منذ أيام، لا يخفى أن ثمة حملةً سورية على حركة 14 آذار بشكل عام وعلى أمانتها العامة بشكل خاص. وهذه الحملة إعلامية سورية مباشرة من ناحية وسياسية عبر الأتباع والأبواق من ناحية ثانية. وتروّج الحملةُ لمقولة أن 14 آذار إنتهت وسقطت أو أن مبرّر وجودها زال.. في أقل تقدير.
من الواضح أن إعتقاداً سورياً "قام" على أن إختلاف رئيس "اللقاء الديموقراطي" وليد جنبلاط مع 14 آذار سيؤدي الى إنهيار الحركة بما أن جنبلاط مكوّن مؤسّس فيها. غير أنه من الواضح ـ في المقابل ـ أن "تعايش" الحركة مع "الصدمة الجنبلاطية" وعدم إنفراط عقدها، أصابا دمشق وأتباعها بـ"إحباط"، فكانت الحملةُ تعبيراً عن ذلك "الإحباط".
14 آذار: انتفاضة و"هويّة"
هذا في "المباشر". فماذا في العمق أكثر وماذا في ما يتجاوز اللحظة السياسية الفورية المباشرة؟
لقد مثّلت حركة 14 آذار، في "لحظتها" في العام 2005، إنتفاضةً شعبية ضد الوصاية السورية ونظامها الأمني، لكنها كانت في الوقت نفسه إعلاناً عن إنبثاق "هويّة" لبنانية ـ وطنية ـ مدنيّة عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق. وبـ"المناسبة"، كان الأمران مترادفَين. أي أن الإنتفاضة على الوصاية السورية لإنهائها وإسقاطها، ما كانت لتنجح في تحقيق هدفها الاستقلاليّ ـ السياديّ لولا أنها تمّت في رحاب هويّة عابرة للطوائف، شكّلت ـ أي الهوية ـ إيذاناً بدينامية للإنتقال بلبنان من "كيان للحرب الأهلية" مباحٍ أمام الخارج الى "كيان للعيش المشترك" مستقلٍّ سيّد يستعيد داخله من الخارج.
منذ اللحظة الأولى لإسقاط الوصاية وحتى اليوم، ينعقدُ الرهان السوري على "تحطيم" الهويّة التي عبَرت بلبنان الى مرحلة جديدة.
إخراج الطائفة الشيعيّة من النصاب
في البدايات، إنعقد الرهان السوري على التمثيل السياسي الشيعي كي يُفقد الاستقلال اللبناني الثاني نصابه السياسي والطائفي، وكي تمتنع على لبنان القدرة على إدارة نفسه بنفسه. أي أن الرهان السوري إنعقد على سحب الطائفة الشيعيّة عبر تمثيلها السياسي من معادلة الإستقلال ودولة الإستقلال. وقد أدى ذلك بالفعل الى "كربجة" خطيرة في الوضع اللبناني طيلة السنوات المنصرمة، ما جعل الحركة الاستقلالية في موقع الإضطرار في معظم الأحيان الى تسويات "على" الاستقلال والدولة أو الى تنازلات "عن" الإستقلال والدولة بسبب وجود طائفة خارج النصاب. لكن حركة 14 آذار استمرّت على الرغم من ذلك، وبقيت ساعيةً الى إنضاج ظروف جعل الاستقلال والدولة معطيَين ناجزَين.
المحاولة السورية عبر عون
ولم يتوقف الرهان السوري عند هذا الحد. أي لم يتوقف الرهان السوري عند حدّ محاولة "كربجة" الدينامية "اللبنانية" من خارج 14 آذار وبالإستناد الى "الشيعيّة السياسية" الموالية لسوريا. ذلك أن سوريا عملت على توجيه ضربة الى الحركة الإستقلالية من داخلها والدينامية "اللبنانية" عبر جزء من التمثيل السياسي الماروني ممثلاً بالجنرال ميشال عون و"التيار الوطني الحر". وافترضت دمشق أن إخراج عون وخروجه من 14 آذار سيحدثان زلزالاً لن تنهض 14 آذار منه. لكن الحسابات السورية كانت خاطئة. فلم "تنتهِ" 14 آذار، ليس فقط لأن التمثيل السياسي المسيحي لم يتبع كله عون، بل لأن الحالة المسيحية العامة وجدت نفسها في الهوية التي أتت لحظة 14 آذار تعلن قيامتها، ووجدت أن هذه الهوية هي التي سوف "تركّب" البلد، ولأن إنحدار عون من "اللبناني العام" الى "الطائفة" تمّت قراءته مسيحياً ـ ولبنانياً ـ على أنه تفريطٌ بإمكان النهوض بلبنان كياناً للعيش المشترك وبلبنان المستقل الحر.
الهزّة الجنبلاطية.. و"المناعة"
ومن دون إطالة، ها هو الرهان السوري ينعقد مجدداً على أن يسدّد إعتقاد وليد جنبلاط بوجود "خصوصيّة درزيّة" في حد ذاتها ضربةً الى 14 آذار هويةً ودينامية. لكن مناعة 14 آذار ـ بمعانيها العميقة ـ أحبطت الرهان السوري، خصوصاً أن الهويّة العابرة للطوائف تخاطبُ مستقبل كلّ الطوائف.
سوريا وسياسة "المفرّق"
من هنا، وإذا كان سببُ الحملة السورية على 14 آذار وأمانتها العامة، هو ـ في المباشر ـ إستمرارُ 14 آذار حتى بإبتعاد جنبلاط، فإن السبب الأهم هو أن إستمرار 14 آذار يشكّل "العقبة" في وجه كل مسعى سوري الى تفكيك البلد مجدداً الى "عناصره الأولى". ذلك أنه لا يخفى، بل لم يعُد جائزاً أن يخفى، أن السياسة المفضّلة لدى دمشق هي سياسة التعاطي مع لبنان بوصفه طوائف متجاورة ومتنافرة في آن وبـ"المفرّق". وهي سياسةُ التعاطي مع كل طائفة على حدة، وأن تكون سوريا مرجعية كل طائفة فلا تنفتح واحدة على الأخرى إلا عبر سوريا وبـ"إذنها". وتلك كانت السياسة السورية في مرحلة الوصاية المباشرة على لبنان، وهي نفسها اليوم في لحظة البحث السوري عن دور متجدّد في لبنان.
.. لكن 14 آذار العقبة
إذاً، إن الحملة على حركة 14 آذار تهدف الى إسقاطها، بالضبط لأن لها كل المعاني السالفة، ولكون إسقاطها "نصراً معنوياً" تبحث سوريا عنه كي تقول إن "مرحلة 14 آذار 2005" إنتهت ولبنان دخل في مرحلة مختلفة. والحملةُ على الأمانة العامة هي في السياق نفسه تهدف الى إنهاء كل ما تجسّده هذه "المؤسسة" الـ14 آذارية.. وأهم ما تفعله هذه الأيام أنها تجسّد الإستمرارية، وتجسّد "الوصل" القائم حالياً بين القوى السياسية الصامدة على 14 آذاريتها من ناحية والرأي العام "المدنيّ" العريض العابر للطوائف من ناحية أخرى. بل لا مبالغة في القول إن صمود القوى السياسية ودور الأمانة العامة هما معاً الحماية التي يحتاجُ إليها العمل السياسي الوطني الإستقلالي، بما في ذلك بل في مقدّمه عمل زعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري كرئيس لحكومة لبنان.
"المستقبل"