في إحدى لحظات التجاذب التي تنزل بي أحيانا لاتّخاذ قرار في فعل شيء ما أو عدم فعل أيّ شيء، أجلس بملل في غرفة المعيشة، عن يميني كتاب وأوراق وفواتير، وعن يساري هاتفي الذكي.. جدّا. لا مزاج لي لأيٍّ منها.
أحدّق إلى زاوية السقف المقابلة لي.
ألم أقتلها أمس؟
عنكبوت تتدلّى على مهل من خيطها الحريري. ترتفع سريعا لتكمل نسج خيوط بيتها المرنة اللزجة بحركة مدارية بدءا بالوسط، من الداخل إلى الخارج، ومن ثمّ بالعكس، ضاخّة عليها سموما عصبية تشلّ فرائسها بعد التصاقها بالشَرَك. تضيء شاشة هاتفي، ما يزال نظري مُمعنا في إتقان العنكبوت، يضيء رأسي ذهولا!
«مان!» أقول لنفسي، «ملا راس… ملا راس يلي طلع بالكلمة!».
الشبكة العنكبوتية.. الاسم الذي أُعطي للشَرَك الإلكتروني الذي يتيح لنا استخدام الإنترنت ونجومها الأسطع: وسائل التواصل الاجتماعي. «فرويد؟!» أقول بصوتٍ عالٍ، مذهولة من جديد. فرويد معجب بالستوري خاصّتك، هكذا يَظهر في الإخطار على شاشة هاتفي، تلوّنهُ أربعةَ قلوبٍ حُمر ورسالة تحتها. لطالما استهواني علم النفس، ولو أردتُ تحصيلَ درجةٍ جامعيةٍ ثانية بعيدة من اختصاصي الترجمي واللغوي، لاخترته حتما، لا لسبب إلا لفهم البشر الذين فنى فرويد – المعجب بالستوري خاصتي- وونت وجايمس ويونغ وسواهم أعمارهم ينقّبون، يجرّبون، يمحّصون، يحكّون رؤوسهم فيما أقدامهم تؤلّف إيقاعاتٍ موتورة فهادئة فموتورة على بلاط أرض غرفهم، هائمين في متاهات نفوس تلك الكائنات، علّهم يخرجون بتحاليل تفكّ لغزها. أفتح رسالة فرويد: «فلنحتسِ نبيذا جيدا الليلة..» كَتَبَ مُتبِعا جملته بغمزة.
هل تنّورتي القصيرة في الستوري هي السبب؟ بمَ أجيبه؟ أيّ امرأةٍ بكامل قواها العقلية تقبل المثول أمام كأس فرويد؟ ماذا لو رفضتُ دعوته؟ «معقول يفقعني بلوك؟» أم سيلغي صداقته معي؟ حتى إن ألغاها، في إمكانه أن يظل يتابعني ويترصّد تحرّكاتي ومنشوراتي دون علمي.. «ملا علقة! لو بلغي كل هل سوشال ميديا مش أفضل؟!» أشاور نفسي. عالقون نحن في خيوطها. مخدّرون بسُمّ التواصل «الاجتماعي» المزعوم. نخضع لخوارزميات انتقائية وأحيانا إقصائية. ننصاع بكل سرور إلى خيارات اتُخذت نيابة عنّا. نقبل أوامر وإرشادات وأنظمة وقوانين وتحديثات صيغت ظاهريا لصالحنا. نستعمل ميزات طُوّرت لغايات تُسوَّق على أنها سامية كأن تمنحنا، وهميا، حرية الرأي والتعبير (كحق من حقوق الإنسان) وتنفخ أرياشنا بالقدرة على التصرّف تجاه الآخر بما يلائم مزاجنا، أو المزاج العام وأحكامه ردءاً لأي أحكام مسبقة أو ملحَقة. نُصاب بإدمان ما يروق لي أن أسميه «رفع الأسوار» التي تضع من نريد خارج أراضينا، أو داخلها، وَفْق استنسابنا المطلق. نُصاب بعدوى التقليد، وبالرغبة في الانعزال، وتلطشنا شتى الاضطرابات العقلية والنفسية التي ضخّمت هذه الشبكةُ أورامَها، فننفق وقتنا ومالنا في عيادات المعالجين النفسيين الذين يحاولون، بكل ما ورثوه عن آبائهم السايكولوجيين، مساعدتنا في فهم ما نفعل أو إفهامنا ما يُفعَل بنا. نفهم روعة البلوك مثلا، أي الحَجْب، هذه الميزة التي تتيحها تطبيقات ومنصّات كثيرة منها الواتساب وفيسبوك وإنستغرام.
