الموشح والزجل نوعان من الكتابة الشعرية ظهرا في الأندلس في حدود القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي. يذكر ابن بسام الشنتريني في كتابه «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» أن أول من ابتكر الموشح هو مُقدم ابن مُعافى القَبري الضرير من شعراء الأمير عبد الله ابن محمد المرواني. وكان أقدم موشح معروف يُعزى إلى عُبادَة بن ماء السماء الذي توفي عام 1028، وقد جاء بعده بأكثر من 40 سنة أول شاعر بلغة بروفانس، هو كَيوم التاسع، كونت بواتييه (1071- 1127) وكان معاصراً للوشاح الأندلسي الأعمى التُطيلي، وكذلك للزجال المعروف ابن قُزمان القرطبي (1080- 1160) وقد ترك لنا كَيوم إحدى عشرة قصيدة هي أول أمثلة الشعر بعامية بروفانس، وليس باللغة اللاتينية التي كانت لغة الأدب والشعر في العصور الوسطى الأوروبية. ولا يوجد دليل على معرفة كَيوم بموشحات التطيلي. ولكن لدينا قصيدة للأمير الشاعر البروفنسي الأول تتطابق بشكل شبه تام مع زجل «أم الحَكَم» لبِن قُزمان. وقد دفع هذا بعض الباحثين لتلمس تأثير الموشح والزجل في شعر أول شاعر معروف يكتب بلغة رومانسية، هي من عاميات أول لغة غير لاتينية، وتبعها عدد من القصائد بلغات أوروبية تستوحي أول الأمثلة الأوروبية التي لا تتبع الأمثلة الإغريقية واللاتينية من الشعر.
كان الحب هو الموضوع الرئيس السائد في الموشحات والأزجال. والحديث عن الحب بصراحة وتفصيل لم يكن معروفاً في أدب القرون الوسطى، لأن الكنيسة الرومية المقدسة كانت هي المسيطرة على الآداب والفنون، ولم يكن الحديث عن الحب مقبولا ً إلا بما يخص العذراء مريم ورموز الديانة المسيحية. لكن كَيوم ومن تبعه من الشعراء التروبادور الجوالين، الذين زادو عن 400 على امتداد بضعة قرون بعد كَيوم، وجدوا مفهوماً جديداً عن الحب مصدره الشعر العربي في الأندلس، وريث الشعر العربي في المشرق، وذلك عن طريق الاطلاع على الموشحات الأندلسية والزجل. ولم يكن ذلك يشكِل صعوبة، بسبب الاختلاط الشديد بين أهل الأندلس والممالك المسيحية المجاورة. وغالبية أهل الأندلس من عرب وأمازيغ يتكلمون» لَطينية الأندلس» مع أهل البلاد المفتوحة.
وُلِدَ الزجل بعد ولادة الموشح بثلاثة قرون، واشترك الزجل مع الموشح بأن الاثنين صُنِعا في أول الأمر للغناء، ثم تطورا في تناول أغراض الشعر القريض من مديح ورثاء وهجاء. ولم تكن القافية معروفة في الشعر الأوروبي الذي سبق شعر التروبادور في إقليم بروفانس، ولكننا نجد في القصائد الثلاث الأولى من شعر أول تروبادور قافيةً تشبه ما وُجِد في الموشحات والزجل. ففي زجل «أم الحَكَم» لابن قزمان نجد القوافي على شكل أ-أ-ب-ب-ب-أ تتكرر بشكل كامل تقريبا في قصيدة كَيوم، مع أن النَفَس المسيحي والموضوع يختلفان عن ما نجد عند ابن قزمان من الأمور العاطفية. يقول ابن قزمان: كيفْ ليسْ يكون معي في الغربة هَمْ/ وخليتْ قلبي لأُم الحَكَم؟ أ-أ… ويقول كَيوم: فارقتُ جميعَ ما كنتُ أُحِب/ الفروسية والمَجد التليد/ وابتغاء مرضاة الله، أقبلُ هذه جميعا. أ-أ-أ.
وهذه القصائد الثلاث الأولى ذات أهمية خاصة في دراسة شعر التروبادور وتأثره بالموشح والزجل، لأنها تسبق تاريخ اشتراك كَيوم في حملة صليبية فاشلة، يقال إنه أُخذ فيها أسيراً وأقام ثمانية عشر شهراً في فلسطين، وربما في عكا. وبعد عودته صار ينظم قصائد حزينة فيها مبالغة في استعمال القوافي. وقد يكون مرد ذلك اختلاطه الشديد مع من حوله من جيوش العرب المسلمين، يكاد كل فرد فيهم أن يكون شاعراً أو محباً للشعر. والقصائد الثماني التي كتبها بعد عودته تتميز بأسطرها القصيرة وظهور نظام جديد في القوافي في الأغلب أن يكون: أ-أ-أ-ب-أ-ب… وهذا لا يمكن تفسيره إلا باطلاع الشاعر على الموشحات والأزجال عند معاصريه من شعراء الاندلس.
