يعقد المؤلف مقارنات شديدة التركيز بين تدبير السياسة الخارجية الأميركية خلال ولايات جونسون ونيكسون ثم كارتر وريجان وبوش الأب. وفيما يُتهم جونسون بتصعيد التورط العسكري الأميركي في فيتنام ـ يرى عند الثنائي نيكسون ـ كيسنغر ـ مهارة أفضت إلى التعويض عن الهزيمة في فيتنام من خلال إنجازات حققها الثنائي المذكور في الصين والشرق الأوسط وفيما تشابهت حقبة كينيدي وريغان في طرح شعارات رنانة وتصعيد الجهد العسكري فقد تميزت حقبة بوش الأب بفريق حاذق منضبط في إدارة السياسة الخارجية تبدت مواهبه وخاصة في ملابسات حرب تحرير الكويت. وما زال الحوار.
بل هو الجدال بل السجال مستمرا في أميركا حول الإجابة عن السؤال الجوهري الذي يقول: ما هو السبيل القويم والمجدي إلى ممارسة قوة الدولة الكبرى وتفعيل تأثيرها في عالمها وعصرها؟ تبدو أهمية الإجابة عن هذا السؤال في ضوء النظرة والآمال بالتغيير في السياسة الأميركية خاصة في ضوء تولي أوباما الذي عزز من هذه الآمال ويأتي الكتاب ليشكل نصائح له على غرار نصائح مكيافيللي لأمير فلورنسا في كتابه «الأمير».
في معرض الإجابة عن السؤال السابق يوضح مؤلف هذا الكتاب في سطور الفصل الثالث أن هناك نهجين أو أسلوبين لممارسة القوة: أولا أسلوب الضغط والقسر والمجابهة باستخدام ما يسع الدولة الكبرى من قدرات وموارد وطاقات تبدأ بالضغط السياسي وقد تصل إلى المجابهة الاقتصادية، بل يتصاعد بالعنف إلى استخدام القوة العسكرية. هذا هو الأسلوب الذي دعا إليه ساسة أميركيون من أمثال دين اتشيسون وزير خارجية الرئيس ترومان بعد الحرب العالمية الثانية وإلى مطالع الخمسينات.
ثانيا وفي المقابل هناك أسلوب الحوار والعمل على حل المشكلات بالتفاوض واستخدام القيم والمثل العليا لأميركا في الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان من أجل التأثير على سائر الأمم والشعوب ـ وهو الأسلوب الذي سبق ودعا إليه سياسي ـ دبلوماسي أميركي مخضرم هو جورج كينان الذي يرتبط اسمه بنظرية «الاحتواء» وبمعني تجنب المجابهة بالعنف مع الخصم. والأفضل محاصرة هذا الخصم وتطويق نفوذه بالجهود الثقافية والإعلامية. وحتى بالقواعد العسكرية وبناء المحالفات.
ورغم أن المؤلف يميل إلى أسلوب استخدام كل عوامل القوة المادية وربما العسكرية لتحقيق مصالح أميركا.. ورغم أنه يتحفظ كثيرا إلى درجة الرفض وربما الاستهانة على أهمية استخدام ما يصفه البروفيسور جوزيف ناي من جامعة هارفارد بأنه القوى «الناعمة» بمعنى قوة النموذج الأميركي الذي يتجسد في قيم الديمقراطية والإبداع والفن ومستوى التعليم، رغم هذا كله.
فلا شك أن المؤلف لا تغيب عنه ورطة أميركا في المستنقع الآسيوي في فيتنام حين اقتصر قادتها من كينيدي إلى جونسون خلال عقد الستينات على استخدام القوة العسكرية فكان أن دفعت ثمنا باهظا وغرما فادحا يقول المؤلف: كنت أيامها قد بلغت الثلاثين وتوليت منصب مدير التخطيط السياسي في مكتب وزير الدفاع الأميركي.. وكنت من المدنيين الأوائل في دوائر البنتاغون الذين كانوا يدعون إلى عدم أمركة الصراع في فيتنام وبدء مفاوضات مع الأطراف المعنية في تلك المنطقة.. وفي المقابل ظل الرئيس جونسون يزيد من التورط العسكري الأميركي لدرجة أن كاد يضع كل قوة أميركا وهيبتها في تلك الساحة الآسيوية.
ثم يخلص المؤلف إلى أن يقول: وهكذا فمع نهاية ولاية جونسون (1969) كانت القوة الأميركية قد غرقت تماما في محيط فيتنام.
الثنائي العجيب
من هنا أتيحت الفرصة لموهبة اثنين من ساسة أميركا المحدثين كي يظهرا ما تمتعا به من حنكة وضحلة سياسية.. هما ريتشارد نيسكون ومستشاره هنري كيسنغر.. كانا قد وصلا ـ كما يوضح كتابنا ـ إلى أعتاب البيت الأبيض فيما كانت قوة أميركا في حال من التصدع والانهيار.
