فحتى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1978 كان نشيد “بلادي”، مجرد أغنية حماسية يتم استدعاؤها تلقائياً في طابور الصباح المدرسي أو في الاحتفالات الوطنية العامة، فيما كان نشيد “والله زمان يا سلاحي” الذي نظمه صلاح جاهين ولحنه كمال الطويل كي تغنيه أم كلثوم أثناء حرب السويس سنة 1956 أو ما يعرف في مصر بالعدوان الثلاثي، هو النشيد والسلام الوطني للجمهورية العربية المتحدة التي كانت ضمت سوريا ومصر بين العامين 1958 و1961.
وبقي الحال على ما هو عليه حتى بعد انفصال الدولتين، إلى أن أبرم أنور السادات معاهدته مع إسرائيل، فأصبحت وزارة الحربية هي وزارة الدفاع. كذلك ارتأى أنه لم يعد من المناسب أن يغني المصريون في نشيدهم القومي وقت السلام: “والله زمان يا سلاحي، اشتقت لك فى كفاحي، إنده وقول أنا صاحي، يا حرب ولا زمان”، فكلف السادات محمد عبد الوهاب، الاسم الأكبر في عالم الموسيقي العربية بتوزيع نشيد “بلادي بلادي” الذي وضعه سيد درويش قبل ستين عاماً من هذا التاريخ، كي يكون نشيداً وسلاماً وطنياً لمصر في عهدها الجديد، وأنعم عليه برتبة اللواء الفخرية كي يقود عبد الوهاب اوركسترا الموسيقى العسكرية في المرة الأولى التي عُزف فيها نشيد السلام الجديد.
وجرى الأمر وفق الترتيبات المطلوبة، وفي العام 1990 قبل رحيل عبد الوهاب بسنة جمعني لقاء بعازف الأكورديون في الفرقة الماسية مختار السيد، فإذا به يسمعني شيئاً لم أكن أتوقعه: كانت “بروفة” توزيع النشيد الوطني في هيئته الجديدة، وفيها يفعل مختار السيد كل شيء كأنه القائد، رغم وجود عبد الوهاب وبقية أعضاء الفرقة الماسية، مؤكداً لي أنه الموزع الحقيقي للسلام الوطني الذي يحمل اسم عبد الوهاب. ولما سألته لماذا رضي بذلك ولماذا يقول لي هذه الحقيقة الآن؟ أجابني بأن عبد الوهاب أستاذه، وأنه اعتاد مع غيره على القيام بتوزيع أعمال عبد الوهاب الذي لا يجيد هذه المهمة، وأنه تواعد مع الموسيقار الكبير على كتمان الأمر، لكنه يشعر بالحسرة وهو يرى سلام بلده الوطني الذي قام بتوزيعه يحمل توقيع شخص آخر حتى لو كان عبد الوهاب. وإزاء ما سمعت، استأذنتُ مختار السيد في نشر هذه الحقيقة، فقال لي: لك هذا، لكن بعد رحيل عبد الوهاب، إذا كنا لا نزال على قيد الحياة. ورحل عبد الوهاب بعد هذه الواقعة بعام، وقمت بالفعل بالإفصاح عن هذا السر عبر أحد البرامج التلفزيونية، ويومها قامت الدنيا ولم تقعد.
غضب مني الموسيقار أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الماسية، ولام مختار السيد لوماً شديداً، بل وهدّد بنشر تكذيب في الصحف باعتباره شاهداً على الواقعة. فذكّرته بتمثيلية بروفة أغنية “من غير ليه” التي شارك فيها هو و”الماسية” مع عبد الوهاب أمام كاميرا برنامج “حديث المدينة” الذي كان يقدمه مفيد فوزي، وذلك رغم أن “من غير ليه” هي في أصلها بروفة حفظ بين عبد الوهاب وعبد الحليم منذ منتصف السبعينيات وتمت معالجتها صوتياً حتى يبدو الموسيقار الكبير وقد تغنى بها لتوه أواخر الثمانينيات. فآثر قائد “الماسية” التوقف عند هذه النقطة خصوصاً أنه كان قد دخل في أزمته الصحية التي أودت به إلى الوفاة في العام التالي مباشرة 1993.
المدهش أن نشيد “بلادي بلادي” المأخوذ من بداية خطبة حماسية كان قد ألقاها الزعيم المصري مصطفي كامل واستقر في وجداننا أنه من تأليف الشيخ يونس القاضي، هناك من يردد أنه ليس من تأليفه، وإنما من نَظم سيد درويش نفسه، بل إن عبد الوهاب ذاته يقول لمحمد أحمد عيسي في كتابه “رحلة غنائية يرويها محمد عبد الوهاب” الصادر سنة 1975 عن دار الشعب للنشر والتوزيع، ما نصه: “وقد ألف المرحوم بديع خيري الكثير من الأناشيد الوطنيّة لسيد درويش في مقدمتها نشيد بلادي بلادي ونشيد قوم يا مصري مصر دايما بتناديك”.


























