المستقبل
اكتست احتفالات عيد العرش في المغرب هذا العام (30 تموز 2009) طابعاً خاصاً، قياساً لسابقاتها من السنوات، فقد انصب الاهتمام وطنيا، وإلى حد ما دوليا، على إنجازات الملك الجديد بعد مرور عشر سنوات (1999 – 2009) على تسلمه السلطة. ولئن تمَّ التركيز على النقط القوية في المشروع المجتمعي الذي أعلن الملك محمد السادس عن خطوطه الكبرى فور انتقال الحكم إليه، فقد وقفت بعض وسائل الإعلام وعدد من المحللين عند الجوانب التي اعتراها القصور، أو صعُب إنجازها لاعتبارات ذاتية وموضوعية، وفي كل الأحوال فتحت المناسبة نقاشاً شبه عمومي، وإن بشكل محتشٍم وغير مباشر، للنظر في قدرة الملكية على التطور بأفق الانتقال نحو الديمقراطية، كما سمحت بإمكانية التفكير في العوائق ذات الطبيعة البنيوية التي تعتري سيرورات الدَّمقرطة وإن توفرت لها رغبات وإرادات الإنجاز.
ثمة مقاربتان لحوصلة عشر سنوات من حكم الملك محمد السادس. تعتمد الأولى منهجية المقارنة بين حقبة أبيه " الحسن الثاني (1961 – 1999) والعُشرية الأولى من ولايته، في حين تتوخى الثانية رصدَ ما أنجِز، وما لم يتم تحقيقُه.. والطريقتان معاً تسعيان إلى إبراز الجديد في عهد الملك الشاب، الذي راهن المغاربة كثيراً على انتقال العرش إليه، وحملوا آمالاً جمَّة في إمكانيات التغيير نحو الأفضل على يده، دليلهم في ذلك عدم انغماسه في السياسة من قبل، وليس له وِزر في ما راكمت التجربة السابقة من إنجازات وإخفاقات، والأهم في ما تركت من جروح نفسية وسياسية.. ففي الأيام الأولى من ولايته لٌقِّب "ملك الفقراء"، وخلال شهور قليلة أعلن شخصياً عن اعتماده "مفهوماً جديداً للسلطة"، في إشارة إلى القطع مع المرحلة التي سبقته، وطيلة العشر سنوات لم يتوقف عن الترحال والتجوال في مختلف مناطق المغرب، لاسيما تلك التي ظلت في الظل ولم تنل حظها من رعاية الدولة.. لقد فُتحت عشرات الأوراش والمشاريع ذات الطبيعة التنموية تحديداً، واستُقطٍبت رؤوس الأموال والاستثمارات، بل أصبح المغرب برمته ورشاً مفتوحة، لكن مقابل كل هذه المجهودات، وهذا هو وجه المفارقة، لم يخرج المغرب من دائرة الدول الواطئة في سلم التنمية والرفاهية والأمن الاجتماعي والإنساني. لذلك، نعتقد أن المقاربة السليمة تقتضي التساؤل عن المصادر المُفسِّرة للاختلال الموجود بين حركية المشاريع المفتوحة في المغرب وإسقاطاتها على حياة الناس ورفاهيتهم، والأهم تسَرُّب الشعور بالعدالة والاطمئنان إلى قلوبهم، كي يتفاعلوا مع خطاب الإصلاح والدَّمقرطة، ويندمجوا بإيجابية في مشاريعه وأوراشه.
لم ينطلق الملك الجديد من الفراغ حين اعتلائه العرش شهر تموز 1999، كما لم تكن القطيعة المطلقة مع الحقبة السابقة واردة في خلَده، لكن كان الوعي حاضراً لديه بقوة في أن المغرب في حاجة إلى تجديد، وأن إجتراح أسلوب جديد في مقاربة الشأن العام ضرورة استراتيجية على كل الصعد، وفي صدارتها إعادة تجديد الشرعية وتمتين صورتها لدى المجتمع. لذلك، تمَّ استكمال المشاريع التي فُتحت إبان السنوات الأخيرة من حكم أبيه، وعلى رأسها ملف حقوق الإنسان وتحقيق المصالحة الوطنية، وتنقيح كافة التشريعات والقوانين المُقيدة للحريات والحقوق، والتناغم مع المرجعية الدولية ذات الشأن، وإنصاف المرأة بوضع قانون جديد للأسرة يوازِن بين الطابع المحافظ للمغرب ومتطلبات الانفتاح على المعاصرة، وتشجيع عملية تحرير الاقتصاد وتعميق " لَبرلَتِه". وبالموازاة، تصدرت التنمية قائمة أولوياته، بل غدت العنوان المميز لولايته، لاسيما في المناطق التي ظلت لعقود منسيةً وغير مشمولة برعاية الدولة، ويمكن القول، في هذه النقطة بالذات، ان ثمة تقدماً ملموساً خلال العشر سنوات الأخيرة في إعادة بناء الثقة بين بعض المناطق والجهات والسلطة..ثم إن محاولات كثيرة بُذلت لإصلاح قطاعات على درجة بالغة الأهمية والخطورة مثل القضاء والعدالة، والمنظومة التربوية والتعليمية، والصحة والسكن.
يمكن الإقرار إجمالاً أن قطار الإصلاح في المغرب قد انطلق حلال العشر سنوات الأخيرة، وكأي إصلاح لا يمكن أن يكون إلا معتدلاً ومتدرجاً ومفتوحاً على النجاح تارة والكبوة طوراً آخر. غير أن مشروع بناء المغرب " الديمقراطي الحداثي"، وهو من شعارات العهد الجديد، يحتاج إلى ثورة ذهنية هادئة في الدولة والمجتمع معاً..إن الثورة الذهنية الهادئة المنشودة في هذا السياق هي التي تقدر على بناء التأييد حول الإصلاح من أجل التغيير الديمقراطي، وتحوله إلى مشروع الجميع، وتُدمج الكل في تشييد فَسماته، وجني ثماره في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والفكر والثقافة، وبدون هذه الحركة الممتدة عبر الدولة والمجتمع لا تظهر جليّاً نتائج الإصلاحات مهما كانت نيات المصلحين وإراداتهم.