عبارة «لكل مقام مقال» استنزفت ولعب بها الصبيان حتى أفقدوها رونقها، واليوم يتقاذفها المدرسيون والنقاد كالكرة في كل اتجاه، بل إن المقام ليستعمل في سياق لساني حديث استعمالات ما أنزل الله بها من سلطان. فقد داخلها شيء كثير من المعاني العامية، وقليل من المعاني البلاغية التي لم تستحكم في ذهن أصحابها فجمع المقام ما لم تجمعه عبارة أخرى اصطلاحية بلاغية ونقدية وتداولية.
في هذا المقال سندخل إلى المقام دخولا مقلوبا بواسطة عنصر من العناصر التي تؤلفه، وهي الشخص وعلاقاته بمن يتعلق به الكلام. فحين تقول: (أحبك) فإن هذه العبارة تتحدد بالشخص وبعلاقتك به في ذلك الوقت الذي خاطبته فيه بتلك العبارة. فإن كانت قيلت العبارة لابنتك الصغيرة، فإن (أحبك) تعني شيئا لا تعنيه حين يكون المقصود بها حبيبة، أو زوجة، أو أما، أو أبا، أو ابنا أو عما أو خالا أو غير ذلك. وتختلف باختلاف علاقتك النفسية بابنتك في ذلك الوقت فـ(أحبك) وهي تقال لابنتي الغاضبة يمكن أن تخفف غضبها، لكن يمكن أيضا أن تسعر نار ذلك الغضب وكل ذلك بحسب اهتزاز وجدانها وتلاعب مركبته في تلك اللحظة الطافحة بالمشاعر الهائجة.. لذلك تفهمها عند الهياج والغضب (أكرهك) لأن نفسها العصية على السلام تقول لها (لو كان أبوك يحبك ما صنع بك ما صنع، فهو إذن يقول (أحبك) وفي عمقه (أكرهك).
المقام الذي يعني هنا العلاقات بينك وبين ابنتك في تلك الوضعية التواصلية بزمانها ومكانها وبوجدانها وبسياقاتها التي ولّدت الكلام، يمكن أن يسلب دلالة الكلام، بل ويقلبه إلى نقيض معناه الأصلي. المقام له سلطة كبيرة في أن ينفينا عن كلامنا الذي قصدناه بمجرد أن الطرف الثاني لم يطاوعنا، أو لم «يتعاون» معنا كما يقول غرايس. كي تقول (أحبك) وتصل (أحبك) أو (أعشقك) أو (أهيم بك) على الشخص أن يتقبل منك تلك الجملة في وضعية تواصل نفسية وحميمية متعالية بالكلام، مصدقة له نافخة فيه شيئا من قداسة روح من قال الكلام. كي تقول (أحبك) وتصل إلى من تحدثه بها على أنها تعني (أكرهك) و(أمقتك) أو (أقتلك) أو (قضيت عليك) فعلى الشخص الذي يستمع إلى تلك الجملة أن يكون في وضعية يشيطنك فيها ويكره الوضعية الكونية التي جمعتكما في مسار علاقة قدرية، كالأبوة والبنوة والزواج أو الأخوة، وغير ذلك التي لا تليق بها السنن الاجتماعية والثقافية والعرقية، ولا تليق بها العبارات العاطفية التي تتيح لك أن تقول (أحبك).
في نصوصنا وفي تحليلنا لتلك النصوص يغيب الشخص الواقع في هامش المقام الحاضر فيه فتستبد بالمعنى محاور وتنزع من الأطراف حقوق هي لها في بناء الوضعية النصية الجديدة.
لكن (أحبك) على بساطتها لا يمكن أن تقال لأي كان في أي وضعية، بل إنها قد تكون غير شرعية أو ممنوعة، فعلى سبيل المثال ليس من المقبول أن يقول المحامي للقاضي (أحبك) ستكون إخلالا بنواميس العلاقة الوظيفية التي تجمعهما. ولا يمكن أن يقولها المتقاضي للقاضي، بل لا يمكن أن يقولها أحد المتقاضيين للثاني، فليس للشخص أن يقول ما يريد لمن يريد في وضعيات تجمعهما. لم يقل نص قانوني وشرعي أن المتقاضي أو القاضي أو المحامي ليس من حقه أن يصدر أو تُصدر له جمل عاطفية في قاعة المحكمة، لكن العرف هو ما لا يسمح بذلك. هذا العرف نفسه يمكن أن يمنع عنك أن تقول لزوجتك وأمام أبيك المحافظ (أحبك). لم يمنعنك أبوك من أن تقول لزوجتك (أحبك) بل هي أصلا لا تقبل هذه الكلمة في هذا المقام وبحضرة شخص بعينه، هي التي تسعدها في وضعية تواصل أخرى، هي تبدو هنا مما يخدش الحياء. لكن العبارة نفسها يمكن أن تكون مقبولة لو تغيرت النواميس الاجتماعية وتبدلت العقليات وقالها ابنك لصديقته في حضرتك وفي حضرة أمه. ستقبل ذلك بدعوى تغير العقلية. لن يشعر ولدك الذي يقول لصديقته (أحبك) بأي حرج أو تغيير، ولن يشعر بأنه «تجاوز حده» ولن يحمر وجه صديقته أو يتلون ولن تغمزه أن اُحتَرِم المقام.. «لازم فعل الكلام» أي رد والدك أو ردك أنت على (أحبك) ستكون مما تفكر فيه أو يفكر فيه ابنك.
