في حينها، فالكتاب النادر الذي يضيع مني أحزن عليه، وأحاول أن أعثر عليه مرة أخرى، بغية اقتنائه، وإعادة قراءته، مرة ثانية، وربما ثالثة وليس أكثر. في بيتي تتكدّس الكتب، أحياناً أتبرّع ببعضها، والأخرى أحتفظ بها في مكتبتي الواسعة، والتي بالتأكيد اختنقت منذ زمن بالسطور، لتتدلى منها الحروف، غير أني بين فينة وأخرى، أحاول فك الحصار المطبق عليها، فأسعى لكي أهدي منها، فهناك كتب مخزونة، ولديّ أيضاً مكتبة في غرفة النوم، ورغم هذا، تحاول زوجتي، القارئة هي أيضا، ثنيي عن شراء المزيد من الكتب، التي راحت حروفها وعوالها وخيالاتها وأحلامها تنام معي كزوجة ثانية، زوجة مصنوعة من الأخيلة، والمعاني، والصور، من المفردات، والحروف، والكلمات التي تتشكل على هيئة قلب.
كاتب وشاعر عراقي
“القدس العربي”