اثنا عشر ملفا هي مجموع كتاب «ملفات فكرية في الدين والحداثة والعلمانية» للكاتب الصحافي صلاح سالم، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب. هذه الملفات لا يراها الكاتب سوى استبصارات خاصة به، وهي ليست إلا رؤاه الذاتية، رغم حرصه على الالتزام بالنزعة التاريخية والحس النقدي، كما يراها وقفة فكرية تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب. هنا يتحدث سالم عن صيروة الدين بين التقليد والحداثة، وما بعد الحداثة، عن حدود الأسلمة وآفاق الأنسنة في الأخلاق والمعرفة، عن الدولة المدنية بين العلمانية السياسية والشمولية الإسلامية، عن مآلات الوعي الديني في حركة التاريخ الإنساني، وعن مسارات الإسلام السياسي في حركة التاريخ العربي، عن استراتيجيات الدين في صوغ الهويات الثقافية، وعن المصالحة الضرورية بين الإسلام الحضاري والعروبة الثقافية. في مقدمته يقول سالم، غالبا ما تنتج التحولات النوعية في مسيرة التاريخ الإنساني، عن تطورات كمية بطيئة لكن عميقة، تكاثفت طبقاتها عند هذه اللحظة أو تلك، لتأخذ صورة طفرة تقطع كيفيّا مع الماضي، وتخلق حاضرا جديدا له قوانينه ومناهجه وتياراته المستجدة. مضيفا أن أهم هذه التحولات هو الذي أنتج تجربة الحداثة وأذكى «الروح الحديثة» التي أخذت تتراكم عبر القرون الخمسة الماضية، وتنتظم في مسار واعٍ من عصر النهضة إلى الإصلاح الديني، والتنوير والثورة الصناعية ثم الديمقراطية والعلمية التكنولوجية.
هواجس وأوهام
الكاتب يرى أنه على صعيد الحرية كان الصراع أكثر عنفا مع سلاطين الاستبداد وكهنة الإقطاع الذين احتكروا التاريخ واحتقروا الإنسان، خاصة أن التاريخ مكتوب بحروف الاستبداد، والحرية لم تكن أكثر من فكرة وليدة تدعي حق الحياة وحق الاعتقاد والتعبير والتنظيم وهي، حقوق لم تكن في مخيلة التاريخ البشري سوى هواجس وأوهام. في هذا الكتاب يرصد صلاح سالم وقْع التفاعل ونمو الجدل بين الدين والحداثة والعلمانية، سواء في سياق الحضارة الغربية المسيحية، التي يمكن القول إنها أنجزت مهمتها على هذا الطريق، رغم وجود بعض السلبيات، أم في سياق الحضارة العربية الإسلامية، التي لا تزال تحاول السير عليه دون إنجاز حاسم، يحول دونه الاستبداد اللعين والتطرف البغيض والإرهاب العدمي، الذي أصاب معظم مجتمعاتنا، ويكاد يمزّق بعضها. الكاتب، متحدثا عن الوعي الإنساني بين التقليد والحداثة، يقول إن المستكشفين والعلماء والمفكرين الأوائل الذين شقوا الطريق إلى ما عرف بعد ذلك باسم الحداثة، كانوا يعتقدون وهم يمارسون نشاطاتهم هذه أنهم يبحثون فقط عن طرائق جديدة للتدين وليس لإلغاء الدين تماما، أو حتى مجابهته. كذلك يطرح الكاتب هنا سؤالا يقول: هل لنا أن نفهم محاولات بعض المفكرين المتأسلمين تجذير كل المفاهيم الحديثة: العلمية والسياسية في القرآن ضمن المقولتين الرائجتين «أسلمة العلوم» و»الشورى الإسلامية» حيث إن كل كشف علمي له أصل في القرآن، وإن ذُكر بإيجاز على سبيل الإعجاز؟ وهل يعني ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة لا تزال تحيا بين القرنين السادس والسابع عشر الأوروبيين، حائرة بين التقليد والحداثة، لم تحسم موقفها بعد، ولم تدرك طريقها إلى المستقبل؟
حضور الدين أو غيابه
الكاتب يذكر كذلك تراجُع الفهم القديم للزمن المفعم فقط بأحلام العود الأبدي إلى نقطة بداية مقدسة صارت معيارا يتحكم بالحضور الإنساني في العالم، وهي نقطة ليس هناك طريق للتأثير فيها لا من قِبل هذا الجيل ولا سابقه أو لاحقه، إذ كل ما يملكه الإنسان حيالها مجرد حنين بالعودة إليها، أو التوق إلى ملامستها في عالم متجاوز وزمن قدسي سيعود من جديد.
