أحد أهداف المرء في الحياة هي النجاح في ما يستطيع فعله، حتى يتم تخليد ذكراه حتى لو بين المحيطين به فقط. وفي حال انتفت صفة التميُّز عن المرء ولم يكن في مقدوره ابتكار شيء حتى يصل لغايته من النجاح، فإنه يلجأ لحيلة لفت الانتباه من أجل تقفِّي أفعاله أو أقواله، وحينها يحقق غايته في النجاح. وكلما كانت طريقة لفت الانتباه مبتكرة وغريبة، اتسعت دوائر الشهرة، وربما خلّد التاريخ ذكراه من جرَّاء هذا. إلا أن الشهرة الناجمة من لفت الانتباه تعد سلاحا ذا حدِّين؛ لأن تحقيقها يتطلب الثبات على الموقف وعدم تغيير طريقة لفت الانتباه مهما كانت. فبمجرَّد اللجوء للطرق القويمة في السلوك، يفقد المرء تميُّزه، ويتوارى خبره في طيَّات من النسيان. فعلى سبيل المثال، يتذكر الجمهور في مباريات كرة القدم من ارتدى ملابس خارجة عن نطاق المألوف؛ لكن حالما ارتدوا الملابس المعتادة، لا يتعرَّف عليهم أحد.
وقد يظن البعض أن حِيلة لفت الانتباه قاصرة على الألعاب الرياضية، أو على عالم الأطفال الراغبين في أن يستدرُّوا العطف، فهذا جزء لا يذكر من الحقيقة. يلجأ الكثير من البالغين لحيلة لفت الانتباه في معترك الحياة اليومية لتحقيق مآربهم. فالتجاهل في بيئة العمل يحمل الكثير لانتهاج سلوك غريب حتى يحظوا بالوجود في دائرة الضوء؛ فمنهم من يتظاهر بالكرم الشديد، أو يحترف نقل الأخبار بين الأقران، أو يصبح من يخبر رؤساءه بكل شاردة وواردة في بيئة العمل. وبالدخول إلى ذلك النفق المظلم، لا يستطيع التراجع، ليس فقط خشية من فقدان ما حققه من شهرة، بل لأنه قد يدفع ثمناً غالياً نظير ما اقترفه من أفعال، بالتأكيد أضرَّت بمن حوله.
ولو كان ذاك هو الحال في بيئة العمل، فإن الأمر بين المحبِّين أقوى وأعنف، ودون الخوض في أخبار المحدثين من العُشَّاق الذين خلَّد التاريخ اسمهم وتسامح معهم، على الرغم من إبراز العشق بطرق غير مألوفة، يلاحظ أن الرجوع للماضي وإلقاء الضوء على خبر «روميو وجوليت» أو على من سبقهما من عشَّاق خروجوا أيضا عن المألوف، كما ذُكر عن قيس بن الملوَّح مع ابنة عمه العامرية، أن حكايات العشق تعجُّ بغرابة تدهش لسماعها الآذان.
وقيس بن الملوَّح العامري الهوازني (24-68 هـ) يعد واحدا من أبرز شعراء العصر الأموي الذي عاصر خلافة مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، وعاصر فترة تحوُّل الخلافة الأموية إلى بيئة حضرية متمدنة تقطع أواصرها بالبيئة البدوية، ولم يعد لأهل البادية فيها مكانة متميَّزة. ومن ثمَّ، كان من وقت لآخر يظهر أحد شعراء البادية ويكتب اسمه في سجلَّات الخلود من خلال الخروج عن المألوف. وفي هذا السياق، نجد أن من عاصر الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة كان الشاعر العذري قيس بن الملوَّح، الذي اكتسب الشهرة لأنه شاعر متيَّم. وعلى نقيض عمر بن أبي ربيعة المشهور بحسنه وجرأته مع النساء، لم يذكر التاريخ شيئا عن الصفات الجسدية لقيس بن الملوَّح، فكل ما ذكره التاريخ هو أشعاره التي تهيم شوقًا ومحبة لابنة عمه ليلى العامرية التي كانت بدورها أيضا شاعرة، وإن كانت أشعارها ليست بالكثيرة أو الشهيرة، لكن خبر عشقها لابن عمها أضاف لها شهرة، جعلت الناس يستمعون لشعرها.
