خبر مبهج دائماً، في تقدير هذه السطور، أن يصدر عمل جديد من روائي ذي باع ومكانة مثل الجنوب – أفريقي جون ماكسويل كويتزي (نوبل الآداب 2003)؛ وتكتسب البهجة سلسلة إضافية من دواعي الالتفات والاهتمام والعناية إذا كان العمل رواية (وليس دراسات نقدية ومراجعات كتب، على عادة كويتزي)، وينطوي نشره على ملابسات خاصة تصبّ في مسائل سياسية وثقافية وهيمنة المركز على الهامش. وكان كويتزي قد أصرّ على نشر «البولوني»، الرواية الجديدة، في ترجمة إسبانية أوّلاً، ثمّ صدرت بلغتها الإنكليزية الأمّ في أستراليا، من منطلق انحيازه إلى نطاقات نشر غير أمريكية؛ قبل أن تنشرها راندوم هاوس مؤخراً في الولايات المتحدة.
خصوصية أخرى اقترنت بالرواية الجديدة، أعمق اتصالاً بالجوانب الفنية هذه المرّة، أنها تعكس على النحو الأكثر وضوحاً بلوغ كويتزي طور الأسلوب المتأخر، كما شخّصه تيودور أدورنو وطوّره إدوارد سعيد لاحقاً؛ حين تتجمّع في عملٍ ما خلاصةُ أساليب الماضي لدى المبدع (الشاعر أو الروائي أو الموسيقي أو التشكيلي…)، ولكن في توليفة جديدة مركبة أقرب إلى إقامة جدل حيوي بين الخطوط الأسلوبية الكبرى وليس إعادة إنتاجها أو إفراد سماتها وعناصرها. صحيح أنّ الرواية القصيرة ميّزت قسطاً غير قليل من أعمال كويتزي السابقة (و»البولوني» تقع في 176 صفحة)؛ ولكن من الصحيح، في المقابل، أنّ الوجيز في العمل الجديد لا يقتصر على عدد الصفحات، بل يشمل أيضاً حصر الشخصيات في رجل وامرأة عملياً، وكذلك اختيار برشلونة مسرحاً مركزياً للأحداث.
بطل الرواية عازف بيانو من وارسو يدعى ويتولد والزيكييتز، ولكثرة حروف الواو والزاي في اسمه وكنيته فقد اختار له معارفه لقب البولوني؛ ليس بعيداً عن تلميحات جنسية (طبقاً لمعنى المفردة الإنكليزيةPole ) راجعة إلى إفراط شهواته الجنسية، رغم أنه في العقد السابع، وشعره يشتعل باللون الفضي. وفي الصفحات الأولى من الرواية، يُوصف هكذا: «رجل في السبعين، السبعين العفيّة المتوثبة، عازف بيانو في الحفلات الموسيقية، مشهور بأداء شوبان، ولكنه عازف إشكالي: شوبان عنده ليس رومانسياً بل على العكس متقشفاً، شوبان وريث باخ. وبهذا المعنى فإنه حالة غريبة على مشهد الحفلات الموسيقية، غرابة تستقطب جمهوراً قليلاً ولكنه متفهم، في برشلونة، المدينة التي دُعي إليها، والمدينة التي ستشهد لقاءه مع امرأة بهية خافتة الصوت».
المرأة هي بياتريس، صاحبة دعوة البولوني ومنظّمة حفلاته، التي يقع في غرامها من دون إبطاء، وتصبح سيرورات دنوّهما من الحبّ أو نأيهما عنه بمثابة شبكات سردية معقدة وبارعة، تُدار خلالها إشكاليات الحياة والموت والذاكرة، وشيخوخة الجسد السبعيني المتأجج رغبة مقابل فتوّة أصابع عازف البيانو المتأججة بالعنفوان والإبداع. وعلى امتداد فصول ستّة، لا يغالي القارئ إذا اعتبرها حركات في مسارات سيمفونية، تتعاقب أطوار الشدّ والجذب من حول تفاصيل محورية وأخرى هامشية، ضمن متتاليات شعورية مشحونة، قد يخمدها تارة بون الـ25 سنة التي تفصل البولوني عن معشوقته بياتريس، أو يُشعلها تارة أخرى تماسّ المشاعر والحواسّ والرغائب.
ولعلّ المرء، ضمن تلمّس هذه أو تلك من تجليات الأسلوب المتأخر لدى كويتزي في هذه الرواية، يعود إلى طراز سابق من التناظرات عكستها روايته «في انتظار البرابرة»، 1980؛ التي سجّلت اندثار، أو بدء انحدار، إمبراطورية عريقة؛ وأقامت سلسلة مفارقات بين «رقيّ» أهل الإمبراطورية و»وحشية» البرابرة (والعنوان، بالطبع، مستمدّ من قصيدة قسطنطين كفافي الشهيرة)، كي تضع القارئ أمام خلاصة معاكسة حول هويّة المتحضّر فعلياً. كذلك ذهب كويتزي إلى روسيا في عصر دستويفسكي ليعيد إنتاج حال المذلّين المهانين في بلده، فمارس في «معلّم بطرسبورغ»، 1994، رياضته الفنّية المفضّلة: بناء التناظر وزجّه في شبكة من القَصَص الرمزي. في «البولوني» لسنا أمام طراز مستعاد من ذلك التناظر، وهنا فضيلة التنوّع في خطوط الأسلوب المتأخر، بل إزاء شبكات أخرى تقيم الحدود، أو تكسرها، بين رجل وامرأة، وبين شيخوخة شهوانية أبيقورية وأنوثة ناضجة أرستقراطية، وبين عتوّ الرومانسية عند شوبان والرصانة عند شوبان ذاته إذْ يستعيد باخ…
كذلك لا يفتقد قارئ «البولوني» عنصراً قديماً، متجدداً بدوره ضمن معادلة الأسلوب المتأخر، هو المونولوغ السردي، الذي يصنعه صوت واحد يحكي حكاية المتكلم (بياتريس، هنا)؛ ولكنه يتميّز تماماً عن السرد بضمير المتكلّم في أنه صوت لا ينقطع، على نحو معقّد ومتشابك اختصره كويتزي ذات يوم هكذا: «الصوت الداخل في مونولوغ منشغل بضمير المتكلّم السارد، هذا المنشغل بسرد حكايته». وتلك تقنية أسعفت كويتزي مراراً وتكراراً، خاصة عندما تقتضي الضرورات تبديد مقدار إضافي من شراك الواقعية القسرية، التي يلوح أحياناً أنها خيار لا مفرّ منه إذا توجّب إشباع الخلفيات التاريخية للأحداث أو الشخصيات.
في عبارة أخرى، ليس الصوت الناطق في الرواية الجديدة متنائياً إرادياً عن واقع برلشوني حيّ وحيوي، لكنه صوت يتعمد كويتزي زجّه في تناظرات الرجل/ المرأة والحياة/ الموت والذاكرة/ النسيان… بمقدار محسوب تماماً، يراكم رابطة جدلية بين بين ناطقَين وقطبَين وأقصيَين؛ حيث شيخوخة الجسد لا تتقاطع معها إلا فتوّة الأصابع.
“القدس العربي”