بدأ اهتمام الباحثين الغربيين بالشعر العربي عن طريق اهتمامهم بالشعر الأندلسي. وقد تعرض هذا الاهتمام إلى ضروب من سوء الفهم أو إساءة الفهم، بسبب عدم أو ضعف معرفة الباحثين باللغة العربية أو باللهجة الأندلسية، أو بسبب اعتمادهم على ترجمة النصوص الشعرية والنقدية على لغات أوروبية لم تكن دقيقةً في أحيان كثيرة. ولكن الاهتمام الغربي بشكل جاد بدأ منذ أواخر القرن السادس عشر بكتاب جياماريا باربييري الإيطالي الذي نشره عام 1571 بعنوان «في أصول الشعر المقفى» وفيه فصل بعنوان «انتشار الشعر العربي المقفى بين الإسبان والبروفنسيين». وفي عام 1791 نشر الباحث الباسكي إستَبان آرتياكَا من إقليم الباسك أو الباشكنز، كتاباً بالإيطالية في روما بعنوان «عن تأثير العرب في نشوء الشعر الحديث في أوروبا» وفي عام 1813 نشر الباحث السويسري سيسموندي في باريس كتابا بعنوان «عن الأدب في الجنوب الأوروبي» ويرى الباحثان أن الشكل والمضمون في الشعر الأوروبي الحديث قد جاءا عن طريق الشعر العربي في الأندلس بتوسط شعراء بروﭭانس، في إشارة واضحة إلى الموشح والزجل. وفي عام 1847 نشر الباحث الألماني كارل بارتش بحثاً بعنوان «قصيدة المقطع في الشعر الغنائي الجرماني» يقارن فيها بين الأغاني الجرمانية وأغاني الرومانس القروسطية التي ظهرت فيها القافية تقليداً لشعراء بروفنس الذين أخذوها بدورهم عن الموشح والزجل. وعلى امتداد القرن العشرين كانت الدراسات الإسبانية هي السباقة في نشر وتفسير الكثير من الموشحات والأزجال والخرجات، وبخاصه دراسات آنخل كَونذالث بالانثيَه ورامون مِنَندِث بيذال وميكَيل آسين بالاثيوس وخوليان ريبيرا وإيميليو كَارثيا كَوميذ. وكانت هذه الدراسات رصينة، غير متحيزة ضد الجذور العربية في نشأة الموشح والزجل والخرجة، مع أن غالبية أولئك الباحثين من رجال الكنيسة الكاثوليك.
إزاء هذا العدد الكبير من الباحثين الأوروبيين، إضافةً إلى عدد قليل من الباحثين الأمريكان، لا نجد بين الباحثين العرب من تجرد للدخول في ميدان هذا البحث سوى اثنين أو ثلاثة ممن درسوا في إسبانيا، وبعضهم نقل عن الباحثين الإسبان ما نَسبَه لنفسه، وهذا أمر أقل ما يقال فيه إنه مؤسف.
ومثلما ظهر تأثير الشعر البروفنسي بجذوره الأندلسية في الشعر الصقلي، الذي انتشر إلى الشعر الإيطالي بدأً من بتراركا، ثم إلى الشعر الإنكَليزي في شكل الغنائية، الذي أبدع فيها شكسبير بعد ذلك، نلاحظ أن تأثير الشعر البروفنسي، الذي دخل إلى انكَلترا عن طريق اليانور الفرنسية المولد والثقافة، وحفيدة التروبادور الأول، التي تزوجت من هنري بلانتاجنيه، الفرنسي هو الآخر، والتي أصبحت ملكة انكَلترا مع زوجها الملك هنري الثاني، عام1154، قد ترك آثاره الأولى في شعر جوسر الذي يُعَد أب الشعر الإنكَليزي. وقبل ذلك نجد قصيدة «أليسون» التي تعود إلى بدايات القرن الثالث عشر، تتحدث عن الحب والموقف منه بشكل أشد قربا من الشعر البروفانسي. وموضوع القصيدة وبنيتها وقوافيها تحيل إلى نظام الموشح : أ-ب-أ-ب بما يشبه المطلع في الموشح، ثم : ب.ب.ب.ج وتنتهي بخرجة مثل الموشح الأندلسي: د.د.د. ج. وهذه القصيدة بموضوعها وقوافيها تذكرنا بموشح ابن زهر الأندلسي: أيها الساقي اليك المشتكى…
جميع الحضارات والثقافات تأخذ من بعضها ما تجد فيه أهمية أو متعة. فهل يُستغرَب أن يأخذ الغرب من حضارة العرب والإسلام ما ازدَهر بين ظهرانيهم على امتداد ثمانية قرون؟
“القدس العربي”