لا تتوقف الأسئلة عن التناسل حول واقع المسلمين اليوم وأسباب ترديه، وإن كان لا بد من بداية تفكيك فإنها تبدأ من الفكر والتدين وهيمنة النظرة الأحادية وغياب الاجتهاد والتعددية، رغم أن الإسلام منذ سنينه الأولى كان دين اجتهاد وتجدد وتعدد. ولفهم أسباب هذا التردي وتفكيكها كان لـ”العرب” هذا الحوار مع الأكاديمية التونسية سارة الجويني حفيز.
تختص الأكاديمية التونسية سارة الجويني حفيز في الحضارة الإسلامية، وهي عضو نشيط في الجمعية التونسية للدراسات الصوفية، وقد عرفت خاصة بكتاباتها في التصوف والأديان المقارنة، ولها مشاركات عديدة في ملتقيات وندوات علمية محلية ودولية في هذا المسار البحثي، فضلاً عن كونها نشرت مقالات مختلفة في مجلات عربية وكتب جماعية.
وللباحثة عدد من الكتب الصادرة في هذا المبحث نذكر من بينها “صورة المسيح في التراث الصوفي الإسلامي”، ما يقودنا معها إلى البحث أعمق في مسائل التصوف والأديان.
التفسير والتأويل
العرب: إلى أي حد تتاح مساحة الحرية للبحث والتأويل؟ وما هي المعوقات إن وجدت؟
سارة الجويني: في المدونة التراثية ما يفيد التفريق بين التفسير والتأويل، فلئن تبحر التفسير في إبانة ألفاظ القرآن ومدلولها وأحكامها ومعانيها وما يستفاد من اللغة والتراكيب فإن التأويل يفيد كذلك الرجوع إلى أول الكلام وأصله لتدبر معانيه، وهو اصطلاحا صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بدليل، ويحتمل التأويل كذلك المداومة على فهم النص ومنه ما يستشهد به عادة من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”.
والمعمول به هو أنه عندما يختلف في فهم النص يرجع إلى أصل الكلام ومفاده من ذلك المنطق اللغوي، غير أن هذه المفاهيم تتصل بعقول تنظر وتتأول وتعي الرموز المستبطنة لثقل النص وتخضع أحيانا إلى ذلك المنطق الصارم الذي يحكم الأفكار ويستلزم إعادة انبعاث النص بصفة متجددة بحيث تعد المداومة على مباشرته استمرارية لأهميته ومحوريته لدى المؤمن.
لم يكن التأويل دوما بهذه الألوان الخالية من الأدلجة فمن الباحثين من يعده نصا – تاريخا لا يتحوز حاضره، ومنهم من يتوسل به للذود عن العقائد والأفكار كما فعلت الفرق الإسلامية لما تعاملت مع النص تعاملا انتقائيا وكفرت وفسقت وزندقت من خالفها استنادا إلى معنى الفرقة الناجية المتدرعة بالسياسي والاجتماعي والقبلي وغير ذلك من الرقائق التي لا تنفصل.
يبقى أن التأويل الذي يستهدف الفهم والمعرفة وفي أغلب المدارس منخفض الصوت لأننا في الأغلب نتأول النص لنغرقه في بعده التاريخي، أو أننا نكرس معنى المعلوم من الدين بالضرورة ونخشى المقاربات الفيلولوجية والأنثروبولوجية وغيرها من الوسائط والمناهج باعتبار قداسة النص واحتوائه على المحكم غير القابل للنظر والمتشابه الذي يقبل النظر.
العرب: النص الصوفي قابل للتأويل ولا يصلح للتفسير. أين تقف حدود التأويل ومن يحددها؟
من وجوه الخلل في الثقافة العربية أن الأبحاث الجادة والمحايدة والعلمية لا تغادر أسوار الجامعات والمكتبات المختصة
سارة الجويني: النص الصوفي مُرمّز وقابل للتأويل لا تستوعبه الدلالات اللغوية الظاهرة لذلك كثيرا ما ينعت بكونه نصا مستغلقا تفهمه الخاصة، وهو في تعامله مع النص القرآني ذاته يقول بتأويلية النص ويكرس زوج الظاهر والباطن ويستبطن المفاهيم البلاغية كوجه من وجوه الله المتجلية في النص مع ذلك الحضور المكثف للمعجم الصوفي الذوقي القائم على القطع والوصل والفناء. التصوف بمدارسه السنية أو العرفانية أو الفلسفات الإشراقية إنما يتحوّز التعبير اللفظي الرقمي المختزل لصور الموجودات.
