يستعيد ألفن توفلر في كتابه الشهير «صدمة المستقبل» المنشور عام 1970، مثلا صينيا ساخرا يقول «إن التنبؤ عملية صعبة للغاية ـ خصوصا في ما يتصل بالمستقبل». استطاع توفلر، مع ذلك، في ذلك الكتاب الآنف ثم في كتب لاحقة، مثل «موجة الحضارة الثالثة» و»انزياح القوة» رسم خريطة مستقبلية مذهلة لوقائع علمية واجتماعية وسياسية أخذت تظهر تباعا في الخمسين سنة اللاحقة.
أشار اصطلاح «صدمة المستقبل» الذي نحته توفلر إلى التغيرات العظمى التي تحدث في وقت قصير، والطرق التي يتلاؤم البشر بها مع تلك التغيرات، والرضوض النفسية الكبيرة التي تحدث نتيجة ذلك التغيّر، مع التأكيد على أطروحة أساسية، وهي ضرورة تقبّل التغيّر، والأكلاف الكبيرة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي يعاني منها البشر بسبب ذلك.
تحوّلت فكرة الكتاب إلى فيلم وثائقيّ بالعنوان نفسه «صدمة المستقبل» 1972، قام بتمثيله المخرج والممثل أورسون ويلز، الذي يشار إلى فيلمه، «المواطن كين» (1941) باعتباره «الفيلم الأعظم في تاريخ السينما» ويصعب على متابع العمل الوثائقي ألا يشعر بالقشعريرة نفسها التي أحسّها حين لامس فيلم «المواطن كين» قضايا الحياة البشرية الكبرى، السلطة، الثروة، التجبّر، والخضوع في النهاية للشرط البشري.
في عام 1998، التقى الكاتب الأمريكي كين أوليتا، بشخصية ذات نفوذ هائل، مثل بطل «المواطن كين» وهو بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت». سأل أوليتا غيتس عن الخصم الذي تخشاه شركته، فلم يذكر شركة أبل، أو نظيراتها في تلك الحقبة، بل قال: «أخشى شخصا يجلس الآن في كاراج ويفكر بمشروع جديد».
من كاراج إلى أهم شركة في العالم
كان هناك طالبان يدرسان علوم الكومبيوتر يعملان فعلا في كاراج في وادي السيليكون، وستصبح شركتهما التي أنشآها في تلك السنة نفسها أحد أكبر الإنجازات الثورية التي حصلت في التاريخ: غوغل. توفي أورسون ويلز عام 1985، لكن سيكون بديعا أن نتخيله وقد طال به العمر حتى عام 1998، حين ظهرت شركة غوغل، ليمثل أو يخرج وثائقيا باسم «نهاية العالم الذي كنا نعرفه» الذي كان عنوان كتاب أوليتا، حول الشركة العملاقة. يرى «نهاية العالم كما كنا نعرفه» الصادر عام 1990، أن الشركة التي أصبحت قيمتها السوقية حاليا 1.36 تريليون دولار (المبلغ يعادل تقريبا ربع حجم الإنفاق الحكومي السنوي للولايات المتحدة الأمريكية) بتثويرها الطريقة التي يصل بها البشر للمعلومات قد غيّرت، من جديد، طرق عيشنا، والأسلوب الذي نتفاعل به بين بعضنا بعضا. كما غيّرت صناعات بأكملها، من الاتصالات ووسائل الإعلام والإعلانات، ومكّنت، أثناء ذلك، شركات التكنولوجيا الرقمية من الوصول إلى التفاصيل الداخلية لحيوات الناس. واضح أن غيتس استخلص درسا كبيرا من المفاجأة التي أحدثتها غوغل، لأنه سيكون بطل المفاجأة اللاحقة، التي يتوقع كثيرون أن يتجاوز تأثيرها دور غوغل، حيث كانت شركته مايكروسوفت الداعم الأكبر لشركة OpenAI التي أحدثت هزة كبرى في مجال تطور التكنولوجيا الحديثة وإمكانيات اتساع تأثيرها على البشر، بعد أن أطلق رئيسها التنفيذي سام ألتمان، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي برنامج «تشات جي بي تي» (يمكن ترجمة GPT بـ: ناقل مدرب بشكل مسبق على توليد المعلومات). حسب ألتمان، وكثيرين غيره، فإن تقنية الذكاء الصنعي «ستعيد تشكيل المجتمع كما نعرفه» وأنها «أعظم تقنية طورتها البشرية حتى الآن» لتحسين حياتنا بشكل جذري.