ومما يثبته الكاتب هنا أيضا أن الإضافة التي قدمتها ما بعد الحداثة، في صورتها الراهنة، لا تتعدى تعميق التوجهات النسبية للحداثة إلى مستوى النسباوية الذي يقارب حد العدمية، إذ لم تعد الحقيقة نسبية كما كان الأمر، بل صارت غير ممكنة طالما انتفت المرجعيات العقلانية الحديثة المعتمدة للقياس. في ما يتعلق بملفات الدين يقول الكاتب، إن الدين قد يصوغ أخلاقياته على شكل عقلاني يمكن تبريره وتفسيره، وربما أكدت نظرية الحَسَن والقبيح عند المعتزلة على هذا المنحى التوفيقي بين العقل والإيمان في صياغة الأخلاق الإسلامية، ومن ثَم فإن أخلاق العقل العملي أو نظرية الواجب الكانطية، ليست بالضرورة نقيضا للأخلاق الدينية، بل ربما كانت خطوة على الطريق الصحيح إليها، لأنها تحوى من المبادئ المشتركة ما يصون حياة البشر جميعا، ويحقق سعادتهم كالأخلاق الدينية سواء بسواء.
أيضا يرى الكاتب أن مدى حضور الدين أو غيابه يرتبط بقدرته على صياغة روحانية مؤمنة، تُشكّل جسرا رابطا بين عالم الشهادة وعالم الغيب، يدفع بالروح الإنسانية إلى تجاوز طبيعتها، ومواجهة ضعفها أمام حاجاتها الضاغطة. وحين يقترب الكاتب من قضية الإلحاد يقول، يبدو أن الملحدين المحدثين لم ينشأوا على جهل حقيقي بالدين، وإنما في عداء له، عداء ليس لقيمه المبثوثة فيه، لكنه للسلطات الروحية التي حاولت امتلاكه وتوظيفه، والكهنوت الذي سعى إلى الهيمنة باسمه أيّا كان شكله أو رسمه، ولهذا لم يرفض أرباب العلمانية الوجودية والتنوير المادي المسيح كوجود ولم يرفضوا مبادئه، رفضوها عندما وصلتهم باسم الله وهللوا لها عندما جاءتهم باسم التنوير وفي ركاب الثورة الفرنسية.
انتقادات الحداثة
هنا يُفرق الكاتب بين نوعين من الإلحاد، أولهما فلسفي الذي ولد في سياق الصراع الممتد على طول التاريخ حول الله، وثانيهما سوقي وهو الذي يفتقر القائلون به إلى العمق والمسؤولية. أيضا يذكر الكاتب أن هناك تناقضات عديدة بين الدولة المدنية والدولة الدينية، لا يذكرها أرباب العقل السلفي الذين يركزون جهدهم على التناقض الأخلاقي، معتبرين الدولة المدنية بمثابة صندوق الرذائل والشرور، فيما تحمل الدولة الدينية الفضائل والخيرات كلها، ذاكرا أن إسلاميي مصر يخشون الدولة المدنية التي تعرضوا فيها للقمع والحصار، الذي أعجزهم عن الحركة. في الملف الذي عنونه بـ»من كهف الإصلاح الديني إلى آفاق التنوير العربي» يقول الكاتب إن موجات الإرهاب الدامي وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، تفرض علينا ضرورة استعادة الإسلام من قبضة التطرف اللعين، إنها مهمة الأمس التي تأخرت إلى اليوم، ويجب أن لا تنتظر إلى الغد. وفي السياق الذي يتعلق بالحداثة يقول الكاتب إنه يمكن تفهّم عمق الانتقادات التي توجّه إلى الحداثة، التي نجمت عن تشوهات عديدة حدثت لها طوال مسيرتها الطويلة، غير أن تلك الانتقادات التي تبرر حاجتنا التاريخية إلى كينونة جديدة تتجاوزها لا تعني ميلاد تلك الكينونة فعليّا. كذلك يرى من الصعوبة التسليم بمقولة ما بعد الحداثة، لدافعين أساسيين أولهما أن الحداثة ذات طبيعة نسبية بالضرورة، وثانيهما أنها ذات بنية جدلية بالضرورة، إذ هي كفلسفة جوهرية ليست هي كتجربة تاريخية.
وهكذا تجول بنا الكاتب صلاح سالم في كتابه هذا بين ملفاته في مجالات ثلاثة هي الدين والحداثة والعلمانية، مانحا القارئ معلومات منتقاة ومفيدة وفكرا معتدلا، ووجهة نظر تستحق التقدير والاحترام، جاعلا من كتابه هذا وجبة مفيدة ومهمة لكل من سيدعو نفسه إليها ناهلا منها قدر حاجته منها.
كاتب مصري
“القدس العربي”