لقد ترجم محي الدين ابن عربي في تأوله لمفاتيح السور مثلا معنى الإشارة، ورسم العبودية -كما في الفتوحات المكية- وغيرها من التفاصيل التي تستأهل التبحر في الاختصاص وتملك لغته. وإذا ما أردنا تبسيط المسائل يمكننا القول إن التجربة الشخصية والمواجيد والأحوال الصوفية تتطلب لغة فوق اللغة لتستمع إلى المتكلم الله من خلال مجالات كلامه وفيها ما يستوعبه النص وفيها ما يتجاوزه بحيث يكون الخلق كله وبتشعبه دالا على المخلوق وحيث تكون اللغة نفسها مجرد مظهر للغة الإلهية المقدسة ويصير الاستماع على مستوى النص وعلى مستوى الوجود وتزول الحواجز بين الحقيقة والمجاز في تعبيرها عن الحق.
العرب: في زمن انعدام الحوار ألا تبدو أسئلة الصوفي من الأسئلة المحرمة؟
سارة الجويني: أعتقد أن الحوار واقع ومستمر، فقد خصبت الفرق الإسلامية وأصحاب الديانات الكتابية والوضعية حوارات تاريخية أسفرت عن علوم أقلها علم الجدل والتناظر وما يستفاد منه من تردد الكلام لتصحيح أو إبطال، وكان فعل النظر في ذلك فعل استدلال وتأمل وقد سبق للفيلسوف إيمانويل كانط القول بالمكيفات الجدلية للعقل.
وتزخر النشريات والدوريات والندوات العلمية وحتى الموائد المستديرة المتلفزة بالمواضيع الحوارية القابلة للنقاش، يبقى السؤال عن نجاعة ذلك في حل الإشكالات، فالبعض يتوسل بالحوار واجهة للمحل فحسب، والبعض يحاورك ليبكتك ويبين تفوقه ثم يرميك بأدب ليقول شكر الله سعيك، والبعض يعد النقاش والتحاور مطية للتخطيط الإستراتيجي ولرسم سياسات الدول، هذا فضلا عن أن الفضاء المعولم يمنح للجميع مناقشة الجميع بل والتخفي أحيانا وراء الشاشة للتعبير عما لا يتداول على المباشر، وقال الفيلسوف “تكلم حتى أراك” ويقول غيره “في الصمت حديث وثرثرة”.
علاوة على ذلك فإن الصوفي الغارق في المقام والإشارة لا يقلقه كثيرا ذلك الزخم الفكري خاصة إذا امتلك تلك العين الجامعة لمراتب الوجود، مع ذلك قد يجد قادة التصوف الطرقي وشيوخه انتقادات تتصل بطرق العبادة أو بالحيازة والريادة والمشيخة، ومن ذلك التوجس الحاصل لدى البعض من الزعامة الصوفية وقدرتها على جلب المريدين على الرغم من أن مجال الروحانيات يشهد تصاعدا مستمرا في العالم من جهة السكينة والدعوة إلى المحبة وتهذيب النفس.
لا شك أن الفلسفات الصوفية تتعرض للنقد خاصة من جهة القول بوحدة الأديان ووحدة الوجود والحلول إلا أن الفهم الدقيق لهذه المسائل يخرجها من دائرة الاتهام إلى دائرة اختلاف زوايا النظر، ولا شك كذلك أن بين التصوف والفلسفة علائق تحيل المشتغل بهما إلى تفحص معاني الوجود داخل حدود العبارة والمنطق، وقد برع المتصوفة في فحص مظاهر الحق والحقيقة وانشغلوا بمراتب الخير والجمال، ولعل تعقب الطرح الصوفي في نسخته الحديثة يكشف عن تفسح فلسفاته في العالم أو بمعنى انتشار الروحانيات فكرا وفلسفة حياة بعد أن غادر جزء منها فضاء الولي والحضرة.
