أكدت مصادر في الخارجية الإيرانية أن اتفاقاً لتبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة أصبح على وشك الإنجاز، لكن الولايات المتحدة نفت صحة هذه الأنباء مع تأكيد التزامها تحرير جميع الأميركيين المعتقلين في إيران، بيد أن الخبراء يعتقدون أن التبادل بات تحقيقه قاب قوسين. ويبدو أننا في الأيام المقبلة سنرى الكثير من الإنكار الأميركي لعملية تجري فعلاً على الأرض.
صدر خلال الأسبوعين الماضيين، تصريحان لافتان مهمان لمسؤولين أميركيين يوضحان الرؤية الراهنة للولايات المتحدة تجاه العلاقة مع إيران.
أولهما لوليم بيرنز رئيس وكالة الاستخبارات المركزية لشبكة CBS، قال فيه “على حد علمنا، لا نعتقد أن المرشد الأعلى في إيران قد اتخذ قراراً باستئناف برنامج التسلح النووي”. ثم يضيف: “لا نرى دليلاً على أنهم اتخذوا قراراً باستئناف برنامج التسليح هذا. لكن الأبعاد الأخرى لهذا التحدي، كما أعتقد، تنمو بوتيرة مقلقة أيضاً”.
التصريح الثاني لروبرت مالي، المبعوث الخاص للشؤون الإيرانية، أكد فيه أن “الرئيس جو بايدن لم يقل أبداً إن الدبلوماسية وإمكان التفاعل مع إيران قد ماتا، لكن في الواقع، قيل العكس تماماً”. وأضاف أن “المسؤولين الأميركيين لا يسعون إلى تغيير حكومة إيران”، متابعاً: “لقد سئمنا من التجربة المحزنة لتغيير هندسة الأنظمة في الشرق الأوسط”.
إضافة إلى تبريد التوتر مع إيران، توضح هذه التصريحات أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى الأحداث الداخلية في إيران على أنها تعوّق المفاوضات ولا على أنها فرصة للضغط عليها، بل توضح أيضاً أنها لا تزال تنظر لاقتراب إيران من حافة التخصيب العسكري على أنه لا يتعارض مع الدبلوماسية.
وتقول الإدارة الأميركية الحالية عملياً إنها مستعدة للتفاوض بالانطلاق من الوضع الراهن. يعني ذلك بوضوح أن أميركا مستعدة لتقبل واقع الملف الإيراني، بحيث يمكن أن تكون إيران قريبة من نادي دول “القنبلة على الرف” مثل ألمانيا، والبرازيل، وكوريا الجنوبية، وغيرها.
بالتوازي مع ذلك تسعى الولايات المتحدة بالتنسيق مع حلفائها وبخاصة إسرائيل، لشحذ السيوف وتعزيز المتاريس في المنطقة بأسرها. ورغم ذلك، شكك بعض القادة العسكريين والأمنيين الإسرائيليين مؤخراً في جاهزية بلادهم للحرب، في الوقت الذي يطيب لإدارة بايدن التأكيد على درء المجابهة الواسعة بين إسرائيل وإيران.
إذاً أين نحن من كل ذلك؟ ثمة سيناريوان اثنان لتفسير هذه الستارة الدخانية التي ترتفع في الإقليم.
فإما أنها الحرب الآتية لا محالة و”الحرب خدعة”، أو أن ما يجري هو من باب درء الحرب بالاستعداد لها من جهة، والتفاوض عليها من جهة أخرى. ولأني أقاوم دوماً نزعتي للانحياز للسيناريوات الحماسية والتبسيطية، أقترح أن نتأمل الاحتمال الثاني، أي سيناريو درء الحرب بالاستعداد لها والتفاوض عليها.
بعدما علقت روسيا في سنارة الحرب الأوكرانية، تغيّرت مقاربة الولايات المتحدة للعالم من حولها، بما في ذلك الشرق الأوسط والخليج. بل يبدو أن الولايات المتحدة تركز في سجالها الدبلوماسي مع إيران، أكثر بكثير على ما هو غير نووي. وليس بيت القصيد هنا دور إيران المزعزع للاستقرار في الإقليم ولا برنامجها الصاروخي، فتلك أمور لا تهدد الأمن القومي الغربي إلا قليلاً. بل يكمن بيت القصيد في قضيتين:
الأولى هي عمل كل ما هو ممكن لدرء احتمالات تعميق العلاقات الروسية – الإيرانية إلى حد التحالف العضوي. فبالنسبة لأميركا يحمل هذا الانزلاق الوشيك، انعكاسات استراتيجية مهولة في الإقليم.