البلوك رائع لأنه يُفصح عن دلالات نفسية مثيرة لكل من الحاجب والمحجوب. استعملتُه بضع مرّات للتخلّص من متلصّص ومتعقّب، وآخر متحرّش، وواحد نرجسي منحرف، واثنين أحدهما متشدّد طائفي، والثاني حزبي لا يفقه من فكر حزبه نقطة. طوبى للبلوك!
البلوك رائع لأنه يُفصح عن دلالات نفسية مثيرة لكل من الحاجب والمحجوب. استعملتُه بضع مرّات للتخلّص من متلصّص ومتعقّب، وآخر متحرّش، وواحد نرجسي منحرف، واثنين أحدهما متشدّد طائفي، والثاني حزبي لا يفقه من فكر حزبه نقطة. طوبى للبلوك!
أنا نفسي تعرّضتُ للحَجْب مرّات ومرّات ممن امتعضوا من رفضي تملّقهم، أو غزلهم الإباحي، أو عروضهم لدعوات العشاء وملحقاتها. وكذلك حجبني معجبون أو «أصدقاء» اعتبروا ردّي المتأخّر على رسائلهم إهانة لهم، وتجاهلي تحيّاتهم المنسوخة المتكرّرة تعاليا عليهم. حجبوني لعدم مداعبتي أحاسيسَهم المكتوبة، وعدم تتبّعي مواعيد نومهم واستيقاظهم، وقلّة مراعاتي تقلّبات أحوالهم النفسية، وعدم تنبّهي لكل قطبة ظاهرة ومخفية في نسيج حياتهم. طوبى للبلوك! ماذا لو تناقشت و»فرويدي» في ذلك؟ أعتقد أنّ آليات الدفاع النفسية، التي كتب عنها، تنطبق على فعل الحَجْب هذا، بمعزل عن صواب دواعيه أو عدم صوابها. أن تحجُب من يُسيء إليك، فأنت تدافع عن حيّزك الشخصي وصحّتك العقلية والنفسية. في هذا الدفاع عن النفس نوع من تمكين الذات بوضع حدّ لسلوكيات لست مضطرا إلى التعرّض لها أو اجتناب سماع آراء في رأيك لا تستحق أن تصغي إليها أساسا لضيقها ونمطيتها وببغائيتها، وهكذا تعزل المسيء إليك وتتسامى على إساءاته. وأن تحجُب من تهيم فيه، من أبعدتك عنه موانع واعتبارات ما، فمن أجل أن تحصّن ذاتك ضد إعصارات قلبك. وأن تُحجَب، كما حصل لي، يعني أنّ من حجبكَ لا يتقبّل الرفض، حتى لو كان رفضك له مسوَّغا، فيحاول أن يستقوي بـ»البلوك» الذي يمنحه سطوة عليك. ردّ فعله العكسي يشكّل إنكارا منه لضعفه، لاعتقاده أنه بسلب قدرتك على التواصل معه ربح معركة، أخرجك من دائرته، رفَضَكَ. هو يُظهر جوعه للانتباه والاهتمام المتواصلين من الجميع، ويعتبر نفسه أولوية. يحجبك لأنك لا تهبّ لتكريمه متى أراد ذلك، فيحاول أن يُسقط عليك مشاعر الذنب بتقريعك ويزيح عن نفسه عجزه عن ضبط انفعالاته، فيفجّرها فيك من خلال عزلك. وفي ذلك تكون تصرّفاته هذه استرجاعا لتصرّفاته الطفولية التي تدلّ على عدم نضجه العاطفي.
مذهل كيف تملك كبسة زر كلّ هذه التأثيرات…
من المؤكّد أنّ فرويد سيعقّب على تحليلاتي بالحديث عن درجة المناعة العاطفية لكلّ منا إزاء هذا الفعل، وبالقول إننا لا نحتاج إلى كبسة زر لحجب أحد. عقلنا قادر على ذلك، بلا أي ردّ فعل. التجاهل مثلا من أقوى البلوكات العقلية وأنجحها. هذا طبعا ما لم يستفض في تحليله لشخصيتي من خلال ما أنشره على السوشال ميديا… لم يأتِ مؤخرا بأي نظريات مكمّلة لنظرياته.. ربما لأنّ مرضاه أبدلوا بكرسيه الشهير الشاشات التي يحتمون خلفها، غافلين عن هشاشة وجودهم الافتراضي الواهن بوهن البيت الذي يؤويه. والعنكبوت.. ما تزال تغزل خيوطها، وتصطاد فرائسها، وتكرّس في نهاية المطاف عمل الحبيب فرويد وزملائه.
عليّ قتلها!
كاتبة لبنانية
“القدس العربي”