النص الصوفي مُرمّز وقابل للتأويل لا تستوعبه الدلالات اللغوية الظاهرة لذلك كثيرا ما ينعت بكونه نصا مستغلقا
العرب: التعامل مع النص المقدس في قراءته وتفسيره، كيف يكون؟ هل برفع القداسة عنه أم بإعادة قراءته من زاوية مختلفة؟
سارة الجويني: ثمة مدارس لها مسافة معينة من النص لا تلغي الواحدة الأخرى، النص القرآني فسره الفيلسوف والمتكلم والفقيه والأنثروبولوجي واللغوي والمفكر المعاصر ولكل منهم وسائط وأهداف، يمكننا بعد ذلك أن نقسم ذلك التعاطي واعتمادا على سؤالك بين المشتغل داخل الحقل الإسلامي، والذي لا يخرج عن اعتبار النص مقدسا يتعبد به معجزا إعجازا بيانيا، وبين من يشتغل خارج المنظومة ولا يعد نفسه ملتزما بها بحيث يرجح تاريخية النص ويؤنسه ويرفع عنه القداسة.
كمشتغلة داخل المنظومة الإسلامية يهمني الاطلاع على كل المحاولات والتأويلات والمقترحات في مباشرة النص، تستعين التفاسير اليوم بجملة من العلوم وتخاطب المخطوطة والنقيشة وتحفر في أصول الكلمات فيلولوجيا وتستعين بالسياق وتعول على منجزات العلوم الإنسانية، ذلك لا يمنع من أن المدونة التفسيرية قدمت أعمالا عظيمة ليست صالحة لسلة المهملات لكونها أمدت وفق اجتهادها بأسباب النزول (الطبري) وعالجت المعالجة اللغوية المطلوبة ورجحت (ابن عاشور) وواكبت منجزات العلوم، ولكن تبقى مع ذلك بشرية يصح عليها ما يستوعبه العقل وتتيحه المعرفة زمن تدوينهم لتلك المخطوطات التي استغرقت ردحا من أعمارهم.
الاشتغال على النص القرآني مستمر سواء ضمن أعمال جماعية أو مشاريع أكاديمية والأكيد أن النص يقول والفكر يقول والزمن ينطق. ثمة طرز من المفكرين يبحثون للعلم وأظنهم الأصوب لأنه لئن كان وقع الانطلاق من المقدمات الجاهزة أو المواقف المؤدلجة جلابا لمن أرهقته نسخ تأول النص وخطابات التكفير والتبكيت والترهيب تبقى رصانة التعامل مطلوبة في نظري واحترام ما يقدسه الآخر علامة تحضر لاسيما وأن الحديث اليوم ينشغل بإرادة الاعتقاد وحق الاعتقاد والإيمان الحر.
لا يزال السجال مفتوحا -وكما بينت في كتابي “في جدل المعقول والمنقول”- بين قداسة النص وأفانين العقل والمنطق ومناهج البحث الحديثة الموغلة في المعارف السيميائية واللسانية والأنثروبولوجية ولو أن للبعض سؤالا يتردد عن جواز تفكيك النص بآليات لا تنبع بالضرورة من التربة الإسلامية أو أنها لا تستحضر القداسة بذلك الشكل المطلوب. من ناحيتي أرى أن المواد يخدم بعضها بعضا وأن المشتغل بالنص أو بالمفردة الدينية عموما يحتاج إلى كل فتوحات العلم وإضافاته.
الخروج من السياجات
العرب: الاجتهاد في العالم العربي لماذا نجده حكرا على فئة “الشيوخ والعلماء”؟
سارة الجويني: المشيخة رتبة علمية -لا علاقة لها بالسن- ينالها من تحصل على شهادات عليا من الجامعات المختصة وعليه فالكثير ممن يطلق على نفسه شيخا لا تحصيل علميا دقيقا له وإنما يستعين بالحفظ وطلاقة اللسان وفنون الخطابة بالإضافة إلى بعض المحسنات الصوتية والضوئية وتجد هذه الخطابات صدى في نفوس الناس إما لحاجتهم إلى السكينة أو لغياب البدائل العلمية المفهومة والمبسطة، وذلك لا يمنع من أن عددا من المباشرين للخطابة على قدر من الكفاءة العلمية والتحصيل يجمعون بين التدريس الأكاديمي والخطاب المسجدي مثلا.
