من لا يقرأ التاريخ يعيد أخطاءه بحذافيرها.. ذلك ما يقوله الروائي التونسي حسنين بن عمو للمهتمين بالثورة التونسية، التي وقعت مطلع عام 2011.. لكن ابن عمو لا يقول ذلك في حوار صحافي أو مقالة سياسية، وإنما من خلال رواية سماها صاحبها «عام الفزوع 1864».
وعام الفزوع عمل أدبي من الحجم الكبير، من 589 صفحة، يحكي قصة ثورة تونسية أخرى سابقة عرفتها البلاد عام 1864، تعرف محليا باسم ثورة علي بن غذاهم. والرواية من الأدب التاريخي عن حقبة خطيرة مرت بها تونس في مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، وما تعلق منها بتدخل القناصل الأوروبيين وصراعاتهم على قطف الثمرة التونسية الناضجة للقطف، وما اتصل بعلاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وذلك في فترة حاسمة من تاريخ البلاد هي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة ما زالت آثارها فاعلة، بل حاسمة في حياة التونسيين لليوم.
تتناول الرواية بشكل خاص الأحداث الكبرى التي عرفتها الإيالة التونسية (تسمية محلية لنظام الولاية العثمانية) في عام 1864، ما قبله بقليل وما بعده بقليل.. تتناول حال البلاد وكيف وقعت فيها الثورة؟ وكيف تعاملت معها السلطة؟ وكيف تمكنت من التغلب عليها بعد أن وصل الباي (حاكم البلاد) إلى حالة من العجز عن جمع بضع مئات من الصبايحيّة والجند لقمع الثورة.. فكيف انقلبت اللعبة من صالح الثوار إلى صالح القصر؟ وما دخل القناصل في إدارة اللعبة، تمهيدا للاستيلاء على تونس، خاصة من قبل الفرنسيس؟
تنفذ الرواية لعمق النفس الإنسانية بطريقة سلسة أخاذة بارعة، تصور لك أبطالها حتى ليخيل إليك أنك عندما تنهض من مقامك ستلقاهم على قارعة الطريق حيث وليت وجهك..
تروي قصصا إنسانية كثيرة متشابكة ومتداخل بعضها ببعض، بطلها الأساس الشاب العاتي بن عيسى، الذي كان على صلة بعلي بن غذاهم زعيم ثورة 1864، تقتلعه رياح الثورة هو وأخته هنية الهاربة، تداري وجهها من اغتصاب شنيع تم تحت إشراف رجل السلطة المحلية في منطقة تالة، غرب البلاد، لتلقي بهما الحياة في جحيم الحاضرة تونس ونعيمها، فيجد نفسه في أحضان الحسناء للة شاذلية (للة صفة تفخيم تضاف للنساء صاحبات الجاه والوجاهة) وتجد اخته نفسها في حضن توفيق ولد شاذلية، وهما من أتباع وخدام الوزير الأكبر مصطفى خزندار.. وعلى امتداد مئات الصفحات تجري الأمور صعودا وهبوطا، وتتقلب الأيام بالعاتي فيصير فقيرا معدما، ثم تاجرا ميسورا يتاجر في الممنوعات، خاصة البارود، يمد به بعض القبائل الثائرة، تجمع البنادق وصناديق البارود تحوطا لهجوم الباي عليها. وتمضي الأحداث وتتطور بشكل درامي مفجع، حتى تنتهي بموت العاتي سجينا بعد موت سيده وقدوته ابن غذاهم في أسر الباي وسجونه المرعبة، وقبله يموت توفيق في سجن الخزندار، وتصاب أمه شاذلية باكتئاب عميق عقب موت ابنها الوحيد.
تكبر الثورة وتمتد مساحة البلد الخاضعة للثوار، حتى توشك أن تقتلع الباي ووزيره الأكبر وحاشيته من قصورهم وعيش الترف الذي يرفلون فيه، ويتزايد نفوذ الثوار، وعلى رأسهم قائدهم ابن غذاهم، وتخرج المدن والقرى والأرياف والقبائل واحدة بعد الأخرى من تحت سلطة القصر لتنظم للثورة.