بعض الإجحاف يحدث حين نربط المقام بالعلاقة الثنائية بين القائل ومن قيل له وتركيز عدسة الكاميرا عليهما ووضع بقية الأطراف الحاضرة في المقام في العتمة، بدعوى أنهما غير مقصودين بالكلام. في ذلك تعمية أو تمويه وتوجيه لمفهوم المقام من وجهة نظر جزئية. في البراغماتية الحديثة يشمل المقام جميع الحضور والعلاقات التي بينهم، إذ يُعد الأب والأم مثلا، وهما طرفان لا يقصدهما الخطاب طرفين مؤثرين لا في الرسالة في ذاتها، بل في بناء الوضعية التي أنتجتها ولا توجد رسالة تفهم من غير نية بانيها في بنائها.
هناك شيء تقتله البلاغة القديمة وتقيم له التداولية الحديثة اعتبارا هو ما أسميه بناء الوضعية التي قيل فيها الكلام أو جرى فيها التحاور. تركز البلاغة القديمة على ما يمكن عده المعني المباشر بالكلام أي المتكلم – السامع، وهذا له ما يبرره بأنهما الطرفان المركزيان في التواصل أو الرسالة، لكن ما قول البلاغة أو الاتجاه اللساني الذي يقصر الرسالة في طرفيها عن كلام يقوله المتكلم لمستمعه وهو لا يعنيه، لكن يعني طرفا آخر حاضرا في المقام؟ لقد اختزلت بعض الأقوال الشعبية ذلك في مثل (الكلام عنك والمعنى لجارك). ولو عدنا إلى (أحبك) يقولها الشاب لزوجته بحضور والديه، فمن الممكن أنه لا يعنيها بالكلام بل قد تكون (أحبك) دالا لمدلول جديد لا يمكن الظفر به، إلا إذا أقحمنا الأطراف الأربعة في الخطاب فمن الممكن أن يكون قوله لها في سياق سيناريو أو مسرحة موقف يتمثل في أن الوالدين يظنان أن بين الزوجين خلافات خفية؛ (أحبك) تضحى رسالة إليهما تعني «اطمئنا، فنحن في الحرير»؛ وفي ذلك رسالة طمأنة حتى إن كان الواقع عكس ذلك. (أحبك) يمكن أن تقال علنا لا لقصر الرسالة على من هي موجهة له، بل يمكن أن يكون الجمهور المقصود أو جزء منه مقصودا وكلما قصد تغيرت الرسالة وعنت شيئا إضافيا لـ(أحبك) أو شيئا مختلفا عنه.
كثير من الأدب القديم (شعرا أو نثرا) الذي يُدرس اليوم لا يبالي بما يحف بالسامع الذي كان حاضرا لكنه كان يقع على هامش دائرة الخطاب المباشر بين المتكلم والمستمع الطرف، بل يقصر النظر على المستمع المباشر وفي ذلك بتر لجزء من الدلالة. فعلى سبيل المثال فإن نصوصا شعرية تقال على الملأ كالمدح أو كالفخر في محافل واسعة يختلف معناها إن نحن وضعنا في الاعتبار نوع الجمهور الذي قيلت فيه القصيدة؛ فإن يمدح شاعر كالمتنبي بقصيدة، سياسيا مثل سيف الدولة قبل خوض الحرب أمام جيش يخشى النزال وقلوب أفراده شتى.. ليس كأن يمدحه بها بعد النصر، وأن يمدحه بعد النصر ناسبا الفعل إليه لا إلى جنده يمكن أن يثير حفيظتهم ويجعلهم ينخرطون في رد فعل نفسي، إذ يشعرون بأنهم كانوا خارجين عن دائرة الاعتراف بالجميل.
في نصوصنا وفي تحليلنا لتلك النصوص يغيب الشخص الواقع في هامش المقام الحاضر فيه فتستبد بالمعنى محاور وتنزع من الأطراف حقوق هي لها في بناء الوضعية النصية الجديدة. إن توسع دائرة من هم في المقام من الشخوص وعلاقاتهم تعني على صعيد المشهدية التصويرية، أن تصعد بكاميرا إلى أعلى موضع يستطيع أن تصور منه الجميع بكل تفصيل وجوههم ونفوسهم وصمتهم وصراخهم ثم تشاهد بعد ذلك المقطع بجميع هذه التفاصيل.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
“القدس العربي”