أتحفظ قليلا في نعت العلماء لكوني أعتقد أن العالم ليس الضليع في معرفة ما سبق إليه العلم في مجاله وإنما هو صاحب النظرية أو الاتجاه الجديد، فأغلب المشتغلين بالمادة الدينية وحتى غيرها من المواد تقنيو معرفة يجمعون ويرجحون، يقيمون ينقدون ويقارنون، وبين ذلك وخلاله فلتات يمكن أن نسحب على أصحابها لقب العلماء، فمثلا الشاطبي أضاف إلى الفقه الإسلامي نظرية المقاصد لحل الإشكالات بحيث صارت الأحكام لا تطلب لذاتها وإنما للمقاصد المترتبة عليها وهذه إضافة خصبها ابن عاشور، والحديث اليوم عن المقاصد التأويلية وهي إضافة أخرى من شأنها منح مساحة أكبر للاجتهاد ومواكبة حاجيات العصر.
علم الكلام الجديد كذلك يتلاءم مع مطلب التجديد من حيث مواكبة التغييرات الفكرية والتساوق مع مفردات التجارب العلمية التي ألقت بثقلها على أصحاب الديانات، فمن اهتمامات الكلام الجديد إخراجه من المناخات الفكرية التقليدية وتحويل وجهته إلى النمو العلمي والبعد الوظيفي للمعتقد بحيث يشهد العلم منذ بدايات الكتابة فيه (وحيد الدين خان وعبدالجبار الرفاعي لهما اليوم مصنفات في هذا الاتجاه) تغييرا في أضلعه من العلاقة العمودية المتأملة في ذات الله وصفاته إلى العلاقة الأفقية المتأملة في مخلوقات الله التبعية وقد تخيرت مبحث الأخلاق عنوانا رئيسيا لاسيما بالنظر إلى ما تشهده الإنسانية اليوم من مطلبية حقوقية.
وعليه فالاجتهاد حاصل وله في المنظومة الإسلامية قواعد وشروط وتفنن العلماء في تعريفه بحيث يحتمل استفراغ الوسع للنظر في قضية بعينها ويقتضي الاستدلال والاستنباط والاستقراء وغير ذلك من الشروط والأدوات، أما التعاطي مع الطروحات الدينية بإطلاق وإبداء الرأي فيها فهو متاح للجميع غير مقتصر على أصحاب الاختصاص، الدين شأن عام يهم الناس باختلاف انتماءاتهم واختصاصاتهم وخلفياتهم.
كأي مواطن بسيط المثقف تشغله مقتضيات الحياة واحتياجات الأسرة وهذا ما يعيقه عن استكمال البحث والإنتاج الثقافي
العرب: ما هي المصادر الفكرية والتاريخية التي من الممكن الاعتماد عليها لإجراء بحث دقيق يؤسس لمرجعية تتفق عليها الأغلبية؟
سارة الجويني: لا يمكن تحديد مصادر يتفق عليها الجميع لأن المصادر مدونة موجودة لا تسقط بالتقادم الذي يتغير ربما بطرق التعاطي معها نسبة إلى منجزات العلم وفتوحاته في مختلف الاختصاصات، لنا مدونة تفسيرية، ومدونة حديثية، وأخرى كلامية وفلسفية وفقهية وصوفية، لا تلغي إحداها الأخرى، ولنا أبحاث جادة قريبة من زمننا يمكن احتسابها على الفكر المعاصر وعلى المجددين والمصلحين الذين يقرأون التراث قراءة تحليلية مقارنة بعيدا عن تلك الصراطية المنصوص عليها في قراءات أخرى بحيث تنقد المنظومة المستقرة المكرسة مثلا لظاهرية النص وحرفيته من أجل تفخيم كينونتها الهووية على رأي أمين معلوف في “الهويات القاتلة”.
يشتغل الفكر المعاصر على السياق والخطاب الدلالي وعلى التفكيكية والتركيبية وسبق لمحمد أركون الكلام على ضرورة الخروج من السياجات الدغمائية المغلقة وخلخلة المسكوت عنه، مع ذلك تقفز الخطابات الدينية من بطون الكتب التاريخية لتسترجع الحدث بتفاصيله على شاكلة السجالات الواقعة إلى اليوم بين سنة وشيعة أو بين بعض المنتسبين إلى هاتين الفرقتين حتى لا نعمم.