الظلم مؤذن بخراب العمران
تجري الأحداث وتتداخل.. تبدأ الثورة عملا احتجاجيا سلميا، حين يقرر الباي فجأة أن يضاعف الضريبة على الرؤوس من 36 ريالا على الرأس إلى 72 ريالا، حتى يملأ جيوب خزينته الفارغة من الأموال، لتستجيب ميزانية الدولة للهوه وعبثه هو وحاشيته وطبقة المحيطين به، يسلبون الأموال من الجوعى والعراة، ويأخذون القروض الأجنبية، ويبددونها كلها في لهوهم ومجونهم، والناس من حولهم تزداد فقرا ومرضا وجوعا، والبلاد تزداد خرابا بعد عمران، والباي يطالب الناس بدفع المزيد، ينتزعونه من دمهم وعظامهم وعريهم. يغضب الناس ويحتجون ويلتمسون بأدب واحترام من الباي، أن يخفض الضريبة، حتى يكونوا قادرين على دفعها، لكن الباي يرسل قواته من الجنود النظاميين وخيالة الصبايحيّة المرتزقة القادمين من الجزائر، لينتزعوا أموال الناس من أيديهم بقوة السطوة والباطل، وحين لا تجد تلك القوات ما تنزع من الناس، تعبث في قراهم ودواويرهم وتعيث فيها فسادا، تفقر الفقراء أكثر، وتنكب من ظل في بيته بعض بقايا مال، فلا يبقى في الأيالة إلا فقير يجاور فقيرا وأرض بور أهملها الناس وزهدوا فيها فلا تكاد تنتج شيئا..
هنا يتعمق الغضب وتتحالف القبائل والعروش وتتعاهد على التمرد وعدم الخضوع للباي وتتواصى بالامتناع عن دفع الضريبة، التي كان الناس يعجزون عن دفعها حين كانت 36 ريالا فكيف بهم وقد تضاعفت وصارت 72 ريالا.. ويختارون الرجل الصوفي المتدين والمتعلم في محيط شبه أمي، علي بن غذاهم، ليكتب نيابة عنهم رسالة للباي، تلتمس منه تخفيض الضريبة، يأخذها وفد من الأعيان لسرايا باردو، لكن الباي يعلن رفض الالتماس وأصحابه، ويشدد على تمسكه بزيادة الضريبة، ويرسل قواته للعروش والدواوير والقبائل لتحصيل الضريبة، ليجد حينها الوفد وعلى رأسه علي بن غذاهم نفسه قائدا لثورة تتوسع ويزداد المنضوون تحت لوائها.
تكبر الثورة وتمتد مساحة البلد الخاضعة للثوار، حتى توشك أن تقتلع الباي ووزيره الأكبر وحاشيته من قصورهم وعيش الترف الذي يرفلون فيه، ويتزايد نفوذ الثوار، وعلى رأسهم قائدهم ابن غذاهم، وتخرج المدن والقرى والأرياف والقبائل واحدة بعد الأخرى من تحت سلطة القصر لتنظم للثورة، ويصل الأمر بالباي حد العجز عن تجهيز نصف ألف من الجند لقمع الثوار.. ويرابط الثوار غير بعيد من قصر باردو، لو شاؤوا اجتياحه ما وجدت قوة لتردهم.. لكن غلالة خفيفة من شرعية الحكم المستند للشريعة، والخوف من التورط في الدم وإزهاق النفوس، تمنع قائد الثوار من فعل ذلك، وهو ما سيلام عليه لاحقا ويندم حين لا ينفع الندم. في الاثناء تتعمق سلطة علي بن غذاهم المعنوية عند الناس، حتى سموه «باي الشعب» وتنجح القبائل المتحالفة في ضمان الأمن في الأرض، التي خلت من وجود سلطة الباي، وتستمر التجارة آمنة تحت سلطان ابن غذاهم، الذي نجح في تسوية الخلافات بين القبائل، حتى لكأنها باتت جميعا قبيلة واحدة ويدا واحدة على من سواها، تسير القوافل في أرضها آمنة مطمئنة، بينما الباي وحاشيته يخافون من أن تتخطفهم أيدي الناس من حولهم.
