لا يمكن مقارنة المؤسسة الشعرية في نهايات القرن التاسع عشر مع المحاولات البسيطة للرواية. فقد طرح الشعر عدة هموم، وبقي السرد غامضا ومحتارا. وأستطيع فرز ثلاثة محاور.
الأول هو الذي جاء في ختام عهد الإمبراطورية العثمانية. وأقرب مثال على هذا النوع هو «غابة الحق» 1865 لفرنسيس المراش. ومع أنها متأثرة بالاشتراكية الفابية (توماس مور ومن سبقه)، تبقى أصداء العصر الوسيط للنثر العربي واضحة، وبالأخص كتابات الغزالي، وفي مقدمتها «المنقذ من الضلال» 1115.
المحور الثاني هو الذي ظهر مع نهاية الانتداب، وأعتقد أنه متأثر بالواقعية الطبيعية، مع فرق واحد وهو التركيز على الأفكار وما يرافقها من مونولوجات وحوار يقف وراءه ملقن هو ذات الكاتب.
المحور الثالث هو الذي تطور خلال فترة الانتداب وعبر عن ممانعة. وهذا الوعي بالآخر – أو العدو ساعد على بناء حوار بين أطراف شاركت به ذات الكاتب. مثلا مذكر أمام مؤنث، وسيف الأخلاق أمام سيف المعرفة، أو رحلة ضلال أعقبها صحوة أمام مجتمع مادي (وهو موضوع شكيب الجابري) الذي اتبع سياسة الممانعة بعدة طرق.
1- اختار أن تجري أحداث رواياته في ألمانيا، لأنها انهزمت في الحرب مثل سوريا، ولأنها ذات أجندة معادية للمستعمر الفرنسي.
2- ابتعد عن المذهب الطبيعي الفرنسي وتبنى الفلسفة العدمية مع مؤثرات واضحة لنيتشه وغوتة. وقد اشتركت هذه المحاور في نقطتين هما من أهم مواصفات بواكير السرد.
الأولى أنها تراوحت بحجمها بين نوفيلا أو قصة طويلة، وإذا كان عدد الشخصيات لا يزيد في أي عمل عن ثلاثة، فإن مسرح الأحداث لم يخرج عن إطار غرفة في فندق أو بيت. وقد خالفت النوفيلا بهذا السلوك الروايات الضخمة ذات الاتجاه الإصلاحي، كما أنها لم تلتزم بالشكل المتفرع الذي يشبه تعدد الوسائط في التكنولوجيا المعاصرة. ويمكن القول إن الرواية في أوروبا لجأت لرسم شخصيات متناقضة مع نفسها ومع ما حولها، في حين أن النوفيلا السورية التزمت بسياسة اللون الواحد. وبهذا السياق يصعب أن تجزم أن السوريين قدموا رواية فنية قبل الستينيات. فهل ما كتبه الجابري وبعده خليل هنداوي هو تنويعات على القصة الأوروبية، وبالأخص أن الأحداث تدور في الغربة، وأكثر من نصف الشخصيات تحمل أسماء أعجمية؟ وإن شئت الحقيقة لم تظهر رواية وطنية قبل كتابات فارس زرزور، الذي وضع حجر الأساس لروايات التحرير، لكن زرزور ضعيف الاتصال بالآداب الغربية، وتلقى كشوفات السرد عن طريق المجددين في مصر وسوريا على حد سواء.
النقطة الثانية وهي عن ذات الكاتب، فالرواية الفرنسية تكلمت عن جغرافيا محددة ولكن يندر أن تجد كاتبا سوريا ولد ومات في المكان نفسه. فخليل هنداوي ولد في لبنان وعاش وتوفي في حلب، لذلك لم يتشكل الوعي الحديث بالمواطنة إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتتقاسم منطقة الشام – سوريا وما حولها هذا الإشكال مع وضع الحدود الحالي بين روسيا ودول الجوار، وهذا يضع بعض الأعمال في فضاء متنازع عليه. ولا يختلف الأمر من الناحية الفنية، فبعض أعمال العجيلي تصنف تحت عدة عناوين: رواية وسيرة ذاتية وأدب رحلات ومقالة مثل كل أدبيات ما بعد الحداثة، ولكن في النهاية ما يهم هو وعيه بموضعه من الذات والآخر.
