حين صدر ديواني الثالث «كم أنت أنت» والملهمة فيه فنانة تشكيلية كانت مشتركة في معرض؛ أراد صاحب الصالة أن أكرم الفنانين في أمسية شعرية في ختام المعرض وأطوب الكتاب باسمها. قدم الأمسية الفنان التشكيلي فرزان شرف فقال: عرفت فواز خيو أول مرة منذ مطلع التسعينيات، كنت واقفا في آخر الباص وثمة شاب جالس تحت الشباك ومعه كومة كتب، يفتح الكتاب ويقرأ للحظات ثم يرميه من الشباك، وربما لم يصل معه سوى كتاب واحد. سألت زميلي من هو ذلك الشاب؟ قال: فواز خيو. بعد عامين التقيت فواز وسألته: لماذا فعلت ذلك في الباص؟ قال: الكاتب الذي لا يستطيع افتراسك من الأسطر الأولى فألقه هو وكتابه في الحاوية. إذا كان الحصان لحظة انطلاقه في السباق مترهلا فهل ستراهن عليه في المنتصف أو سيكمل؟ إذا كان الكاتب في لحظات الشغف الأولى فاترا وجافا فكيف سيكون في باقي الصفحات؟
البياض مقدس، فإما أن تضع عليه ما يوازيه أو اتركه ولا تلطخه بالثرثرة.
دائما تصلني كتب شعر أو قصة أو رواية، إهداءات من أصدقاء، مشكورين طبعا، وأنا أنظر للكتاب كمولود يجب أن يعيش طويلا، لا أن يقضي بالحصبة. حين أتلقى كتابا أتخيل صاحبه أن يسألني عن رأيي فيه لاحقا، لهذا أشعر بالقلق خوفا من أن لا يشبعني الكتاب، فأشعر بالحرج لأني لا أستطيع المجاملة في قضايا الإبداع. من حق كل مخلوق التجريب في أي نوع، لكن ليس من حقه تقديم نتاجه إذا لم تكن فيه إضافة للموجود، فالساحة تغص بالركام، ولا ينقصنا أبدا.
الإبداع له طرفان هما المبدع والمتلقي.. ترى لو بقيت الجوكندا في الدرج فهل تساوي أكثر من لوح خشبي؟ الذي أعطاها قيمتها ليس صاحبها فقط، بل هم المتلقون والنقاد أصحاب الذوق الرفيع. وهكذا شعر المتنبي ودرويش وكل نتاج العظماء. لا تستهن بنفسك أيها المتلقي، أنت من يمنح القيمة للنتاج. فلماذ يصر البعض على أن يكون هو المبدع وليس لديه مقومات الإبداع، كالموهبة والخيال وحدس الصياد وغيره؟
في السياسة ثمة مقولة مهمة وهي: أن تكون صانع الملوك خير من أن تكون الملك. فلماذا يلهث البعض وراء شهرة ستكون آنية وزائفة كفقاعة صابون، لأنه لا يملك الرصيد؟ الأبيض سواء كان الورق أو الكرتون، له صفة الطهر والقداسة،
لا تهدروه، لا تضعوا فوقه شيئا إذا لم يكن في مستوى بياضه. لحظة الإبداع حالة صلاة وتوحد، حالة اتصال بالمطلق اللامتناهي. أعجب من رياضي متسابق يزج نفسه في سباق الماراثون، ولم تختمر تجربته أو يبرع في سباق الـ100 متر، أو الـ200 متر، أعجب من شاعر يحاول كتابة القصيدة الطويلة ولم يبرع في الفلاشات القصيرة أو اللقطة، أعجب من كاتب لم يبرع في القصة القصيرة، ويزج نفسه في عمل روائي. ليس كل شيء طويل مهم أيها الأخوة، الترانزستور والديود عصب العمل في الراديو وغيره، والمقاومات الصغيرة عصب العمل في كل الأجهزة الكهربائية. لنتخلص من عقدة الاسم الذي يملأ الحلق مثل: روائي أو غيره. عصب العمل الأدبي، سواء شعرا أو قصة أو رواية، هو الجملة الأدبية الدافئة الجميلة، والصورة المدهشة، وعنصر التشويق في القصة والرواية، وليس السرد، فأي سرد جاف هو عبء، وتستطيع أن تسمع أجمل منه من جدك أو جدتك. والقدرة على خلق عوالم وأشخاص أحياء يتحاورون ويعيشون، وتتركهم أنت لشأنهم في النص وتراقبهم وتتوقع من أي شخص فيهم ما سيقوله أو يتصرفه، لأنك خلقت له شخصيته الواضحة بآرائها ومواقفها وأحاسيسها. الكتابة رسالة وحالة خلق وتجل، إعادة صوغ للحياة الحقة وقيمها استنادا إلى ما يعرضه من واقع منكسر مخيب. يخطئ من يقول إن الابداع مرآة المجتمع أو الحياة.. لا، المبدع يصنع المرآة الأولى التي هي تعكس الواقع، لينعكس ضياؤها على المرآة الأكبر التي تمثل ما يجب أن يكون.
شاعر سوري
“القدس العربي”