مكر الخزندار وتقسيم الثوار
لكن الوزير الأكبر خزندار لا يستسلم ولا يتراجع، وينجح في الاستحواذ على الصادق باي، يدير الحكم من خلفه وكأنه لعبة بين يديه.. وتنشط استخباراته في التغلغل في وسط القبائل الثائرة، في حين تتزايد تدخلات القناصل وضغوطهم، ويلعب القنصل الفرنسي خاصة دورا محوريا في تحريض الثوار من جهة ووعدهم بالعون والمدد، وتحريض الباي على شعبه، ويسعى لمنع تواصل تونس مع الدولة العثمانية، التي تتبعها إسميا، لإضعافها أكثر، على عكس القنصل البريطاني، الذي يشدد على أهمية تمتين العلاقة مع الأستانة، للحيلولة دون سقوط تونس في قبضة ومخلب القط الفرنسي المتربص. يواظب الوزير الأكبر في جهوده لاختراق الثوار، بالوعد والوعيد، والإغراء والتهديد، وسريعا تبدأ عملية التلاعب بوحدة الثوار تؤتي أكلها، ويقع استدراجهم بالخديعة حتى يقع تمزيقهم إربا إربا، من خلال تغذية المطالب الفئوية الخاصة بكل قبيلة، فيعود الصراع والتنافس بين القبائل والعروش، وتنقلب فجأة وحدة الثوار إلى حرب وتنازع وتناحر بينهم، وتنحاز قبائل بأكملها لصف الخزندار ضد الثورة والثوار، فكأنهم ما عرفوا وحدة وما تعاهدوا على الثورة وما امتنعوا يوما عن دفع الضرائب.. وبينما حرص ابن غذاهم على استمرار ثورته سلمية، لا يريد أن يرى مسلما يقتل مسلما آخر، تمرد عليه بعض النفر ممن كانوا يخضعون له من قبل، وكانوا يحذرونه على الدوام من غدر الخزندار، ويدعونه باستمرار لاستغلال ميزان القوى الراجح لصالح الثورة لحسم الأمر من دابره قبل أن تتغير الرياح السياسية، لكن ابن غذاهم ظل على رفضه لاستخدام السلاح، فعصوه حين رأوا الغدر ماثلا، لكنهم حملوا السلاح حين لم يكن ينفع حمل السلاح، في وجه قوات استعادت زمام المبادرة وتسلحت بأسلحة ثقيلة في مواجهة بنادق قديمة لا تغني في مواجهة المدافع شيئا.
نجح مصطفى خزندار أخيرا في تفتيت صف الثورة، وبدأ قضمها قبيلة بعد قبيلة وعرشا بعد عرش، حينما أشاع أن علي بن غذاهم يطلب قيادة عرشه لأخيه، ويطلب هنشير الروحية لنفسه، يبني فيه زاوية وطريقة صوفية خاصة به.
