أثارت الحادثة الغريبة لشاب عراقي الأصل لحرق القرآن الكريم في استوكهولم، جدلا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى القنوات التلفزيونية، وأصدر كثير من الدول العربية بيانات احتجاج على السياسة السويدية التي تقدس حرية التعبير، بينما الاعتداء على الكتب السماوية المعبرة عن شعوب كاملة ومعتقدها، أمر يتجاوز حرية التعبير، فحرق القرآن جريمة ضد الإنسانية.
طبيعي أن تتوارد إلى ذهني حوادث سابقة قديمة مثل الكاريكاتير الساخر للدنماركي كورت ويسترغارد من الرسول محمد عام 2005، وكاريكاتير الصحيفة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو» الساخر أيضا من الرسول عام 2020 ودعوات المقاطعة لهذه الدول. طبعا بدأت دعوات المقاطعة للسويد ويراها الكثيرون حلا في المواجهة. لن أتحدث عن أن كل الدعوات السابقة انتهت إلى لا شيء، حتى لا أبدو مدافعا عن هذا الفعل الشنيع، الذي رأيته من أول لحظة معبرا عن شخصية نفسية مضطربة لصاحبه. قيل إن وراءه تاريخا سيئا، فقد كان من الميليشيا الشعبية الإيرانية في العراق، وما أكثر الجرائم التي قامت بها، وقيل إنه من طائفة الإيزيديين الذين قاسوا الأهوال من «داعش» في العراق. في كل الأحوال بدا لي أنه يعاني من محن نفسية جعلته ينتقم لنفسه، غير مدرك أن الفعل لن يجد له مناصرين في أوروبا من الناس، فهذه الكتب الدينية لا تهمهم في شيء، ليس كفرا بها، لكن لأنهم فصلوا بين الدين والدولة في حياتهم السياسية، وأن يحرق أحد كتابا دينيا فالأمر لا يختلف عن حرق أي كتاب، وهنا تكون الإدانة. ليس للمعنى الديني، لكن لرمزية حرق الكتاب في التاريخ بما تعنيه من مسخ متعمد للعقول.
حرق الكتب في التاريخ قديم مع البشرية لم تسلم منه أيّ حضارة من الحضارات. حدثت في الصين على يد الامبراطور الصيني تشين شي هوانغ عام 212 ق.م، إذ أحرق وأتلف مئات الكتب والدراسات، وطارد الأدباء والعلماء وقتلهم، فما قبله لا يعتد به، فهو الحاكم والمفكر والإله فقط. هو نفسه الامبراطور الذي بدأ في بناء سور الصين، وغير ذلك من أعمال النهضة. عموما كل الأباطرة حرقوا الكتب وعادوا الفن والفنانين، رغم أنهم جعلوهم يبنون لهم قصورهم وجوامعهم وكنائسهم ليبقوا خالدين!
التاريخ المسيحي والإسلامي حافل بحرق وإتلاف الكتب، سواء من ناحية الوالي أو رجاله، أو الشيوخ أو القساوسة المختلفين مع صاحب الكتاب في أفكاره. محاكم التفتيش في أوروبا أحرقت الكثير من الكتب، وبعضها أمام أعين أصحابها. في عالمنا الإسلامي تستطيع مثلا أن ترجع إلى كتاب «حرق الكتب في التراث العربي» لناصر الحزيمي المنشور عن دار الجمل، ففيه تاريخ هذا الحرق حادثة.. حادثة. طبعا كان يضاف إلى الحرق، إخفاء أو تقطيع أو إغراق الكتب في الأنهار. كان بعض الولاة يرى في حرق الكتب السابقة عليه تمهيدا لعصر جديد وكتب جديدة. في العهد العباسي حين اعتنق المأمون والمعتصم مذهب المعتزلة، تمت محاكمة كثير من المختلفين في الرأي، وتم حرق كتبهم أو كثير منها، والأمر نفسه حدث مع المعتزلة حين ابتعد الولاة عن مذهبهم ومالوا إلى الأشاعرة، فاختفت كتب المعتزلة تماما، ولم تظهر من جديد إلا بسبب حادثة عابرة هي زيارة وفد من وزارة المعارف المصرية لليمن عام 1951 وعثوره صدفة على كتب المعتزلة في إحدى المكتبات المهجورة.
التاريخ المسيحي والإسلامي حافل بحرق وإتلاف الكتب، سواء من ناحية الوالي أو رجاله، أو الشيوخ أو القساوسة المختلفين مع صاحب الكتاب في أفكاره. محاكم التفتيش في أوروبا أحرقت الكثير من الكتب، وبعضها أمام أعين أصحابها.
أما الأندلس فشهدت الحرق في العهدين الإسلامي وبعده. في العصور الإسلامية كان حرق أو إخفاء الكتاب لخلافات فقهية، والأمثلة كثيرة مثل كتب ابن حزم وابن رشد وغيرهما. بعد أن انهارت الدولة الإسلامية صار حرق المكتبات كاملة من الدولة المسيحية الجديدة، لإنهاء كل ما له علاقة بالقديم، وإجبار من تبقى على التنصر، سواء كان مسلما أو يهوديا، وحدث خروج كبير لليهود والمسلمين من الأندلس، إلى المغرب أو تركيا العثمانية، وهكذا صار حرق المكتبات لا يفرق بين أدب وفكر، وبين كتب دينية وغيرها، وتجاوزت أعداد الكتب المحروقة المليون ونصف المليون كتاب.
