من «ألف ليلة وليلة» موئل الحكايات ونبع الخيال، استلهم الموسيقار الروسي ريمسكي كورساكوف، موسيقى شهرزاد، التي وضعها في قالب المتتالية السيمفونية، ومنذ أن تصاعدت أنغام تلك القطعة الموسيقية، وملأت أسماع الوجود سنة 1888 وحتى اليوم، نجحت في أن تكون هي التعبير الموسيقي الأسمى، عن كتاب الحكايات المثير الغامض الذي يعرف لدينا باسم «ألف ليلة وليلة»، ويعرف في الغرب بالاسم نفسه أيضاً، وكذلك باسم «الليالي العربية»، بل إن مقطوعة كورساكوف في بعض ألحانها، استطاعت أن تكون مرادفاً موسيقياً متخيلاً لصوت شهرزاد، ومعادلاً نغمياً لأجواء بغداد وأزمنتها القديمة، ومغامرات البر والبحر، وقصص الدراويش والأمراء، وإلى ما هنالك من حكايات ألف ليلة وليلة، التي ألهمت الكثيرين شرقاً وغرباً في مختلف الفنون.
حازت مقطوعة كورساكوف شهرة واسعة ربما طغت على شهرة مؤلفها، أو ربما كانت هي السبب في شهرته، فهي أشهر أعماله على الإطلاق، وارتبط اسمه باسمها ارتباطاً قوياً، إلى درجة أن هناك من تقتصر علاقتهم بريمسكي كورساكوف على سماع موسيقى شهرزاد وحسب، وقد لا يفكر البعض في سماع مؤلفات الموسيقار الأخرى واكتشافها، كما لو أنه لم يؤلف شيئاً سواها. وكذلك قد لا يحاول البعض سماع أعمال موسيقية كلاسيكية أخرى، تم تأليفها من وحي ألف ليلة وليلة وحكايات شهرزاد، كأنه يكتفي بموسيقى كورساكوف عن غيرها.
لم يكن هذا الموسيقار واسمه الكامل نيقولاي أندرييفيتش ريمسكي كورساكوف، من الفنانين الذين عاشوا حياة أليمة، وعرفوا التقلبات الدرامية العنيفة، وانهزموا أمام القدر وأهواله، فلا نجد في حياته المآسي المفجعة، التي نجدها عند فنانين آخرين، أو عند موسيقيين آخرين على وجه الخصوص. فإن ريمسكي كورساكوف الذي ولد سنة 1844 وتوفي سنة 1908، نشأ في عائلة نبيلة وعاش حياة هادئة مستقرة، كان ضابطاً بحرياً قبل أن يتفرغ لتأليف الموسيقى وتعليمها ورعاية شؤونها، وتولي بعض المناصب الخاصة بهذه الأمور، ويُلمح لديه ذلك الاهتمام بالشرق والولع بالخيال الشرقي، ومحاولة الوصول بموسيقاه إلى ثقافات أخرى، بالإضافة إلى ثقافة بلده بالطبع، ويظهر هذا في عناوين بعض أعماله مثل «صادقو» و«عنتر» و«الديك الذهبي» و«الموسكوفية» و«خطيبة القيصر»، وغيرها من الأعمال، كما تنوعت مؤلفاته بين الأوبرا والقوالب الموسيقية المختلفة. وينتمي كورساكوف إلى المذهب الرومانتيكي، ويعد من أواخر الرومانتيكيين في القرن التاسع عشر.
الافتتان بشهرزاد
رغم قيام بعض المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين في الغرب، بتأليف مقطوعات موسيقية من وحي ألف ليلة وليلة، وبعض هذه المقطوعات يحمل اسم شهرزاد أيضاً، إلا أن هذا العمل لريمسكي كورساكوف، انطبع في أذهان ومخيلة الكثيرين كموسيقى رسمية لألف ليلة وليلة وصوت شهرزاد، خصوصاً بعض الثيمات التي تتمتع بشهرة أكبر من بقية أجزاء المتتالية السيمفونية، التي كانت تستخدم كخلفية موسيقية للمعالجات الدرامية، لحكايات ألف ليلة وليلة الإذاعية والتلفزيونية. افتتن الكثيرون إذن بذلك الكتاب الشرقي القديم، وراوية حكاياته شهرزاد، المرأة التي تمكنت من مداواة جرح السلطان الجبار القاتل شهريار، الذي استسلم للشعور بالنقمة والحنق والرغبة في الانتقام، بعد أن تجرع مرارة الخيانة، ورأى امرأته وقد فضلت عليه خادماً من خدمه. فما كان منه إلا أن أخذ يقتل النساء الواحدة منهن تلو الأخرى، كما لو أنه يريد القضاء على هذا النوع البشري، والتخلص من جميع النساء، وكان يتزوج في كل ليلة عذراء من العذارى، ويقتلها في صباح اليوم التالي، ولم يكن هذا الزواج بالطبع إلا نوعاً من أنواع الانتقام والقتل أيضاً، والتعذيب المضاعف قبل القتل الحقيقي.