ومن أجل التعويض عن هذه الخسارة. عمد الاثنان إلى إقامة مسرح من الدبلوماسية (بتعبير المؤلف) يقدم عرضا متواصلا بغير توقف حافلا بالإثارة صوتا وصورة إذ كانا يتصوران أنه لو استطاعت الدبلوماسية أن تجذب اهتمام العالم فمعنى ذلك أنهما على طريق النجاح في استعادة قوة أميركا التي ضاعت وتبددت في فيتنام.
ورغم أنهما تركا قضايا كثيرة بغير حلول جذرية إلا أنهما نجحا ـ كما يرى المؤلف ـ في إنجاز الكثير في هذا المضمار.. رغم ما عمدا إليه من أساليب المبالغة.. والإبهار.. و«البروباجاندا» في تضخيم الإنجازات التي حققاها.. وكان في مقدمتها إنجازات رئيسية ثلاثة هي:
(1) الافتتاح ـ الدراماتيكي كما يصفه المؤلف ـ للعلاقات مع الصين.
(2) المحادثات الجسورة بشأن الحد من الأسلحة مع موسكو ـ السوفيتية.
(3) التسوية.. المرموقة (تعبير المؤلف أيضا) بين مصر وإسرائيل في عام 1973.
التعويض عن الهزيمة
وأيا كان تقييمنا لهذا الرأي.. فقد يفيد أن نورد في السياق نفسه تعليق مؤلف الكتاب الذي يقول فيه: إن الانفتاح على بكين (الصينية) أعطى الولايات المتحدة إمكانات تتفوق بها على كل من روسيا والصين.
كما أن أساليب (وربما ألاعيب) الكر والفر التي مارسها كل من نيكسون وكيسنغر في الشرق الأوسط المائج بالاضطراب أدت إلى ترسيخ دور أميركا بوصفها المفاوض الوحيد من أجل السلام المقبول من جانب كافة أطراف المنطقة.
والحاصل ـ يؤكد الكتاب ـ أن فريق نيكسون ـ كيسنغر استطاع أن يرسي قاعدة جديدة على الساحة الدولية أفضت إلى شعور بأنه لا يمكن الاستغناء عن واشنطن ودورها.. وأتاحت من ناحية أخرى التعويض عن الهزيمة التي ما لبثت واشنطن أن منيت بها عام 1975 على أرض فيتنام.
وعلى أساس هذه القاعدة.. يوالي كتابنا استعراض تطورات صنع السياسة الخارجية في حقبة كارتر الذي يصفها بالحيرة وربما الارتباك حين كانت مقاليد السياسة الخارجية موزعة ما بين نظريات استاذ جامعي من كولومبيا (بريجنسكي) ومحام شاطر من وول ستريت (سايروس فانس ـ وزير الخارجية).
أما رونالد ريغان فكان محظوظا إذ بدأت حقبته تشهد بوادر التصدع في الكيان السوفييتي على عهد جورباتشوف.
مع ذلك يرى المؤلف أن ريغان ارتكب عدة أخطاء في مجال السياسة الخارجية: ولقد استبدت به فكرة أن النفوذ السوفييتي ـ والفكر السوفييتي يمكن أن يجدا لهما منفذا في منطقة أميركا الوسطى، لهذا لم يتورع ريغان عن استخدام قوة أميركا العسكرية في تلك المناطق على شكل مغامرات وعمليات افتقرت إلى منطق الأشياء في بعض الأحيان.
وشهدتها مثلا السلفادور (دعم عصابات الكونترا بانفاق 4 مليارات دولار من خزينة أميركا) ونيكاراجوا (دعم الانقلاب على حكم الساندا نستا الوطني) هذا ناهيك عن مغامرات ريجانية عسكرية في لبنان انتهت بكارثة مصرع 241 من جنود المارينز.. وأخرى في قصف ليبيا عام 1986.
بين كيندي وريغان
ومرة أخرى يعلق مؤلف الكتاب قائلا (ص 61): ـ بالنظرة إلى الوراء نستطيع أن نرى أن ريغان بدا أقرب ما يكون إلى جون كينيدي: شعارات طنانة وزيادة طائلة في ميزانية الإنفاق العسكري تهدف إلى وقف توسع مفترض من جانب الاتحاد السوفييتي ويؤدي ذلك ردود فعل سلبية من كل أنحاء العالم.
