أعلنت حركة «حماس» الفلسطينية في بيان مقتضب، فجر أمس الأربعاء، 22 نوفمبر 2023، إنها توصلت لاتفاق «هدنة إنسانية»، و«وقف إطلاق نار مؤقت» لمدة أربعة أيام بجهود قطرية ومصرية بعد مفاوضات وصفتها بأنها «صعبة ومعقدة». وأكد بيان وزارة الخارجية القطرية التوصل إلى اتفاق «هدنة إنسانية» من دون الإشارة إلى «وقف إطلاق النار». وفي البيان الذي أصدره الرئيس الأمريكي جو بايدن حول الموضوع أُشيرَ إلى «اتفاق لتأمين إطلاق سراح الرهائن»، من دون أي ذكر، لا إلى مسمى «الهدنة»، أو إلى «وقف إطلاق النار».
وعند التدقيق في التفاصيل، نلاحظ أنّ تفاصيل الهدنة التي أعلنت عنها حركة حماس تشمل: وقف إطلاق النار من الطرفين، ووقف كل الأعمال العسكرية للجيش الإسرائيلي في مناطق غزة كافة، ووقف حركة آلياته العسكرية في القطاع، وإطلاق سراح 50 من المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال دون 19 عاماً، مقابل الإفراج عن 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين دون 19 عاماً من السجون الإسرائيلية، على أن تدخل بموجب الهدنة مئات شاحنات المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود لكل مناطق غزة بلا استثناء، إلى جانب وقف حركة الطيران في جنوب غزة على مدار أيام الهدنة الأربعة، ووقف حركة الطيران في شمال القطاع ست ساعات يوميّاً؛ من العاشرة صباحاً حتى الرابعة مساءً، والتزام إسرائيلي بعدم التعرُّض لأحد، أو اعتقال أحد، في كل مناطق قطاع غزة خلال هذه الأيام، وضمان حرية حركة المواطنين من شمال غزة إلى جنوبها على طول شارع صلاح الدين.
وبغض النظر عن معاني تغييب تعبيرات “الهدنة”، و”اتفاق إطلاق النار” في البيانات الرسمية الأمريكية، وبيانات الوسطاء، فإن الاتفاق الذي يجري الحديث عنه، حتى بصورته التي تعرضها حركة حماس، يبدو مُخيِّباً للآمال، لكنّه يعكس الواقع الميداني الصّعب الذي واجهته الفصائل الفلسطينية في ظل إخفاق مقولة “وحدة الساحات” التي روّجت لها إيران، وأدواتها الإقليمية، وفي ظلّ تراجُع الإسناد الذي كان متوقعاً ممّا يسمى “جبهة المقاومة”، وفي ظل التحرُّك المحدود في الضفة الغربية، والموقف العربي الرسمي المنتقد لـ “حماس”، والممتعِض من هجمات السابع من أكتوبر، وكذلك في ظل المُساندة الشعبيّة غير المنتجة للجماهير في العالمين العربي والإسلامي. ولا يخفى على أحد أنّ تبادل 50 مُحتجزاً إسرائيليّاً، في مقابل إطلاق سراح 150 مُحتجزاً فلسطينيّاً، يُعبِّر عن هذا الواقع الميداني الصعب؛ حيثُ تُشير تجارب تاريخيّة سابقة إلى إطلاق 1027 أسيراً فلسطينيّاً في مقابل أسير إسرائيلي واحد.
وعلى الرغم من الرهان على قدرة الصّبر الكبيرة لدى سُكَّان غزة ومقاومتها، إلّا أنّ هناك حقائق لا ينبغي تجاهلها، قد تُشَكِّلُ مُنعطفاً تاريخيّاً أشدّ قسوةً من منعطفات سابقة، منها: حقيقة أنّ إسرائيل نجحت في تحريك معظم الكتلة البشرية مِن سكان شمال القطاع إلى جنوبه، وأنها قد تسعى إلى تحريك هذه الكتلة نحو شبه جزيرة سيناء، ومنها: أنّ إطالة أمد المواجهة قد يأتي على معظم، وربما كل ما لدى الفصائل الفلسطينية من مخزون السلاح، والعتاد المحدود المتوافر لها، وبالتالي قد تُصبِح بلا مخالب، ومنزوعة السلاح، كما يريدها الإسرائيليون. وكل ذلك، يُشير إلى أهميّة مواصلة الحراك الدبلوماسي النشط لتمديد الهدنة، والتوصُّل إلى وقف نهائي لإطلاق النار قبل فوات الأوان.