كان قيس من الذكاء والحصافة أن يخلِّد ذكراه في التاريخ من خلال ادِّعاء الجنون، لأن موهبته الشعرية القاصرة على تأليف أشعار الغزل، لا تمكِّنه الخوض في ألوان أخرى من الشعر، كما يفعل كبار الشعراء.
وملخَّص حكاية قيس وليلى، أنهما كانا رفيقي طفولة، يرعيان الغنم معا في البادية، فيتسامران ويلعبان، كما يفعل الأطفال. ولمَّا ظهرت علامات الأنوثة على ليلى حجبها أهلها. فهام بها شوقا ابن عمّها قيس، وأخذ ينشد أشعارا يتغزَّل فيها علانية. وعلى الرغم من أنه يعلم تماما أن أهل البادية اعتادوا منع زواج الفتاة من شاب هام بها علانيةً، لكن قيس أصر على التقدُّم لخطبتها، في الوقت نفسه الذي تقدَّم فيه «ورد» لها. وبطبيعة الحال، وكما هو متوقَّع، جنى قيس الرفض، بينما تزوَّج ورد، ليلى.
وبدءا منذ ذاك الحين، أخذ قيس يهيم في الصحراء ويسافر للشام ونجد ويؤلِّف أعذب أشعار الحب والغزل في ابنة عمّه، على الرغم من أنها متزوِّجة من آخر، بل بلغت به الجرأة أن ذهب يوما إلى زوجها، بينما كان يشعل نارا في ليلة باردة ليتدفأ بها، وسأله هل لمس ليلى وعاشرها، وكان الرد الطبيعي للزوج بأنه فعل هذا. ولتخليد حسرته عند سماع ذلك، تناول قيس جمرتين في كلتا يديه، ولم يتركهما إلا بعد أن احترقت يداه، وفاحت رائحة شواء منهما. وقد كرر ذلك الموقف تقريبا عندما قابل ليلى في أحد المجالس السلطانية التي كان يلقي فيها أشعار الغزل التي يكتبها. فكان بدلا من مناولتها الفاكهة، كان يصرّ على تقطيعها لها، ومع تقطيع الثمرة، كان يقطع لحم يديه مدعيا أنه لم يشعر بذلك ولم تؤلمه الجروح.
والحكايات عن قيس وهيامه بابنة عمه كثيرة؛ وفي كل حكاية، كان يعمد إيذاء نفسه ليوضِّح شدَّة عشقه. وكما هو معروف، فإن قيس بن الملوَّح معروف باسم «مجنون ليلى» وهذا اللقب هو نفسه من صاغه وأسبغه على نفسه في أحد أشعاره.
وبنظرة حديثة فاحصة لقصة العشق تلك، نجد أن الطب النفسي يؤكِّد أن مثل ذلك السلوك الهستيري هو محاولة مستميتة للفت الانتباه، من خلال المبالغة والتكلُّف في التصرف في مشاهد درامية مؤثرة، من أجل أن يحظى بالاهتمام الذي يبغيه؛ حيث إن قيس هو ابن عمّ ليلى ومن القبيلة نفسها، وعلى دراية بكل العادات والتقاليد. ولو كان حقًا راغبا في الزواج منها، ما كان يفضح أمرها، أضف إلى ذلك، فإن إدعاءه الجنون هو حيلته للتنصل من أي عقاب أو أذى قد يصيبه من جراء تصرفاته الهوجاء، بل على العكس، مثل ذلك السلوك الهستيري الذي أصرَّ أن يبدو وكأنه «اضطراب تحولي» Conversion Disorder بسبب تصرفاته الغريبة من قطع وحرق يديه وهيامه في الصحارى وادعاءه الجنون ـ هو الوسيلة التي تقرِّبه من الآخرين فيستدر عطفهم، ويستمعون في الوقت نفسه لأشعاره ويخلدونها بسبب التعاطف معه. لقد كان قيس يعي مدلول كل حرف يقوله، وعلى دراية بأن بيئته البدوية تمجّ ذاك السلوك.
كان قيس من الذكاء والحصافة أن يخلِّد ذكراه في التاريخ من خلال ادِّعاء الجنون، لأن موهبته الشعرية القاصرة على تأليف أشعار الغزل، لا تمكِّنه الخوض في ألوان أخرى من الشعر، كما يفعل كبار الشعراء.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”