الشواهد على ذلك كثيرة في كتب المؤرخين، وليس كما هو الأمر في مكتبة الإسكندرية التي يختلف الناس في سبب حرقها، وهل كان وراءه قيصر روما بعد دخول مصر، أم عمرو ابن العاص بعد دخول المسلمين. ما جرى في الأندلس أقرب وموثق في عشرات الكتب، كذلك ما جرى من محاكم التفتيش في أوروبا. لو قفزنا بسرعة إلى العصر الحديث سنجد أبشع صور حرق للكتب في ألمانيا النازية في عهد هتلر. في عام 1933 في أكبر ميادين برلين تم حرق آلاف الكتب، قيل إنها عشرون ألف كتاب، لكتّاب يراهم النظام النازي على جانب آخر منه، بعضهم معروف مثل هاينريش مان وإريك ماريا ريمارك وحتى فرويد وغيرهم. كان كل ذلك كالعادة تمهيدا ليكون هتلر هو صاحب السلطة المطلقة، والرأي الأول في السيطرة على العقول. أخذ الأمر أشكالا أخرى من مصادرة الكتب في الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، أو إيطاليا مع موسيليني، ووصل إلينا في عالمنا العربي. لم يعد هناك حرق كتب، بل مصادرتها أو عدم نشرها إلا بعد موافقة الرقيب. كان ذلك في مصر في عهد عبدالناصر، فكان الكتاب ينشرون كتبهم في بيروت بعيدا عن مصر، وخفف ذلك من أعداد الكتب المصادرة، وحتى بعد أن ألغى السادات نظام الرقابة المسبقة على الكتب عام 1979 ظلت الرقابة قائمة على الكتب المقبلة من الخارج، وطبعا لن استمر بضرب أمثلة من العالم العربي فلن يتسع المقال. ما يهمني أنه انتهى حرق الكتب لنصل إلى المصادرة التي وصلت الآن إلى حجب مواقع إلكترونية كثيرة جدا، لأن الأنظمة السياسية تراها على الجانب الآخر منها، ولا يعي أحد أن اختراق الحجب صار من أسهل ما يمكن فعله ببرامج سهلة جدا، لكن المهم الراحة النفسية للنظام. هذه الرحلة التي أثارها موضوع حرق المصحف في نفسي تعيدني إليه من جديد، وأنا أرى بيانا من الأزهر، وهذا طبيعي جدا، ضد ما حدث، وضد معنى حرية التعبير، كما يراها الدستور السويدي. هذا حق الأزهر ودوره، لكن حدث هذا في الوقت الذي رحب فيه الأزهر ببيان بوتين رئيس روسيا الذي أدان حرق القرآن وعبّر عن تقديره له وللدين الإسلامي، ونسي الجميع ما فعله بوتين في سوريا من هدم لآلاف المنازل وبينها المساجد، وقتل أبرياء من الكبار والأطفال ولا يزال. كما استقبلت وزارة الأوقاف المصرية رئيس الهند واحتفت به، هو الذي يرى المسلمون في بلاده عنتا وقهرا رهيبا تتم إذاعته كل حين. الغريب والمفاجئ وأنا أكتب هذا المقال ما حدث في فرنسا من قتل للصبي الجزائري الذي كان يقود سيارته بلا رخصة، وأصابه الشرطي الفرنسي متعمدا بطلقة في رأسه، مظهرا كم العنصرية البغيضة. طبيعي أن تهيج الدنيا في فرنسا كما نرى، لكن بين عمليات الحرق للمحلات وغيرها، كشكل من أشكال الاحتجاج، تم حرق «مكتبة القصر» في مارسيليا وهي أكبر مكتبة في المدينة. يقولون إن الحريق لم يتجاوز واجهة المكتبة لكن يقفز السؤال. ما هذا الوباء الذي يشمل المكتبات حتى رغم بعد الأمر عنها. المهم الآن في رأيي أن الشاب العراقي الذي أخطأ واستغل الدستور السويدي الذي يعتبر ذلك من حرية التعبير، يحتاج أمره إلى احتجاج حقا، لكن في إطار عمل سياسي، وليس مجرد دعوات لمقاطعة البضائع السويدية، ستنتهي كغيرها إلى الذكرى. من يقوم بهذا العمل السياسي هو الجامعة العربية، ولا تكتفي بمجرد بيان، لأنه يمكن في الأيام المقبلة أن تسمح المحكمة السويدية لمسلم أن يحرق التوراة أو الإنجيل مثلا، تأكيدا على حرية الرأي ورسالة ساخرة لنا ومن رأينا. هناك عالمان في المسألة. أوروبا من ناحية، ونحن في الشرق من ناحية أخرى، فمن يستطيع إدارة الأمر بشكل مؤثر حقا. هذا هو السؤال.
روائي مصري
“القدس العربي”