لا يتعلق الأمر بالمسيّرات ولا بتهديداتها، بل يتعلق بالسياق العام الذي يمكن أن تمضي به العلاقات الإيرانية – الروسية وانعكاساتها في وسط آسيا والقوقاز أو الشرق الأوسط أو الخليج. فنشوء تحالف عضوي من هذا النوع سيضعف بشدة أجندات الغرب وقدراته على التحرك في الإقليم. وفي المقابل، سيتيح لروسيا دور وسيط قوة وضغط ويسمح لها بهوامش مناورة واسعة بما يعزز دورها، ويشل محاولات الولايات المتحدة ويعزل نفوذها.
أما القضية الثانية، فتكمن في محاولة درء احتمالات المجابهة الإيرانية – الإسرائيلية الواسعة التي قد تجر الولايات المتحدة من قدميها إلى الإقليم من جديد.
فما هي الأطر المتاحة للتفاوض مع إيران في هذا السياق؟
في حال لم تقرر إيران المضي في طريق اللارجعة في تحالفها مع روسيا وبالتالي في حال عدم إقدام إيران على قطيعة نهائية مع الغرب، يمكننا تصور أن تقوم المساومة التالية بين الغرب وإيران:
يقبل الغرب بالوضع الراهن للملف النووي من حيث قدرة إيران العلمية والتقنية على التخصيب بنسبة تقارب النسب العسكرية. وهذا الأمر صار تحصيل حاصل، مقابل أن تحجم إيران عن تذخير برنامجها النووي، وذلك في إطار منظومة قابلة للتحقق.
توازياً لا يغفل عنا التعزيز المتسارع للردع والقدرات الهجومية الإسرائيلية، وجهدها في الوقت ذاته، لتحييد وتبريد العامل الإسرائيلي في المعادلة، مقابل الوصول لإعادة انتشار وتقسيم مناطق النفوذ وتحديد توزيع ونوعية الأسلحة الإيرانية ضمن الجغرافيا السورية، بخاصة أن ثمة من يرجح أنه رغم المغريات الروسية الهائلة، لا يبدو أن إيران مستعدة للنزول بحبل فلاديمير بوتين لكنها مستعدة للنزول بحبل شي جينبينغ.
في ما يتعلق بالوضع الداخلي في إيران، وكما حصل مع سوريا، فبعد أن تحدثت الصحافة الأميركية عن صعوبة التفاوض مع نظام يقتل ابناءه، ها هو الخامنئي، وبالتناقض مع إبراهيم رئيسي، يفرج عن الألوف من الشباب المحتجين، بل يحيل بعض قتلة النساء من رجاله للمحاكمة. وفي المقابل تُبحث سبل لإراحة الاقتصاد الإيراني عبر بوابات خلفية متعددة معروفة، والآن يجري الحديث عن تبادل السجناء.
أما أذرع إيران الإقليمية في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، فلا يبدو أنها قيد البحث، فهي مشكلة أهل الإقليم! بل يمكننا أن نتوقع أن يفضي تخفيض التصعيد مع إيران، إلى المزيد من تعزيز موقفها الإقليمي.
في علم الاستقراء الاستراتيجي لا مجال للحتمية، بل إن فضل هذا العلم هو في تشخيص الاحتمالات وحراكاتها. ثمة رقصة من دون تلامس تجري بين إيران والولايات المتحدة، لكنها إن مضت أبعد قد تتحول لعملية سياسية أبعد. حتى الآن يبدو أن طرفي الرقصة سعيدان بها، ويبحثان عن ساحة فعالة للتفاوض. فرجال مطافئ حرائق الغابات، غالباً ما يلجأون لإشعال الحرائق في محيط المناطق الحيوية، لدرء وصول الحريق إليها.
“النهار العربي”