لن تكون الدول في شرق المتوسط بعد الزلزال أبداً كما كانت قبله. على مدى البرزخ البري والبشري والحضاري بين شواطئ البحر المتوسط في الغرب وشواطئ الخليج العربي في الشرق، ستصبح الدول بعد الزلزال مغايرةً تماماً في كل مستوياتها. الزلزال الجيولوجي العنيف ضربها جميعاً وتسبّب في زلزالٍ اجتماعي وآخر سياسي لا يمكن حصر تداعياتهما في أمد قصير. من محور الزلزال الجيولوجي في كهرمان مرعش في جنوب تركيا، اندلعت ألوف الهزات والارتدادات على مدى ثلاثة أيام في عشر ولايات تركية في جنوب البلاد ووسطها، وفي شمال سوريا وغربها، وبوتيرةٍ أخفّ في شمال غرب العراق، كما في شمال لبنان وساحله الغربي، وفي شمال شرق فلسطين المحتلة أيضاً.
التفاوت في فعالية الزلزال أنتج تفاوتاً في تداعياته، لكنه أضحى هاجساً مقيماً في كل البلدان المشرقية التي ضربها، لاسيما تركيا وسوريا، حيث فعاليته كانت الأقوى والأسوأ، إذ بلغ عدد القتلى فيهما نحو 30 ألفاً والجرحى عشرات الآلاف والمتضررين أكثر من 25 مليوناً. في مجمل وجوه هذه المشهدية الزلزالية التي عصفت ببلدان شرق المتوسط، يمكن رصد الواقعات والتداعيات والتطورات الآتية:
ـ تدمير مظاهر ومرافق العمران وتهجير السكان على جانبي الحدود بين تركيا وسوريا.
ـ انسداد المعابر بين تركيا وسوريا، ما حمل المهجّرين الأتراك على التوجّه شمالاً في عمق البلاد، والمهجّرين السوريين على التوجّه جنوباً في عمق البلاد أيضاً، ما أدّى ويؤدي إلى مزيدٍ من تدفق المهجّرين السوريين إلى لبنان والجوار.
ـ تضييق عمليات الإنقاذ والإسعاف في مناطق «الحكم الذاتي» التي يديرها تنظيم «قسد» الكردي المناهض للحكومة المركزية في دمشق، وذلك بإيحاء من قيادة القوات الأمريكية المتمركزة في مناطق شرق الفرات، وتلك المسيطرة على مناطق آبار النفط في غرب محافظة دير الزور، كما في منطقة التنف على الحدود بين سوريا والعراق.
الزلزال الجيولوجي العنيف الذي ضرب بعض بلدان شرق المتوسط، حمل معه زلزالاً سياسياً وآخر اجتماعياً لا يمكن حصر تداعياتهما في أمد قصير
ـ امتناع الولايات المتحدة، بادئ الأمر، عن تخفيف العقوبات والقيود الاقتصادية التي تفرضها بموجب «قانون قيصر» على سوريا، كما على الأطراف التي تتعامل معها أعاق، بل عطّل أحياناً عمليات النجدة وإيصال المساعدات الإنسانية المرسلة إلى المناطق المتضررة.
ـ بعد اشتداد حملات الاستنكار العربية والإسلامية على الموقف الأمريكي العدائي وغير الإنساني، قامت واشنطن بإبداء بعض المرونة، بأن علّقت العقوبات والقيود المفروضة بموجب «قانون قيصر» لمدة 180 يوماً فقط، مع تأكيدها على استئناف العمل بها لاحقاً.
ـ قيام مؤسسات رسمية وشعبية في لبنان والعراق بتجاوز العقوبات والقيود الأمريكية المفروضة على سوريا، بإرسال شتى أنواع المساعدات الإنسانية واللوجستية إليها ما أدى إلى كسرٍ جزئي للحصار الأمريكي المفروض عليها، وأفسح المجال لتوسيع حجم الكسر بما يؤدي إلى تقليص مفعول العقوبات والحصار.
هذه التطورات والمبادرات الحاصلة والمرتقبة ستنتج بدورها تحوّلات وازنة على النحو الآتي:
أولاً: تعاظم مبادرة سياسية كانت أطلقتها الجزائر، ثم تبنّتها مصر وتدعمها تونس ويواكبها لبنان هدفها، رفع الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على سوريا منذ 12 عاماً بقرار من جامعة الدول العربية، اقترن لاحقاً بعقوباتٍ فرضتها الولايات المتحدة وشاطرتها في التنفيذ دول أطلسية في غرب أوروبا.
ثانياً: تسريع التعاون بين إيران والعراق دعماً لسوريا على الصعيدين الإنساني والاقتصادي.
ثالثاً: تصاعد دعوة صارخة أطلقتها قوى شعبية متعددة في العراق والأردن ولبنان وفلسطين، لدفع حكوماتها وسلطاتها إلى التواصل والتعاون بفعاليةٍ أكبر مع الحكومة المركزية في دمشق، بغية مواجهة تداعيات الزلزال على شتى المستويات.
رابعاً: انطلاق حملات شعبية ضاغطة على الحكومات العربية، مطالبةً بوجوب المبادرة إلى عقد مؤتمر للتعاون الاقتصادي والإنمائي، وإدارة الكوارث بين دول شرق المتوسط العربية، أي لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر، وتنظيمات المقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى تركيا أيضاً (بفعل ضغوط قوى المعارضة فيها) لمواجهة التحديات والتحوّلات الناجمة عن الزلازل، بما يضمن مواجهة تحدياتها المرتقبة.
خامساً: يُخشى، في المقابل، قيام الولايات المتحدة بتعزيز دعمها الشامل لـِ»إسرائيل» من جهة، ومن جهة أخرى للتنظيمات الإرهابية الناشطة ضد سوريا وحكومتها المركزية، كما ضد إيران وأطراف محور المقاومة بقصد إضعافها وتشتيت قواها.
سادساً: لا يُستبعد أن تؤدي هذه الجهود المعادية، سالفة الذكر، إلى وقف المساعي والمفاوضات الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، تحوّطاً من أمريكا و»إسرائيل» لإمكانية قيام إيران، نتيجةَ رفع الحجز عن مليارات الدولارات من أموالها المجمّدة في الولايات المتحدة وحليفاتها، إلى استعمالها في تعزيز قدراتها الذاتية، كما في دعم سوريا مالياً وعسكرياً، وكذلك غيرها من أطراف محور المقاومة المناهضة لمخططات أمريكا وسائر دول حلف شمال الأطلسي (الناتو).
سابعاً: يُرجّح قيام روسيا بتطوير سياستها الخارجية ومخططاتها الاستراتيجية باتجاه المزيد من التعاون والدعم الاقتصادي والعسكري لأطراف محور الممانعة والمقاومة، خصوصاً في مواجهة مخططات الولايات المتحدة و»إسرائيل» في منطقة شرق المتوسط.
كل هذه التداعيات والتطورات والتحوّلات تشير إلى أن دول شرق المتوسط مُقبلة على توليف مشهدية مغايرة تماماً لما هي عليـه اليوم.
كاتب لبنان