في كل الأحوال أثرت الجغرافيا السياسية بحركة الكاتب وأسلوبه الفني، ففي نهايات الدولة العثمانية لجأ المثقف السوري إلى مصر أو فرنسا لاكتشاف شخصيته. ولكن خلال الانتداب توزع المثقفون بين باريس للاطلاع على معنى الهوية الوطنية والقومية، وألمانيا لخلق شيء من التوازن مع الحاضر المفقود. وكانت خريطة الصراعات معقدة أكثر من الجغرافيا. فقد احتدم التناقض بين وكلاء ألمانيا وفرنسا من جهة، ووكلاء الرابطة مع الأتراك من جهة ثانية. ولا يسعنا أن نؤكد أن الصدام كان في حقيقة الأمر انعكاسا لمشيئة حضارية، بل اندلع بالوكالة على طول المثلث الحدودي الذي ربط الحجاز ببلاد الشام وتركيا. كان المثقفون السوريون مشتتين بين هذه الجبهات، ويحملون هوية روحية ممزقة لتبعيات إقليمية ناشئة، ولم يتمسك باستقلاله الروحي غير السلفيين، وهم دائما خارج الحسابات بسبب ميولهم. ولكن ما يدعو للدهشة انقسام السوريين بين بلد متوسطي وآخر قاري يشهد صعود النازية، وغيابهم عن بقية البلدان الدافئة ذات التوجه الفاشي كإيطاليا وإسبانيا. وربما وراء ذلك أفكار خاطئة عن علاقة محتملة بين اللاتينيين – لوبي روما ومدريد ولوبي باريس. وعلى الأرجح أن اللجوء إلى ألمانيا كان له هدف مزدوج: فك الحلف مع الفرنسيين واتباع سياسة شد الأحزمة ضد اليهود، وهو ما كانت ألمانيا جاهزة له بشكل واضح.
وفي كل الحالات تعدد السبب المباشر للاتصال مع الحواضر الغربية، فقد كان قبل الانتداب بالقسر (جراء عقوبة النفي والإبعاد – أقله المضايقة)، وبعده كان طوعيا – عند المثقفين، وقسريا – بالنسبة للعاملين في الحقل السياسي. وتجدر الإشارة إلى تآزر السياسة والثقافة في تلك الفترة. وأذكر من هؤلاء نجيب الريس وفارس الخوري. وكان سجن أرواد هو المفضل لاعتقال كبار السياسيين، ولكن لم تنتج عنه في النهاية ظاهرة أدبية محسوسة يمكن أن نسميها «أدب السجن السياسي»، وكل ما وصلنا منه عدد محدود من القصائد الحماسية، مع أجزاء من مذكرات ظهرت في وقت لاحق وتدخل ضمن «أدب السيرة». وعلى ما يبدو أن المؤثرات الروسية لم تفرض نفسها إلا بواسطة الموجات المرتدة. وتحقق ذلك بعد عام 1956، بتعبير آخر بعد ذوبان الجليد ونهاية ستالين. وإذا كان لا بد من تفسير، أعزو ذلك ببساطة لتوجه الرحلات العلمية. حتى إن كاتبا من وزن ميخائيل نعيمة تلقى علومه في المعهد الروسي في لبنان، ولكن هاجر لاحقا إلى أمريكا.
ولا يفوتني هنا التذكير بترجمة سامي الدروبي لدستويفسكي عن طريق طرف ثالث وهو اللغة الفرنسية٭٭ ولولا المبالغة لقلت إنه عرّب دوستويفسكي وأصّل شخصياته. وهذا بالضبط ما قام به شكيب الجابري في «نهم»، فقد أعاد إحياء فيرتر من خلال شخصية إيفان كوزاروف الناطق بلغة عربية بليغة وفصيحة. وتكرر ذلك مع فرنسيس المراش الذي حاول إنتاج نسخة عربية من زرادشت نيتشه. فكلاهما حرص على تقديم آراء نبوئية بشكل مواعظ وخطابات، وكانت شهوة النبوة، أو على الأقل السيرة الروحية للنبي هي المحرك الأساسي في الكتابين.
٭٭اتسمت العلاقة بين روسيا وسوريا بكثير من الالتباس والغموض. في حين كان الطرفان حليفين في السياسة وفي الشؤون العسكرية لم يشجع التعليم الرسمي ولا الإعلام على انتشار اللغة الروسية.
كاتب سوري
“القدس العربي”