هذه المرة، وعلى سبيل الاستثناء من القاعدة، يمكن تصديق البيت الأبيض حين تشير التصريحات الرسمية إلى «القلق الشديد» وذلك ببساطة لأن ما يقلق الإدارة الأمريكية هو مظاهر التدهور والاضطرابات والاحتجاجات التي تعصف بدولة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة منها تلك المؤشرات الخطيرة حول تزايد حالات التمرد في صفوف ضباط الاحتياط والطيارين منهم تحديداً.
وخلافاً لما أعلنته الناطقة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، من أن «القيم الديمقراطية كانت دائماً، ويجب أن تظل، سمة للعلاقات» بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، فإن قلق واشنطن ليس مصدره الخشية من تآكل تلك القيم لأن الانتهاكات الإسرائيلية تفاقمت وتراكمت حتى بلغت مستوى الأبارتايد والممارسة الفاشية العارية. الأكثر إثارة لتخوفات البيت الأبيض هو احتمال وصول انقسامات المجتمع الإسرائيلي إلى مواجهات مفتوحة بين شارع وشارع على امتداد دولة الاحتلال، وتعاظم الاحتجاجات إلى مستوى إضرابات عمالية شاملة وتعطيل الجامعات وإغلاق مطارات وموانئ ومنشآت حساسة، بما في ذلك قطاع الجيش والأجهزة الأمنية.
وليس خافياً على خبراء الإدارة الأمريكية أن ما يُسمى بـ«الإصلاحات القضائية» ليس سوى التوصيف الكاذب لانقلاب جذري وشامل على تلك «القيم» التي ليست سمة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، بقدر ما هي حزمة الذرائع الكاذبة التي روّج لها الكيان الصهيوني منذ البدء باعتبارها الدليل على أنّ دولة الاحتلال هذه هي «الواحة الديمقراطية» الوحيدة في طول الشرق الأوسط وعرضه.
ففي قلب هذا المعترك، يندر أن تجد صوتاً إسرائيلياً يربط التأزم الراهن بسياسات الاحتلال والاستيطان والعربدة ضد أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس المحتلة أو حتى مستوطنات قطاع غزّة السابقة، فلا وزير الدفاع الليكودي المقال، ولا زعيم المعارضة يائير لابيد، ولا وزراء تطرف وعنصرية أمثال بن غفير أو سموتريتش، على خلاف مع بنيامين نتنياهو بصدد ما يمارسه الاحتلال في جنين ونابلس والأقصى.
وفي سابقة ذات دلالة خاصة كان رؤساء سابقون للمحكمة العليا وقضاة سابقون وكوادر قانون وتشريع قد نشروا في الصحف نداء بصيغة إعلان مدفوع اعتبروا فيه أن «الإصلاحات» المزعومة سوف تؤدي إلى «إضعاف نظام الحكم الديمقراطي» و«تزعزع سيادة القانون» و«تمس بـإمكانية الدفاع عن حقوق الإنسان» و«تقلل من الاحترام الذي يكنّه المجتمع الدولي لمؤسسات القضاء الإسرائيلية».
ويتناسى هؤلاء أن حكومة نتنياهو الأكثر تشدداً وفاشية في تاريخ دولة الاحتلال لم تهبط بالمظلة أو اقتحمت الكنيست على ظهر دبابة، بل أتى بها صندوق اقتراع غالبية من الإسرائيليين. ومن الواضح أن الإصرار على تمرير التشريعات المنشودة لا يستهدف فقط الحد من صلاحيات المحكمة العليا، أو التحكم في تعيين القضاة، أو وضع إرادة الأحزاب المتحالفة داخل الكنيست فوق السلطة القضائية فحسب، بل يسعى أيضاً إلى أهداف مباشرة وآنية مثل انتشال رئيس الحكومة من أحكام المحاكم وقضايا الفساد، أو إعادة تأهيل أرييه درعي وإبطال الاعتراض القضائي على توزيره.
وإذا لم تكن حكومة موز هذه التي يسعى نتنياهو وتحالفه إلى ترسيخها، فإن من الغبن إطلاق الصفة على أي منظومة مماثلة في أيّ مكان من العالم.
“القدس العربي”