إن الشغل الكبير الذي ينتظر مرجعياتنا المختلفة هو حسن إدارة ذلك الاختلاف والاشتغال على المشترك الديني والالتفات إلى روح الإسلام وفلسفته وتحويل الاهتمام إلى التنمية البشرية وتصويب الاهتمام إلى تاريخ الأديان ومقارناتها التي ولا شك تمنحنا رؤية فوقية جامعة لأصل الدين وأهدافه وتخفف من الأنا الهووية الطاغية.
العرب: من هو المسؤول عن التمسك بالثوابت “المعقدة” واستمرارها في عالمنا العربي؟
سارة الجويني: لكل أديان العالم ثوابت تميزها وتتشبث بها وتعتبر أن التملص منها إقفال للديانة وخروج عن معتقداتها ومقاصدها، يبقى أن بعض السلفيات تتأول الديانة على طراز تراه يخترق الزمان والمكان، مع الإشارة إلى أن الاتجاه السلفي شهد انزياحا مفهوميا من السلف الصالح إلى أنماط أخرى من السلفيات العلمية والجهادية وفي نسخة أخرى الداعشية وهي تستعيد الزمن داخل الزمن ولعل تشبثها بما تراه من الثوابت ليس إلا ردة فعل حضارية فيها استرداد للحدث متى غاب عنا فعل الحدث أو إنجاز الحاضر.
ويمكن لعلم النفس الديني أن يفيد ببحوثه على هكذا تمشيات، وقد سبق لي شخصيا الاشتغال على السندات النصية للدعوة الجهادية مثلا وفي المنشورات الجامعية الكثير من أشغال المختصين التي لا تصل إلى الجماهير العريضة. كذلك تتلبس المفردة الدينية بالسياسي والاقتصادي والمعولم بحيث لا يمكن فكها من اعتبارات قد تتجاوزها ولكنها تبقى الواجهة أو الغلاف للكثير من الأهداف الخارجة عن الدين والتدين.
الفلسفات الصوفية تتعرض للنقد خاصة من جهة القول بوحدة الأديان ووحدة الوجود والحلول إلا أن الفهم الدقيق لهذه المسائل يخرجها من دائرة الاتهام إلى دائرة اختلاف زوايا النظر
العرب: التيار الذي يتكلم باسم الإسلام، هل هو الأخطر على حركة التنوير والتأثير حاليا أم أن هناك خللا آخر؟
سارة الجويني: الإسلام واحد ومتعدد، والمتكلم به بذلك التعدد، وبالتالي ليس هناك تيار واحد متحدث باسم الإسلام وإذا ما أردنا التسليم مثلا بالإسلاميين قبل أو بعد صعودهم إلى الحكم فإن طروحاتهم لم تستطع الصمود أمام عالم برمال متحركة لم يحينوا أنفسهم لتحدياته، بعد ذلك ولا شك يبقى التيار المحافظ ويتشكل في نماذج وتجارب مختلفة وتبقى الحركات التقدمية أو التنويرية مفتوحة على مقترحات أخرى.
كذلك لا نغفل دعوات تصب في الحداثة الإسلامية فالإسلام ليس بالضرورة رديف القدامة والتخلف، فالكثير من الأقلام المشتغلة داخل المنظومة تطمح إلى مشاركة العالم ثقافتها العربية الإسلامية بثرائها وزخمها وجماليتها ولا أدل على ذلك مما تجده مؤلفات جلال الدين الرومي وابن عربي من إقبال ومقبولية في أوساط دينية وثقافية مختلفة، لكونها انشغلت بالإنسان الكامل وتمعنت في وحدة الوجود وطمحت إلى وحدة الشهود من جانب أن التراث نفسه ساحة لوعي الإنسان وفعله ومن جهة أن التحديث لا يعني بالضرورة الخروج عن المعتقد بالكلية أو تبني مقولة الإحياء الغارق في غبار السنين.
لم نتمكن بعد من الوقوف على نقطة التوازن المطلوبة، التي تدور في أغلب الأحيان على طرق تدبر النص التي تتراوح بين القراءة الحرفية الظاهرية والقراءة المستبطنة أكثر لروح النص وخضوعه للمنطق الصارم الذي يحكم الأفكار من خارج ذلك الإجماع السكوني القائل إنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، أو بذلك المكرس لمفهوم الفرقة الناجية والأخرى الهالكة.