رغم قيام بعض المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين في الغرب، بتأليف مقطوعات موسيقية من وحي ألف ليلة وليلة، وبعض هذه المقطوعات يحمل اسم شهرزاد أيضاً، إلا أن هذا العمل لريمسكي كورساكوف، انطبع في أذهان ومخيلة الكثيرين كموسيقى رسمية لألف ليلة وليلة وصوت شهرزاد، خصوصاً بعض الثيمات التي تتمتع بشهرة أكبر من بقية أجزاء المتتالية السيمفونية، التي كانت تستخدم كخلفية موسيقية للمعالجات الدرامية، لحكايات ألف ليلة وليلة الإذاعية والتلفزيونية.
وظل على هذا الحال إلى أن جاءت شهرزاد، فقامت بتحويله من سفاح شرس إلى أسير للخيال، يقضي ليله جالساً إليها وهي تسامره، وتقص عليه قطعاً من حكاياتها، ومنذ الصباح يظل ينتظر أن تكمل الحكاية في الليل، وبعد كل ليلة وحكاية، ينتظر المزيد من الليالي والحكايات. اعتمدت شهرزاد على الخيال، فأنقذت به الملك من غيّه وظلمه وجرائمه، وأنقذت العذارى من سيف شهريار وأبقت على حياتهن، كما أنقذت نفسها أيضاً وأبقت على حياتها، لا في قصر الملك وقلبه فقط، وإنما أبقت على حياتها في كل مكان وزمان لدى جميع البشر، إذ تجذب العقول وتشد المخيلة ويستسلم لحكيها الكبير والصغير. وكان ريمسكي كورساكوف من المفتونين بشهرزاد، ونجد أنه في عمله الذي أطلق عليه اسمها، وظف أقصى طاقاته للتعبير عنها وإظهار ملامحها وطريقتها في صناعة الخيال، والاستحواذ على عقل شهريار، من خلال الموسيقى، بالإضافة إلى التعبير عن بعض حكايات ألف ليلة وليلة، أو الحكايات التي تقصها شهرزاد، فقد يشعر البعض بأن صوت شهرزاد هو الصوت المسموع طوال العمل، حتى عندما تصطخب الموسيقى معبرة عن أحداث ومغامرات وأعاجيب، فإن هذا الاصطخاب ليس إلا صوت شهرزاد، وهي تخلق جو الإثارة وتضيف إلى حكيها، ألواناً من الأداء وبعض الانفعالات والمبالغات، وكل ما من شأنه أن يزيد من قدرتها على الاستحواذ والسيطرة على الملك، ومنعه من العودة إلى القتل مرة أخرى.
وعلى الرغم من أن مقطوعة شهرزاد لكورساكوف، يحمل بعض أجزائها عناوين حكايات من ألف ليلة وليلة، مثل «السندباد البحري»، و»الدراويش الثلاثة»، إلا أنه قد يغلب الشعور بأن هذه الحكايات لم ترد بهدف التعبير الخالص عنها، وإنما وردت في العمل كنماذج من أقاصيص شهرزاد وللتعبير عن أسلوبها في الحكي. فكورساكوف يهيم مع شهرزاد كما كان يهيم معها شهريار، ويغوص في تأمل عميق لشخصية تلك المرأة الأسطورية، ويبرزها موسيقياً على أجمل ما يكون، وليس أدل على ذلك من ثيمة شهرزاد التي تتكرر داخل العمل، وهي ثيمة موسيقية ساحرة تعزفها الفيولينة المنفردة، وهي لا تمثل شهرزاد نفسها، بقدر ما تمثل حكي شهرزاد والخيال الذي تصنعه، وتنسجه ناعماً كالحرير وجاذباً بشكل لا يقاوم، نجد في هذه الثيمة الرقة والرهافة وروح الإمتاع والتشويق، وجمال الشرق وأسراره، وكان كورساكوف بارعاً إلى حد بعيد، في التعبير عن تلك اللحظة التي تنتقل فيها شهرزاد بشهريار، من عالم الواقع إلى عالم الخيال، لتطوف به الدنيا وهو مضطجع، وتنتقل به من بلد إلى آخر ومن حكاية إلى أخرى. عرف كورساكوف السر في ما يخص شهرزاد وألف ليلة وليلة، الذي يتلخص في كلمة واحدة هي الخيال، وما كان عليه سوى أن يسلم نفسه للخيال، وأن يعبر عن هذا الخيال من أعماق روحه، لذلك استطاع أن يجعل لموسيقاه ذلك الأثر الدائم كأثر حكايات شهرزاد.
