يبقى السؤال السوري الأهم في ظل الزلزال: هل يصلح النظام السوري لأن يكون جهة صالحة لاستقبال المساعدات الدولية؟ الجواب البديهي والقاطع، هو أنه لا يصلح. لا يصلح قاتل السوريين لأن تتوجه مساعدات إغاثة قتلاه إليه. هذا النظام قصفهم ودمر مدنهم، وأخفى عشرات الآلاف من المعتقلين في سجونه، فكيف له أن يغيثهم؟
لكن من المغيث؟ هيئة تحرير الشام، أم الجماعات المنبثقة عن “داعش”؟ الزلزال جاء ليشطب وجوهنا بأسئلة جديدة. بعضهم يقول إن جماعة “الخوذ البيضاء” قد تكون الجهة المعتمدة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فيما يتولى الهلال الأحمر السوري المهمة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. والبعض الآخر ابتدع عبارة “العقوبات الذكية”. القصة أعقد من هذا التبسيط، فالحاجة الهائلة للإغاثة تتطلب دولاً لتنظيمها. وفي ظل الفساد الذي ينخر كل مفاصل الإدارة على طرفي الجبهة، فإن المساعدات ستشكل طموحاً للنظام ولخصومه للاستثمار بالمأساة.
بدأ لعاب النظام يسيل، فهو أعلن من جهة أن المساعدات ستوزع على جميع السوريين، ومن جهة أخرى أنه الجهة السورية الوحيدة المخولة استقبال المساعدات! وفي هذا الوقت تولت آلة الممانعة الإعلامية الترويج لضرورة رفع العقوبات عن النظام لكي يتمكن من استقبال المساعدات!
هذا النظام الذي سبق الزلزال في دفع السوريين نحو المأساة، لن يتردد في توظيف الكارثة. ومن المؤكد أن هذه الحقيقة سبق أن اختبرها العالم عشرات المرات. السوريون المنكوبون إذاً أمام استعصاء جديد. المساعدات لن تتدفق على نحو ما ستتدفق إلى تركيا. الفارق سيكون واضحاً، على رغم أن المأساة واحدة، والزلزال واحد. هذا ما بدأ يظهر أصلاً، على رغم بطء عمليات الإغاثة على طرفي الفالق.
ستتكشف عمليات الإغاثة عن تمييز في وصول المساعدات، فالعالم الذي اكتفى بمحاصرة النظام السوري من دون إسقاطه سيجد نفسه عاجزاً أمام شبهة التمييز هذه، ومصدر هذا التمييز هو تماماً معادلة الحصار من جهة، وطلب التعايش معه من جهة أخرى، إلى أن جاء الزلزال وكشف الجانب المأساوي لهذه المعادلة.
المنطقة التي أصابها الزلزال شديدة التعقيد، فخطوط الزلازل فيها متداخلة مع احتمالات حروب لطالما حفل بها القرن المنصرم. الإبادة الأرمنية، قبل أكثر من قرن، شهدت فصلها الرئيسة على هذه الفيالق والصفائح المرتجة، وولادة دولتي البعث ليست بعيدة عنه، وصولاً إلى دولة الخلافة “داعش”. قد يكون العلم عاجزاً عن استباق الزلازل، أما الزلازل الموازية، فلا يبدو أن أحداً يملك الرغبة في استباقها.
التعامل مع وجود نظام من نوع النظام السوري بوصفه أمراً واقعاً، لم يعد ممكناً في ظل آليات الحصار. احتمالات أن تنفجر العقوبات في وجه الناس احتمال راجح، ولنا بتجربة العقوبات التي كان من المفترض أن تستهدف نظام البعث في العراق في العام 1991 والتي أصابت العراقيين وأبقت على نظام البعث نموذجاً. وها نحن اليوم نبحث عن سبيل للإغاثة في ظل العقوبات!
استحضر في ظل هذا الانسداد تعبير “العقوبات الذكية”، لكن النظام السوري سيكون أذكى في التفافه على هذه العقوبات، ومرة أخرى ستتكرر المأساة، وسنعايش وقائعاً من السطو على مواد الإغاثة، وعلى المعدات المطلوبة لرفع الأنقاض.
سيجري كل ذلك مع جهود سيبذلها محور الممانعة للضغط باتجاه التعايش مع النظام السوري. الزلزال فرصتهم، وآلاف القتلى والجرحى سيمثلون وقوداً لخطاب كسر الحصار لـ”تسهيل الإغاثة”. والحال أننا جميعاً سنكون أمام معضلة أخلاقية، فالأولوية، كل الأولوية، للإغاثة، حتى لو أراد النظام كسر الحصار والتخفف من العقوبات، وهو باشر محاولاته مند اللحظة الأولى لوقوع الزلزال. واليوم وبعد مرور أربعة أيام على الكارثة، نجد أنفسنا أمام بطء مخيف في عمليات الإنقاذ، لا سيما في مناطق النظام، لا بل أمام انحسار في التغطية الإعلامية ناجمة عن علاقة متعسرة بين أجهزة السلطة وبين وسائل الإعلان، بحيث أننا لم نعاين دمار اللاذقية على نحو ما عاينا الدمار في محافظة إدلب، ناهيك عن دمار المدن التركية.
الأولوية للإنقاذ وللإغاثة، مهما كان الثمن. السوية الأخلاقية المتدنية للنظام أمر يمكن تأجيل التعامل معه، والبناء عليه. مساعيه لكسر الحصار يجب أن لا تكون عائقاً أمام إيصال المساعدات. ثمة أبنية مدمرة يرزح تحتها أحياء. هؤلاء لطالما كانوا ضحايا النظام، وهم اليوم ضحايا القدر. قانون قيصر، وحزم العقوبات، من المفترض أنهم صمموا لحمايتهم، واليوم يحتاج هؤلاء من العالم إغاثة من نوع آخر.
“الحرة”