ولعل من وجوه الخلل أن الأبحاث الجادة والمحايدة المتصلة بالقواعد العلمية لا تغادر أسوار الجامعات والمكتبات المختصة، كذلك تعتمد جل البرامج المبثوثة في مختلف قنوات الاتصال على الإشهار الذي يتطلب كلاما رنانا ومستفزا أو خادما لجهة أو فكرة وفق ما تقتضيه طبيعة العمل اليوم، بحيث تعوزنا البرامج المدعومة وفق خطط عمل تثقيفية تطرح على أنظار مجتمعاتنا خطابا أنيقا رصينا متفكرا في مستقبل شعوبنا ومشركا طاقاتها الحية وشبابها في ورشات تفكير لا تتصارع على مصلحة ولا تنتصر بالضرورة لجهة سياسية مثلا ولا تكتسب الرواج والشهرة بالتفنن في شتم الآخر المختلف وإهانته لحصد “اللايكات” وترفيع عدد المشاهدات، ولو أني على تمام الوعي بمثالية هذه الرؤى في سياقاتنا اليوم.
المثقف العربي والثقافة
العرب: في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي يعيشها المثقف العربي، وهو ذاته المواطن بكافة تخصصاته (أستاذ جامعي، كاتب… إلخ)، كيف يتيسر له التفكير أو إعمال العقل وهو تحت ضغط التفكير في العيش الآني وكيف يكون حال الفكر العربي؟
سارة الجويني: صحيح أن الوضع المادي للطبقة المثقفة لا يمكّنها من تخصيص الزمن الضروري للتفكير وطرح القضايا المتصلة باختصاصاتها، فالمثقف -أقولها بتحفظ لأن لكل إنسان ثقافة ولو كانت متأتية من العصور الحجرية- كأي مواطن بسيط تشغله مقتضيات الحياة واحتياجات الأسرة وملف الترقية ولجنة المناقشة وردود الفعل المنتقدة لأي تصريح أو مشاركة علنية، وكلفة الكتب المطلوبة في مسيرته المهنية التي تبقى على الرفوف لا يحصد منها غير الوجاهة العلمية.
المجتمعات الحية تداوم على إنتاج الفكرة وتطرحها على النسق لأن ما يحكم مثلا المجتمع القبلي ليس هو بعينه ما يحكم نظام الدولة الحديثة
الأستاذ الجامعي يبقى طالب علم إلى حين إحالته على شرف المهنة بين ملف الانتداب والتأهيل ودرجة الأستاذ المحاضر وغير ذلك من الرتب التي تتطلب منه التفرغ إلى جانب المناقشات والإشرافات، هذا فضلا عن أن المشاريع الفكرية صارت تقدم بشكل فردي ولا يجد المغامر في ميدانه المقبولية ولا التشجيع في الأغلب.
وعليه فهذا المواطن “المثقف” قد يقف على الربوة مشاهدا متعففا، وقد يضع يده في العجينة غيرة فتهان كرامته ويمسه الضيم، وقد يكون على قدر من النباهة فيقرر متى يتكلم ومتى يصمت أو يتحفظ ويعود إلى بيته فرحا مسرورا. أنا أقول إن في الاتحاد قوة وإن المادة ليست بالضرورة رديفة ومصاحبة للفكر الناقد فالكثير من النظريات الفاعلة في تاريخ الأمم لم تتأت على ألسنة مترفهة.
العرب: هل من تغيرات طرأت على الثقافة العربية ترين أنها ستحقق واقعا جديدا؟
سارة الجويني: الثقافة العربية تشهد ما تشهده ثقافات العالم من حتميات تاريخية، يبقى أن الأمم الناجزة عموما تفرض ثقافتها أو لعلها تستوعب الآخر الثقافي بقدر تخليه عن خصوصيته، وهذا منطق العرض والطلب.