ويحكي المؤلف عن ذكرياته أيام عمله كاتبا مختصا بالشؤون الخارجية والدبلوماسية يقول: أجريت أكثر من حديث صحفي نشرته نيويورك تايمز مع الرئيس ريغان وقد اقنعني وقتها بقوله إنه يتعمد اتخاذ موقف متصلب للغاية لكي يتاح له فرصة الوصول إلى حلول وسط.. وبعدها.. يضيف المؤلف أيضا.. فسر لي المسألة كبير معاوني ريغان وهو جيمس بيكر قائلا:
الرئيس كان تلميذا لا يحصل في الدراسة سوى أدنى الدرجات.. ومع ذلك فلم أكد أشهد في حياتي شخصا أقدر منه على فن المساومة. في نفس السياق نلاحظ قدرا لا يخفى من إعجاب مؤلف الكتاب بالرئيس بوش ـ الأب وبالفريق المعاون الذي عمل معه في مجال السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ونلاحظ أيضا أن هذا الإعجاب يعود إلى ما يراه البروفيسور ليزلي جيلب بأنه قدرة فريق بوش ـ الأب على كبح الجماح أو ممارسة الانضباط الصارم بعيدا عن سلوك التهور أو غرور القوة أو اندفاع التصرف.
تطورات الحوادث
يقول المؤلف: لقد تجلى هذا الحذر والانضباط خلال حرب الخليج الأولى (حرب تحرير الكويت) فلكي يطردوا جيش صدام حسين من الكويت لم يتعجلوا الأمور بل ظلوا في حالة من التأني أولا لكي ينالوا مباركة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
وثانيا لكي ينجز معاونو بوش بناء ائتلاف مرموق من الأطراف المتحالفة.. وأيا كان الرأي في هذا الموقف فالحاصل أنهم استطاعوا الحفاظ على أركان هذا التحالف وقد ضم أطرافا عربية وأمكنهم تأكيد دور الولايات المتحدة بوصفها قوة دبلوماسية لا يمكن أن يستغني عنها العالم من أجل صنع وإقرار السلام.
الأخطاء بيوغسلافيا والصومال
ليس معنى هذا أن كان فريق بوش الأب ناجحا على طول الخط.. بالعكس: فاتهم أسلوب التفاعل السليم والإيجابي مع مشاكل كل من يوغسلافيا والصومال بدعوى إنهم لم يلمحوا مصالح أميركية واضحة في هذين البلدين.. ولا استرعت اهتمامهم ـ للأسف ـ مشاهد القتل وسفك الدماء والصراعات العرقية ولا جموع البشر الذين دفعتهم الأحداث الدموية إلى مصائر اللجوء والتشريد.. ولا تصوّر فريق بوش أن هذه الحروب الأهلية الضروس يمكن أن تمثل ساحات لتفريخ الإرهابيين في يوم من الأيام.
وعندما غربت شمس بوش ـ الأب. وتحول فريقه السياسي إلى حياة التقاعد.. كانت سنوات التسعينات قد بدأت وكانت الحرب الباردة قد وضعت أوزارها.. وكان الخصم السوفييتي العتيد قد زال من الوجود. وكانت الساحة الأميركية تستعد لاستقبال ولاية بيل كلينتون وجاء هذا كله مواكبا لدعوة يتوقف عندها مليا مؤلف هذا الكتاب.
إنها دعوة «نهاية التاريخ» يعلق المؤلف قائلا في مستهل الفصل الرابع من الكتاب: قالوا بأن التاريخ قد انتهى لأن أميركا أصبحت ببساطة قادرة على أن تُملي صفحاته وحولياته كيفما تشاء. لكن الأحداث والتطورات جاءت بمقدرات معارضة تقول بدورها: إن التاريخ انتهى، لأن ثمة قوى عديدة.. استطاعت أن تلحق بأميركا في مسيرة التطور والقدرة ومن ثم فلا تستطيع أميركا أن تنهض وحدها بمقاليد المسؤولية عن أمور العالم الذي نعيش فيه.
هنا يتبنى الكاتب مقولة أن التاريخ لم يشهد نهاية وأن القوة في عالمنا تتخذ شكل الهرم.. تتسع قاعدته لتضم، أو تكاد تضم كل دول العالم (بلغت ـ كما أسلفنا من قبل 192 في عضوية الأمم المتحدة). لكن مستويات الهرم لا تلبث تضيق كلما اقتربنا من القمة الذي ما زال المؤلف يتصور أنه يتربع عليها بلد اسمه الولايات المتحدة.
والمسألة ليست مجرد قوة عسكرية.. ولكنها تجسد شبكة متكاملة ومتعددة الخيوط من عوامل القوة التي قد تبدأ بتكنولوجيا الحرب وقد لا تنتهي عند سلسلة الغذاء.
الصفحات: 334 (متوسط)
الكتاب: قواعد القوة في السياسة الخارجية
تأليف: ليزلي جيلب
عرض ومناقشة : محمد الخولي
الناشر: هاربر كولنز، نيويورك
البيان