لست مطالبا بأن تكون محاربا أو مدفعيا، حتى تعرف مصطلحات الحرب. فالاستعارات التي دخلت من بوابة الحرب إلى الكلام اليومي جعلت القاصي يعرف هذه التجربة، والداني. ومن غابر الأزمان استعملت عبارات من معجمي القنص والحرب في التعبير عن تجربة الكلام نفسها، فضلا عن تجارب أخرى عاطفية، وأهمها تجربة العشق.
للكلام فلكان كبيران: واحد يجعل التجارب اليومية والأفكار والعواطف تدور في نسقه، والثاني يجعل نفسه فلك ذاته. بعبارة أوضح، للكلام قدرة على أن يتناول تجارب خارجية وأخرى لصيقة به، ويكون ذلك عندما نتحدث بالكلام عن الكلام. حديثنا في هذا المقال سوف يكون عن هذا الضرب الثاني من الكلام، الدائر في فلك نفسه وعلى ضرب منه مخصوص هو الذي يستعمل عند الحديث عنه تجربة الحرب.
كان أبو شهيد الأندلسي في مفتتح رسالته «التوابع والزوابع» قد استعمل شيئا من هذا القبيل حين قال: (لله أبا بكر ظن رَمَيْتَ فأصْمَيْت) يعني أن ظنّ مخاطبه كان في محله مثلما يكون السهم في محله من الفريسة، إذ يصيبها في مقتل فتقضي لساعتها. فالإصْماء إزهاق روح الحيوان سريعا بعد رميه. هي صورة لا ترومها النفس التي تكره قتل الحيوان، لكنها تقع في نفس كل محب للصيد موقعا جميلا. استعارية الرمي بالكلام والإصابة فيه مستمدة من تجربة الإنسان مع القنص؛ فالكلام سواء أكان ظنا، أم غيره من أشكال الاعتقاد إن هو إلا رَمْيٌ بالسهام في اتجاه هدف أو فريسة، فإنْ أصابها فأصماها كان قد حقق مبتغاه، وإن لم يُصب وخالف حاد عن مبتغاه. يسمي العرب إصابة الفريسة وعدم قتلها في الحال إنْماءً وهذا قليل استعماله في استعارات الكلام، لأنه لو استعمل فيه لعنى أنك تصيب هدفك بعد طول حديث وبعد جَلَبَةٍ وهِيَاطٍ ومِيَاطٍ وتَعبٍ. ومن الأحاديث الشريفة قول الرسول عليه السلام: (كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ). قال ابن الأثير في «غريب الحديث والأثر» شارحا: «ما أصَبْتَه ثم غابَ عَنْك فماتَ بعد ذلك فدَعْه لأنك لا تَدْرِي أمَاتَ بصَيْدِك أم بِعَارِضٍ آخَر». ومثلما نهى الفقهاء الصيادين عن أن يأكلوا من الفرائس ما قتل بعد إصابته من غير أن تراه عين الصائد، كرهوا في الكلام أن يؤثر بعد استطالة وإجهاد وقطع نفس، فأنت ترى أن المسألة ليست فنية لكنها إدراكية مرتبطة بعقل كلي يتعامل مع الكلام البات الصارم، مثلما يتعامل مع الصيد المُصْمَى ويتعاملون مع الكلام غير البات وغير الصارم تعاملهم مع الصيد المنمى.
ما يقال هنا في العربية هو شأن العامية أيضا، فهذا أحمد فؤاد نجم يقول: «مر الكلام زي الحسام // يقطع مكان ما يمر» فجعل الكلمة الناقدة كالسيف القاطع. وفي تونس يقول العامة عندنا عن شخص لا يلوك الكلام في فمه إنه «يذبح بالحامي» أي حين يكون النصل حادا والرقبة ساخنة للذبح ويعنون به أن المتكلم لا يجعل كلامه باردا بل يلقيه نارا تلظى، فيحرق من يصيبه مثلما يحرق السكين حين يذبح. وقع الكلمة في النفس الحية له أثره الفاجع فيها له تجربة مع الكلام المر، أو الناقد أو الهاجي يجعله يلجأ إلى تجربة لم يعشها، لكن يتكهن بها هي تجربة الصيد أو الحرب لينقل بها النيران التي تخلفها الكلمة في نفسه. يعتقد البلاغيون القدامى أن في ذلك إبرازا أو مبالغة، لكن اللسانيات العرفانية الحديثة تسمي ذلك بناءً للكون. والفرق بينهما أن من يُخرج الكلام من منظار المبالغة يَعتقد أن الواصف لم يعش الحالة التي تصفها اللغة بالضبط، بل عاش أقل منها، غير أنه كعليلين يشكوان من السقم البسيط نفسه، فواحد منهما يبالغ والآخر يعيش الوجع بلا ضجيج، لأنه لا يستحق ذلك الضجيج. فكرة البناء المعاصرة، ترى أن المتكلم يطل على وجعه كما يؤثر فيه ذلك الوجع ويصفه بالعبارات التي يقتضيها، ومن هذا السياق فإن أبا العلاء المعري قال قديما تقريبا ما قاله فؤاد نجم: (فانفرد ما استطعت: فالقائل الصا// دق يضحي ثقلا على الجلساء) لم يستعمل أبو العلاء صورة السلاح لأنه لم يحتجها؛ اختار الانسحاب بدلا من خوض غمار الحرب. مثلما اختار في القصيدة نفسها الحديث عن الظن حديثا صريحا بدلا من استعمال صورة الحرب له حين قال: (كذب الظن لا إمام سوى الـــ// ــعقل مشيرا في صبحه والمساء) ولو استعمل صورة السلاح التي استعملها ابن شهيد لقال عن الظن: ظن يرمى فلا يصمى. البلاغة القديمة ترى في استعمال الاستعارة مزية لكن فكرة البناء العرفانية تعتقد أن المسألة مرتبطة بالكيفيات التي نطل منها على المعاني: من استعمل الحرب كان الكلام لديه على خط النار.