المطالب الفئوية تمزق الثورة
نجح مصطفى خزندار أخيرا في تفتيت صف الثورة، وبدأ قضمها قبيلة بعد قبيلة وعرشا بعد عرش، حينما أشاع أن علي بن غذاهم يطلب قيادة عرشه لأخيه، ويطلب هنشير الروحية لنفسه، يبني فيه زاوية وطريقة صوفية خاصة به، فإذا القبائل والعروش كلها تنسى الباي وخلافاتها معه، وتنسى ثقل الضريبة ودواعي الثورة، وتفكر كل قبيلة في مصلحتها، وكل شيخ عشيرة في نفسه وأهله الأقربين، فإذا الثورة أثر بعد عين، وإذا الثوار مجرد غبار نفخت فيه ريح الوزير الاكبر فتلاشى كأن لم يكن.. هنا تبدأ دولة الباي ووزيره الأكبر الاستفراد بزعامات الثورة وعروشها وقبائلها واحدة بعد واحدة، وتنشط آلة القمع في القتل والخطف والتعذيب، وتتساقط الرؤوس رأسا بعد رأس، وتمزق السياط الأجساد جسدا بعد جسد، ويحمل من عاش منهم إلى سجن الكراكة في حلق الوادي، ليموت بعضهم تحت التعذيب أو إهمالا ومرضا، بينما يقتل من أسعفته بنيته الجسدية القوية ليبقى حيا، غدرا وغيلة وحيلة، لتنتهي الثورة بانتقام الدولة العميقة من الثائرين عليها شر انتقام. هنا يلجأ ابن غذاهم لامتداد قبيلته في الجزائر الخاضعة للاستعمار الفرنسي، وهناك يجد نفسه عرضة لاستخدامه ضد بلاده من قبل الفرنسيين، الذين كانوا يتحرقون شوقا لاستغلال كل فرصة لإسقاط تونس في حبائلهم، فيقرر العودة لتونس، رافضا مساندة «كافر» للسطو على بلد مسلم، مستندا إلى ضمانات رجل دين شهير من رجال الصوفية، ممن لهم أتباع كثر في الجزائر وتونس، وممن لديهم حظوة كبيرة لدى الباي، لكن لا الباي ولا وزيره الأكبر خزندار يعرفان معنى للوفاء بالعهد ولا احترام رجل الدين، الذي بلع كلامه وذهب للحج تاركا ابن غذاهم يواجه مصيرا قاتما تحت سطوة الباي وعسكره.
من لا يقرأ التاريخ يكرر حماقاته
لعل تفاصيل هذه التراجيديا قد خطها حسنين بن عمو وهو يرى الأمر يتكرر في ثورة تونس عام 2011، فالثورة السلمية الجديدة، التي لم تسلك سبل الانتقام من النظام القديم، حتى سميت ثورة ياسمين، ورضيت ببقاء جسم النظام كاملا معافى بعد هروب زعيمه، ولم تؤسس نظاما جديدا على أنقاض القديم، ها هو النظام القديم ينتقم منها شر انتقام، بعد أن استعاد المبادرة، وتمكن من تفتيت الثورة والثوار وتقسيمهم، حتى لكأن ابن عمو إنما كتب ما كتب وهو يرى المطلبية والقبلية الجديدة والدكاكين الحزبية والنقابية والأيديولوجية تعيد سيرة التناحر الأولى، فتدمر الثورة كما دمرت ثورة عام 1864 وتخرج لها من بطن الدولة العميقة من ينفخ في غبارها فإذا بها من جديد هباء منثورا.
وكما تدخل السفراء والقناصل من قبل ها هم اليوم يواصلون تدخلهم في الوضع التونسي بعد الثورة، بعد أكثر من قرن ونصف قرن من نهاية ثورة ابن غذاهم، وكأن تاريخنا جامد يراوح مكانه، رغم مرور العقود المتطاولة، حتى لينجح بعضهم في تحريض قوى من الداخل على وقف مسار انتقال ديمقراطي متعثر، عبر وضع دبابة في بوابة البرلمان وإنهاء حلم جميل، يكاد يستحيل اليوم كابوسا. فالجمهورية التي ورثت الإيالة ما زالت تحفل كما كانت من قبل بقصص التدخلات الخارجية وصراعات القناصل على الإيالة الجمهورية، التي كانت وما زالت تأكل بعضها بعضا بصراعاتها وانفلات عقال العقل من أهلها، حتى غدت لقمة سائغة في يد الفرنسيس، فلم يبذلوا من قبل جهدا كبيرا لاحتلالها بعد 16 عاما من عام الثورة والفزوع، وكأن ليس بالعهد من قدم، فالبلاد التي ثارت للمرة الثانية تجد نفسها على حافة الإفلاس مجددا، ينتظرها نادي باريس لتتداعى عليها الأمم من جديد تداعي الأكلة إلى قصعتها وقد جهزت وفاحت روائحها الشهية للبلع.
كاتب تونسي