تتسارع وتيرة الاندفاع العربي والإقليمي تجاه النظام في دمشق، لأسباب غير مفهومة للوهلة الأولى، حيث لم يبدل النظام شيئاً من مواقفه التي استوجبت الابتعاد عنه، وفرض عقوبات عليه، بل يواصل التمسك بمواقفه الأولى، وكأن 12 عاماً من الحرب والقتل والتشريد لم تمرّ، وليس لها أية قيمة.
هل حقا أن الجميع كانوا مخطئين، ووحده النظام كان على صواب، حتى يعود إليه جميعاً صاغرين، لتتحقق مقولته التي رددها منذ الأيام الأولى، بأنه لن يبدل مواقفه، والآخرون هم الذين سيبدلون!.
وبموازاة مسار التقارب مع تركيا الذي تبدو الأخيرة أكثر تمسكاً به من النظام، خلافاً لما هو متوقع في هذه الحالة، تتسارع وتيرة الانفتاح العربي عليه، لتنضم كل يوم دولة جديدة إلى هذا الركب، ليشمل أخيراً أكبر دولتين عربيتين، السعودية ومصر، ما يعني إذا مضت الأمور بهذا الشكل، حصول انهيار شبه كامل في جدران القطيعة مع النظام التي بنيت بعد عام 2011، وغسل 12 عاماً من الإجرام والإرهاب الذي مارسه النظام ضد جزء كبير من الشعب السوري، بل وضد بعض الدول العربية نفسها، التي هاجمها بآلاف الأطنان من الحبوب المخدرة، حتى باتت هذه الدول لا تطلب منه سوى أن يكف أذاه عنها، تماما مثل بلطجي الحارة الذي يتحاشاه الجميع، ويخطبون وده، اتقاء لشره.
وبطبيعة الحال، فإن الاستدارة السعودية نحو النظام ليست وليدة اللحظة، ولا هي من النتائج السياسية للزلزال الذي ضرب البلاد في شباط الماضي، بل تعود إلى سنوات مضت، وتحديدا إلى العام 2015، مع التدخل العسكري الروسي في سوريا، والذي قاد إلى تهميش أدوار الأطراف العربية، بعد أن حشر المعارضة العسكرية تدريجيا في الشمال السوري، خاصة بعد العام 2018، مع فقدان المعارضة مواقعها في محيط دمشق والجنوب السوري، لتتقاسم روسيا وإيران وتركيا النفوذ، إضافة إلى الولايات المتحدة الموجودة كقوة أمر واقع في شرقي البلاد.
ومع هذا الانحسار للمعارضة، عملت روسيا على طرح صيغ ومسارات للحل بعيداً عن القرار الدولي 2254 الذي دفعت إليه القوى الفاعلة في الملف السوري، وعلى رأسها السعودية، وكانت تلك المسارات كما هو واضح مجرد متاهات لتضييع الوقت، ودحر الصيغة الدولية للحل التي باتت اليوم غير متداولة، إلا كمرجعية نظرية في تصريحات المسؤولين الدوليين، بينما الجميع يلهث خلف النظام بحثا عن حلول “واقعية” تفتح بابا في الأفق المغلق للحل السياسي، وهو مغلق بقرار من النظام وروسيا وإيران، لأن المطلوب لديهم هو بقاء النظام بعجره وبجره، كأمر واقع لا مناص أمام القوى الإقليمية والدولية سوى التعامل معه، كي لا تبقى “المسألة” السورية تنزف إلى الأبد، وتهدد استقرار المحيط، ولا تزعج أوروبا وتركيا بقضية اللاجئين.
وبطبيعة الحال، فإن الاستدارة السعودية نحو النظام ليست وليدة اللحظة، ولا هي من النتائج السياسية للزلزال الذي ضرب البلاد في شباط الماضي، بل تعود إلى سنوات مضت، وتحديداً إلى عام 2015،
ومن نافل القول، إنه لا يوجد أخلاق في السياسة. فالأخلاق هي دائما مجرد شعارات للاستخدام السياسي، يشتد عودها لدى دولة من الدول حين تتوافق مع مصالح تلك الدولة في لحظة ما، لكنها سرعان ما تتوارى حين تقتضي “السياسة الواقعية” إبرام صفقات أو سلوك مسارات لا تتماشى مع هذه الشعارات، حينها يتم الاستعاضة عنها بشعارات جديدة، قد تكتسي أيضا صبغة أخلاقية، ولكن من منظور مختلف هذه المرة.
ومن هنا، فإن التبريرات لمعانقة السفاح مجدداً لن تكون صعبة، وسوف تلوذ بشعارات إنسانية وأخلاقية أيضا، على اعتبار أن ترك “الشعب السوري” تحت رحمة قاتله، أسوأ من محاولة استرضاء القاتل، وإقناعه بالتوقف عن القتل، ما دام متعذرا معاقبته على جرائمه.
هل النظام قوي فعلا إلى هذه الدرجة، حتى يضطر الجميع للتعامل معه، بعد عجزهم عن إزاحته؟ الجواب القطعي هو لا. النظام في حالة ضعف وشبه منهار، تصفعه إسرائيل ليل نهار، وأكثر من 40 في المئة من مساحة البلاد خارج سيطرته، بما فيها مناطق إنتاج الطاقة والكهرباء، وحتى ضمن سيطرته لا يبسط نفوذه فعليا على بعض المناطق مثل الجنوب السوري، بينما اقتصاده في الحضيض، ودخل المواطن السوري ربما هو الأدنى في العالم (نحو 15 دولاراً شهرياً)، وتفرض عليه منذ سنوات عقوبات دولية، ومن المفترض منطقيا بناء على هذه المعطيات أن ينهار منذ سنوات. فما الذي منع ذلك؟
لا شك أن لتركيبة النظام وتحالفاته الطائفية، دوراً في استمرار تماسكه بالحد الأدنى، لكن العامل الأهم هو عدم وجود رغبة دولية، وتحديداً أميركية، وبالأخص أكثر، إسرائيلية في تغييره، لأن الخدمات التي قدمها لإسرائيل، وما يزال، لجهة تدمير سوريا وتفتيت جغرافيتها وشعبها، ما كانت إسرائيل لتحققها لو شنت مئة حرب على سوريا. ولعل هذا يفسر بعض الشيء، سر تجنب النظام الرد على ضربات إسرائيل شبه اليومية، مهما باتت محرجة، لأن إسرائيل تريد تدمير بعض أوراق القوة التي أراد النظام الاحتفاظ بها لنفسه، مثل أنظمة الدفاع الجوي، ومراكز البحث العلمي، بذريعة محاربة الوجود الإيراني، بعد أن جرى التخلص من الأسلحة الكيميائية، عبر صفقة دولية، ومن الصواريخ البالستية التي استخدمها النظام كلها تقريبا ضد شعبه.
الانفتاح العربي اليوم على النظام لن يسهم سوى في إطالة أمد المحنة السورية، لأنه ليس لدى النظام ما يقدمه للعرب، ويريد منهم فقط بعض الدعم الاقتصادي والشرعنة السياسية، وكل مطلع على تركيبة هذا النظام يدرك أنه غير قابل للتغيير أو الإصلاح، فإما الإطاحة به، أو التعامل معه كما هو، ويبدو أن غالبية العرب باتوا يميلون للخيار الثاني، كأسهل الحلول.
“تلفزيون سوريا”