نلاحظ، ومن دون عناء كبير، تغير طرق التعبير اللغوي لدى الشباب فهم يختزلون العبارات المنمقة والفقرات المزخرفة ولا تستهويهم أبيات الشعر العمودي المقفى، كذلك عادت الكتابة على وسائل التواصل إلى الصور والتعابير المشفرة، مع ذلك للثقافة العربية جماليتها وعمقها ويمكن أن ننهل من تراثنا العربي ما نزاحم به الأمم في فضائها المفتوح، كذلك بوسعنا مشاركة العالم خصوصيتنا الثقافية العربية والاعتزاز بها لأن الثقافة فعل حضاري مفتوح لا يغلق بمجرد أفول حضارة وصعود أخرى.
العرب: المشكلة لدينا نحن العرب هل هي في المناهج أم في التعاطي مع المشكلات وطرق الحل؟
سارة الجويني: الواقع أن التعاطي مع الإشكالات والبحث عن الحلول المناسبة يحتاجان إلى مناهج ومخططات عمل، السؤال ربما يدور حول تطابق المناهج المعتمدة مع إشكالاتنا؛ مثال ذلك أن برامج التعليم تخوض تجارب منهجية نجحت في بلدان أخرى بإمكانات أخرى لا تستوعبها بالضرورة بلداننا لذلك نتخلى عنها ونستدرك ونتابع ما يتناسب أكثر مع تربتنا الفكرية. عادة ما تكون الحاجة أم الوسيلة فهناك قدر من المناهج المعتمدة التي تشكل في ذاتها مدارس يمكن أن تتبناها الشعوب بقطع النظر عن براءة الاختراع، فالكثير من الوسائط المنهجية على قدر من الحرفية تتلقفها الدراسات العلمية وتعمم الفائدة منها.
أضيف إلى ذلك أن البلدان العربية لا تتحوز العنصر العربي خالصا، تونس مثلا بلد عربي إلا أن الحضارات المتعاقبة شكلت مواطنا تونسيا له أصول أفريقية وأخرى بربرية (وفيهم يذكر ابن خلدون أنهم قوم مرهوب جانبهم)، وإذا حفرنا أبعد في تاريخ قرطاج وغير ذلك نجد أن الكثير من التفاصيل تصح على تونس وغيرها، فقليلة هي البلدان المحافظة على أصل عربي واحد من العرب العاربة أو المستعربة.
العرب: لماذا لا تدرج أعمال المفكرين والباحثين العرب ضمن المناهج التعليمية في الدول العربية ويتم بالتالي تشجيع وتحفيز الفكر النقدي؟
سارة الجويني: بالرجوع إلى تجربتي الشخصية في التعليم الثانوي والعالي تدرج أعمال المفكرين في البرامج سواء أدب أو قضايا حضارية أو مباحث فكرية، عادة ما يشمل الدرس في التعليم العالي على سبيل المثال وفي اختصاصي درسا نظريا وآخر تطبيقيا يقع على نصوص تراثية لأنه لا بد من التمكن منها ثم نصوص أحدث من الإنتاجات الجديدة في مختلف المواد ويكلف الطلبة بالاطلاع عليها بحيث لا أظن أن هذا الإشكال مطروح على الأقل من حيث مباشرتي الشخصية لعملي.
العرب: كيف يتم تحويل الأفكار إلى نمط حياة ؟
سارة الجويني: لا أعلم إن كان بوسعي الإجابة على هذا السؤال لأن أنماط الحياة تراكمات وموروث فكري وجيني لا نضغط على الزر ونحول الفكرة، فحتى الشعائر والطقوس الغارقة في القدم تحافظ على بعض تمظهراتها وتتأقلم مع الديانات البعيدة عنها زمنيا وتخبرنا الأنثروبولوجيا الدارسة للإنسان حتى أن علماء الإناسة يذهبون إلى رصد الخصائص البيولوجية والثقافية ويعتبرونها أنساقا مترابطة، كذلك تشتغل الأنثروبولوجيا الاجتماعية على فهم الأنسجة المتشابكة التي تسمح للمجتمعات بالبقاء والاستمرار فالدور الوظيفي على ذلك هو الذي يشكل الأفكار ويضمن استمرارها أو تراجعها.
المجتمعات الحية تداوم على إنتاج الفكرة وتطرحها على النسق لأن ما يحكم مثلا المجتمع القبلي ليس هو بعينه ما يحكم نظام الدولة الحديثة وما يصح على الدولة بحدودها الترابية لا يصح على الشركات الكبرى متعددة الجنسيات والفاعلة في سياسات الدول.
“صحيفة العرب”