القرارات التي ستحدد مصيرنا
يقدم ماكس تيغمارك، في كتابه المنشور عام 2017 «الحياة 3.0: أن تكون إنسانا في حقبة الذكاء الاصطناعي» تفسيرا مدهشا لهذه النقلة العظمى في تاريخ الانسان بالقول: «بعد ثلاثة عشر مليار سنة من وجوده، أصبح الكون قادرا على وعي نفسه» هذا يجمع «الجمال والأمل ـ مطاردة الأهداف، والمعاني والغايات». بسبب هذه النقلة، حسب تيغمارك، «ربما يمكن للحياة أن تنتشر عبر الأكوان وأن تزدهر لمليارات وربما تريليونات السنين، وربما سيكون ذلك بسبب قرارات سوف نتخذها هنا على كوكبنا الصغير». يقسم تيغمارك الحياة في الكون إلى ثلاثة أشكال، انبثقت الأولى (البيولوجية) التي يسميها «الحياة 1.0» قبل قرابة 4 مليارات سنة، وتمثلها الأشكال البيولوجية البسيطة مثل البكتيريا، التي تطوّرت فيها المادة الحيّة hardware وبرنامجها software، لكنها لا تستطيع تغيير ذلك البرنامج المؤلف من خوارزميات بسيطة. تمثل الحياة 2.0، التي بدأت قبل 100 ألف عام، الحقبة الثقافية، حيث تطوّرت المادة الحية hardware لدى البشر بحيث أن برنامج العمليات الناتجة عنها software يمكن تصميمه وتعديله بشكل مستمر. يستخدم الدماغ خوارزميات لتحليل المعلومات عبر حواسنا ويقرر ماذا يفعل بها. لا نكون عند ولادتنا قادرين على تمييز وجوه أصدقائنا والمشي، القراءة، الكتابة، الحساب، الغناء وإطلاق النكات، لكن عبر عملية التعلم تتم برمجة الـsoftware فنتعلم الثقافات، واللغات، والعلوم، والفنون، والسلوك (وننشئ الحضارات ونشنّ الحروب!).
نحن الآن، حسب تيغمارك، على أعتاب الحياة 3.0 (الحقبة التقنية) التي يمكن فيها إعادة تصميم «القرص الصلب» المادة الحية والدماغ، وليس «البرنامج» حسب، وهو أمر يثير الأمل لدى تيغمارك، لكنه يثير الرعب لدى كثيرين.
يسوّق تيغمارك تفاؤله عبر سيناريو خيالي لشركة يقوم فريق فيها بتطوير برنامج ذكاء عام صنعيّ قادر على برمجة أنظمة ذكاء صنعيّ بنفسه، ويتمكن الفريق من إنشاء امبراطورية مالية حول العالم، وتأسيس شبكة إعلامية عالمية، بالتزامن مع تثوير صناعة التعليم، ودعم نزعات الديمقراطية وفتح الحدود والشركات المسؤولة اجتماعيا.
مالك تيسلا يشتبك مع مالك غوغل
يسوّق تيغمارك تفاؤله عبر سيناريو خيالي لشركة يقوم فريق فيها بتطوير برنامج ذكاء عام صنعيّ قادر على برمجة أنظمة ذكاء صنعيّ بنفسه، ويتمكن الفريق من إنشاء امبراطورية مالية حول العالم، وتأسيس شبكة إعلامية عالمية، بالتزامن مع تثوير صناعة التعليم، ودعم نزعات الديمقراطية وفتح الحدود والشركات المسؤولة اجتماعيا. يشرف الفريق على تطوير نزعات تكتسح العالم وتطلق موجة هائلة من التغيير السياسي، تنتهي بقيام حكومة عالمية تقدم أفضل الخدمات الاجتماعية، والتعليم والبنى التحتية، وتمكن الإعلام من نزع فتيل الصراعات، وأدى الازدهار الاقتصادي العام وصار الإنفاق على الجيوش نافلا، وبذلك ينجز الفريق أكبر تغيير للحياة على الأرض. بعد تقديمه هذا السيناريو الإيجابي يرحب تيغمارك بنا في «النقاش الأكثر أهمية في الوقت الحاضر» الذي اندلع بين لاري بيج، أحد الشخصين اللذين أسسا غوغل، وإيلون ماسك، صاحب «تيسلا» و»تويتر» و»سبيس إكس». قدّم الأول دفاعا عاطفيا عن أن الحياة الرقمية هي الخطوة الطبيعية المطلوبة في التطوّر الارتقائي للكون، وأن البارانويا حول مخاطر الذكاء الصنعي ستؤخر اليوتوبيا الرقمية، أو ستؤدي إلى استيلاء الجيوش على حقل الذكاء الصنعي. أخذ ماسك، من جهته، بتفنيد وجهة نظر بيج، وبمساءلته حول ما يضمن ألا يؤدي هذا التطور إلى دمار الحياة على الأرض، وهو ما دفع بيج لاتهام ماسك بأنه يقلّل من شأن الحياة الذكية المصنوعة من السيليكون (الآلات الذكية) لصالح الحياة الذكية المصنوعة من الكربون (البشر)!
أثمر النقاش، لاحقا، عن مشاركة تيغمارك في كتابة بيان نشر في «هافنغتون بوست» يطالب بآليات أمان لتطوير مجال الذكاء الصنعي، ثم باجتماع تم تنظيمه في بورتو ريكو، عام 2015، للأكاديميين والعاملين في الحقل، أصدر بيانا يتمسك بالذكاء الصنعي المفيد، تحوّل إلى حركة منظمة، وقد طرح بعض الحاضرين فكرة أنه للمرة الأولى في التاريخ يمكن بناء تكنولوجيا قوية لدرجة كافية لإنهاء الفقر والمرض والحروب.
من الصعب تخيّل أن أولئك، وأغلبهم من قادة الأكاديميا والأعمال والعلم، لا يدركون الطبيعة البشرية المعقدة، وأن عدد المتفائلين بتأسيس مجتمعات بشرية مزدهرة، على الأرض وخارجها، لم يكن أقل من عدد الذين رأوا مجتمعات مرعبة تستخدم فيها التقنيات شديدة التطور في مراقبة البشر وإخضاعهم كما لم يحصل في أي عصر سابق.
«القدس العربي»