لكنّ تطورات الأحداث تُشير أيضاً إلى أنّ هناك طرفاً إقليميّاً لديه خطة أخرى؛ إذْ تبدو إيران (المنزعجة بسبب تغييبها عن اتفاق التبادل) حريصةً على إفشال هذا الاتفاق. وكانت عملية احتجاز سفينة الشحن التجارية “جالاكسي ليدر” التي نفَّذها حلفاؤها الحوثيون في اليمن، والتي أكّدت مصادر مُتعدّدة أنّ مُلكيّتها تعودُ إلى رجل أعمال إسرائيلي، بمثابة خطوة في سياق تصعيديّ، يسعى إلى إعاقة أيّ اتفاق يجري التوصل إليه، من دون حضور إيراني، أو بمعنى أدقّ، من دون دور إيراني. ولم يكن وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان مُوارِباً في تعبيره عن هذه الرغبة الإيرانية، حينما أعلن من بيروت في زيارته الأولى بعد هجمات السابع من أكتوبر، أنّ المقاومة سوف تُسلِّم الأسرى إلى إيران فقط، وأنّ الوسطاء لن يضطلعوا بدورٍ أكثر من مستوى تسهيل الاتصال الدبلوماسي.
لكنّ الإدارة الأمريكية وإسرائيل كان لهما رأيٌ مغاير على ما يبدو؛ إذْ جرى التفاوض بطريقة كشفت عن تغييبٍ كاملٍ للدور الإيراني، وهو لا شك تغييبٌ ممنهجٌ ومقصودٌ. وتُشيرُ زيارة وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان إلى بيروت في صبيحة الإعلان عن التوصل “اتفاق التبادل” أو “الهدنة”، إلى رغبة طهران في إعادة التأكيد على أهمية الحضور والدور الإيرانيين، وإعادة التذكير بما تمتلكه طهران من أوراق التأثير على الصراع، وبخاصّة قدرتها على إدارة مستوى التصعيد على الجبهة الشمالية لإسرائيل.
وفي هذا السياق أيضاً، يُمكنُ فهم إعلان حركة الجهاد الإسلامي غير المنسجم مع أجواء التهدئة صبيحة إعلان اتفاق التبادل؛ حيث أوضحت الحركة صباح اليوم الأربعاء، أن “أسرى العدو لدينا من غير المدنيين، لن ينالوا الحرية حتى تحرير كل أسرانا في سجون الاحتلال”. ويبدو أن حركة حماس التي تخشى من مساعي إفشال الاتفاق، كانت حريصة على توضيح حيثياته لقيادة “حزب الله” اللبناني، والتحقُّق من عدم قيامهم بما يُطيح الهدنة؛ حيث أُعلِنَ في بيروت عن لقاءٍ جمع اليوم عضوين من المكتب السياسي لحركة حماس، هما خليل الحية، وأسامة حمدان، مع حسن نصر الله زعيم الحزب.
وخلاصة القول، إن حركة حماس، ومعها أهل غزة، دفعوا حتى الآن، أثماناً باهظة في هذه المواجهة التي لا شكّ بأنّ الرابح الأكبر فيها كان إيران، ومن خلفها حليفتها روسيا الطامحة إلى تعميق الانشغال العسكري والأمني الأمريكي والغربي في الشرق الأوسط، ربما لتخفيف الضغط عن قواتها في أوكرانيا، أو تسهيل التوصل إلى تسوية للصراع هناك.
وعلى الرغم من إدراكنا للدوافع الموضوعية، والمظلومية الواضحة التي تُحرّك الصراع مع إسرائيل على الجانب الفلسطيني، إلّا أن الدور الإيراني يبدو أكثر وضوحاً في هذا المشهد، مِن أن يستطيع أيّ مراقب إنكاره، أو تجاهله. فقد عوّدتنا إيران دائماً أنها تمتلك مهارات متفوقة في القدرة على التأزيم، والتصعيد، وإدارة الحروب اللامتناظرة، وتفجير التناقضات، وإشعال الصراعات، لكنّها تمتلك قدرات محدودة للغاية، في تحويل كُل هذه الأنشطة إلى مكاسب اقتصادية وسياسية ملموسة، وصناعة نفوذ مستدام، أو تكريس واقع جديد، أفضل من واقع الأزمة. وقد شاهدنا كثيراً من هذا في أحداث سورية، والعراق، واليمن، ولبنان، وغيرها طوال العقدين الماضيين.
واليوم دخلت إيران بكل ثقلها القضية الفلسطينية، مُكرِّرةً ذات العمليّة: مهارات استثنائية في التأزيم، وتحريك الأوراق والأغصان، ومقدرة محدودة للغاية على جني المحصول، وقطف الثمار. وعليه، فإن أهل غزة، والفلسطينيين جميعاً، بمن فيهم قادة الفصائل المقاتلة، لهم مصلحة حقيقية في إنجاح الاتفاق، وإدامة التهدئة، وتسهيل محاولات الوسطاء تكريس وقف دائم لإطلاق النار. ولذلك فإن الفلسطينيُّين والعرب معنيّون بمنع محاولات التشويش الإيراني على محاولات التهدئة، وإنجاح الوساطات العربية وغير العربية. وإدراك حقيقة أن إيران مهتمة بمحاولة “فرْض” دورها المرفوض أمريكيّاً، أكثر من اهتمامها بإنجاح “الهدنة”، و”وقف إطلاق النار”، ووقف هذه المأساة الإنسانية.
“مركز الامارات للسياسات”