للكلام فلكان كبيران: واحد يجعل التجارب اليومية والأفكار والعواطف تدور في نسقه، والثاني يجعل نفسه فلك ذاته.
في الثقافة المعاصرة، ثقافة الرصاصة والرشاش والمدفعية غير الكلام استعاراته الحربية وبتنا نشبه الكلام بالرصاصة، فيكون الكلام على خط النار، يعني خط النار مسار القذيفة بين السلاح والهدف، لكن الجسد يمكن أن يتحرك عند تحريك السلاح وقت القذف. وهذا ما يعدل مسار القذيفة ما يعني أن نراعي في الأصل تعديل نقطة الهدف. في الكلام يمكن أن يحدث هذا بين المتكلم الرامي ومقصده الهدف بأنْ يلعب المتكلم على تعديل الكلام ليصيب هدفه مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. في سياقات كثيرة يمكن أن يلعب التعديل على المعجم بأن تختار ما يقلل من وطأة الكلمة، أو العبارة على من ترميه بكلامك. يعرف المدرسون أن من أخلاقيات المعلم أن يكون خفيفا على من يتعلم، فلا يرميه بأبشع النعوت التي تقتله بل يختار معجما معتدلا مشجعا ومحفزا من نوع: (هذه إجابة قريبة والمرة المقبلة ستكون الإجابة أقرب) القرب والبعد مفهومان حربيان أيضا، فالمتعلم وهو يجيب يكون كمن رمى هدفا وعليه أن يصيبه، فإن أخطأ كان رميه بعيدا، لكنه إن حاول وفِّق. نعيش ونحن نتعلم وضعية من يرمي ويريد أن يصمي، والمعلمون يراقبون مراقبة ماهر خبير في القنص أو في تعليم الرماية.
المتكلم/ المتعلم ينظر إليه دائما على أنه رامٍ ينبغي أن يكون خبيرا، ولذلك راج استعمال المثل (علمته الرماية فلما اشتد ساعده رماني). المعلم يتمتع بقداسة من يعلم كيف تطلق الكلمات كالسهام أو كالخراطيش لتستقر في أهدافها، فبراعة من يتعلم هي براعة من يتكلم هي براعة من يطلق سهمه وقداسة المعلم أنه يعرف تقنيات الوصول إلى الصواب مثلما يعرف معلم الرماية تقنيات الإصابة. هناك جناس شبه تام بين صواب الجواب وإصابة الهدف والبيداغوجيا اليوم تستعمل كثيرا من كلمات جاءتنا من خط النار، كالأهداف وكالصواب والخطأ وغيرهما. لكن المعلم المحارب لا يعترف بتفوق من يعلمه، فيعد ذلك خرقا للقداسة: عليه أن يتمتع بلعبة الإتقان وأن يظل سر التعليم مرتبطا به ولا يورث.
المتكلم/ المستمع العربي اليوم يوجد في نقطة ما من خط النار في الخصومات الكلامية، التي تملأ الشارع، هنا وهناك، وعلى مرآى ومسمع منك يمكن أن تطولك الطلقة من الكلام النابي، الذي يقض مضجعك مستمعا، ولا تستطيع له ردا لأن الكلمة كطلقة الرصاص لا ترجع إن أطلقت. المتكلم الذي يستعمل الكلام الجارح في الشارع أو في مكان عام، هو كمن يطلق رصاصا ولا يعدل من جسده فيمكن أن ترمي غير من أراد رميه. فكرة البناء التي ترى أن كل إنسان يبني الكون ويملؤه بالعيارات التي يراها مناسبة تجعلنا أمام أشكال قصوى من العنف ومن حرب الكلام، التي يمكن أن تصل إلى الضرب واللطم، وربما إلى القتل. يبدأ الكلام الحرب وينتهي إلى عنف أكبر في مساحة النار التي يمكن أن تستغرق آمادا وتجمع خلقا كثيرا يتقاتلون بالكلام وبدءا من الكلام وانتهاء به.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
“القدس العربي”