المتتالية السيمفونية
لم يضع ريمسكي كورساكوف مؤلفه شهرزاد في قالب السيمفونية، وإنما وضعه في قالب المتتالية السيمفونية، والفرق ليس كبيراً على كل حال بين هذا القالب وذاك، لكنه فرق مهم، فإذا كانت السيمفوينة تعتمد على البناء، بل هي فن البناء الموسيقي، فإن المتتالية السيمفونية تعتمد على التتابع والتداخل والتشابك، فالسامع مثلاً عندما يجد أمامه شهرزاد كورساكوف، ويرى أنها تتكون من أربع حركات مثل السيمفونية تماماً، وأن مدتها تزيد عن أربعين دقيقة، وأنها تعزف بواسطة الأوركسترا الكاملة بل الهائلة، يستطيع أن يصفها بأنها سيمفونية، لكنه عندما يدقق في سماعه، ويلاحظ الارتباط بين الحركات القائمة على التتابع والتشابك والتداخل، سيعرف أنه يستمع إلى موسيقى في قالب يختلف قليلاً عن السيمفونية بسماته الخاصة. يتميز هذا العمل بالإشراق والسطوع، وثراء النغم والتلوين البديع، ومهارة التعبير الدرامي في بعض الأجزاء، ولا يمكن للمرء إلا أن يقف عند الأوركستراسيون الباهر، فكم كان كورساكوف كريماً سخياً في عدد الآلات الموسيقية وأنواعها، إذ نجد أنه وظف جميع الآلات الأساسية والمألوفة، المعتاد استخدامها في مثل هذه الأعمال الكلاسيكية، ووظف أيضاً عدداً غير قليل من الآلات غير المألوفة ونادرة الوجود في الأوركسترا، ويبدو أنه حاول شحن طاقات كل مجموعة صوتية من الآلات إلى أقصى درجة، وتطعيمها بأصوات إضافية من أجل مساعدتها، على خلق الإحساس الشرقي والتعبير عن سحر شهرزاد وحكايات ألف ليلة وليلة. ولا يكمن الأمر في جمع أقصى عدد من الآلات الموسيقية وحسب، لكن في توظيف هذه الآلات ووضع كل آلة في مكانها المناسب، لتلعب دورها على أكمل وجه، سواء كان هذا الدور كبيراً أم صغيراً، فآلة الهارب مثلاً، كان دورها صغيراً، لكن كان للمساتها السحرية أثر مذهل، خصوصاً في حوارها مع الفيولينة بنبراتها الخفيفة، والسحبات السريعة على كامل أوتارها.
أما الفيولينة فهي نجمة العمل بلا شك، منذ البداية وحتى النهاية، وعلى عازف الفيولينة المنفرد في هذا العمل أن يكون عازفاً ماهراً صنّاعاً. وهناك آلات أخرى تنفرد وتتصدر كالنجوم لبعض الوقت، كالباصون الرائع والفلوت والأوبوا، لكن الفيولينة تحظى بما لا تحظى به هذه الآلات الأخرى، من اهتمام ومتابعة كما لو أن كل الآلات تتبعها أو تعمل من أجلها، إما بالتمهيد لما سوف تقوله، أو بترديد أصداء ما تقوله بشكل أو بآخر والتنويع عليه. وللنحاسيات والآلات الإيقاعية شأن كبير في هذا العمل، فالنحاسيات هنا تبدو مجموعة كبيرة جداً على غير المعتاد، وتحتوي على بعض الآلات من فصيلة الترومبيت الضخمة للغاية ذات الصوت الغليظ الداكن، أما الآلات الإيقاعية فتبدو كما لو أن كورساكوف جمع كل ما يمكن أن يمنح العمل ضربات إيقاعية مختلفة، تحمل الطابع الشرقي لكن في الإطار الكلاسيكي السيمفوني، وتعبر عن الرقص والمرح والخطوات البهلوانية كما في حركة مهرجان بغداد.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”