قبل نحو أربعة عقود، كتب الناقد الثقافي إدوارد سعيد أن ثمة تواطأ إعلامياً واسع النطاق في الغرب لحماية إسرائيل معنوياً، يؤدي مهمة مزدوجة. فكل من تسول له نفسه قول الحقيقة عنها “إما يُقابل بهجوم قوي يتسم بالإجماع أو يتم تجاهله.” والتاريخ يعيد نفسه، مع بدء فصل آخر في الصراع دشنّه طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
مالم يورده سعيد في مقاله، هو أن “العصاة” في الغرب غالباً ما يكونون إسرائيلي الأصل. والمعاملة التي وصفها كانت أخيراً من نصيب البروفسور راز سيغال، الإسرائيلي- الأميركي أستاذ دراسات المحرقة النازية وعمليات الإبادة في جامعة ستوكتون الأميركية.
سيغال الذي دأب على إشعال الحرائق في كثير من “الأساطير” التي ينسجها سياسيو بلاده وحكوماتها، يشرّح بدم أكاديمي بارد بعض “الحكايات” التي تحدد كيفية تعاطي إسرائيل مع الفلسطينيين والعالم، وصورة الضحية الأزلية التي تتشبث بها لتقيها اللوم حتى حين تكون يداها مخضبتين بدماء الآخرين!
تناول راز الفكرة الأخيرة في مقالة نشرتها صحيفة “الغارديان” بعنوان “يجب على إسرائيل أن تكف عن استعمال المحرقة النازية كسلاح” لتبرير عنفها ضد الفلسطينيين وعقابها الجماعي لغزة. وبعد نحو شهر، أجرى في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) مقابلة مصورة مع الصحافي البريطاني أوين جونز جادل فيها بأن إسرائيل تمارس حالياً في غزة “حالة نموذجية لعملية إبادة” لسبب أساسي هو الإعراب الصريح عن “النية” بإزالة القطاع بمن فيه عن وجه الأرض. وساق أمثلة تؤكد هذه النية على لسان كبار القادة العسكريين، والسياسيين، وحتى الإعلاميين.
اللافت أن جوهر القضية التي أثارها راز في المرتين جرى تجاهله كلياً من خصومه الذين راحوا يطلقون النار على “الرسول”، واندلعت حرب إعلامية شعواء!
أغمضوا عيونهم عن راز وهاجموا “الغارديان” بضراوة، أولاً. ثم لم يعبأوا بالبروفسور ومضيفه وتفرغوا “لإطلاق النار” على غاري لينكر مقدم برنامج “مباراة اليوم”، لأنه أعاد نشر فيديو المقابلة، وعلى “هيئة الإذاعة البريطانية”(بي بي سي) التي يعمل لديها. كتب نجم الكرة السابق ست كلمات فقط قال فيها إن شريط المقابلة “يستحق 13 دقيقة من وقت أي شخص” ونشر الفيديو، فقامت قيامة أنصار إسرائيل، ربما لأن متابعيه يقدرون بـ8 ملايين و900 شخص.
في المرتين، لم يأتِ راز بجديد حقاً. فهو أكد في المقابلة أفكاراً كان قد ضمّنها مقالته السابقة وذكرها في مناسبات أخرى. كما أنه ليس فريداً في طرحها. فقد وقع على كتابات مؤرخين إسرائيليين كباراً، ينددون بالاحتلال وباستغلال المحرقة النازية ويعربون عن قلقهم من المذابح التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي المحتلة، وخصوصاً غزة مسرح “عملية الإبادة” الحالية، على حد تعبيرهم. ورفع أكاديميون معروفون أخيراً عريضة تطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية التي سطت عليها في 1967، بينهم إسرائيليون كالبروفسور أومير بارتوف، المتخصص هو الآخر في دراسات الهولوكوست، إضافة إلى راز ذاته.
لم تورد وسائل الإعلام البريطانية الرئيسية وجهة النظر الأكاديمية هذه، مفضلة التكرار الببغائي لتأكيد “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها”. وهذا ما ردّده ريشي سوناك رئيس الوزراء وكير ستارمر زعيم حزب العمال والمعارضة من دون كلل أو ملل، منذ 7 تشرين الأول.
إلا أن سيغال أوضح أن “القانون الدولي لا يعطي المحتل حق الدفاع عن نفسه”. وشجب بشدة “جرائم الحرب التي ارتكبتها حماس في 7 تشرين الأول”، كما يسميها. لكنه أوضح أنها أتت في سياق الاحتلال والسجن والمذابح التي ارتكبتها بلاده في حق الفلسطينيين على امتداد ثمانين عاماً.
الغضب الذي يعمي العيون أنسى مؤيدي إسرائيل، ووسائل الإعلام المنحازة لها، “الأيادي البيضاء” لكل من “بي بي سي” و”الغارديان”، على حكاية دولتهم فراحوا يكيلون لهما التهم. والحقيقة أن للأولى سجلاً حافلاً في تأييد إسرائيل على الرغم من ادعاءاتها بأنها مثال للنزاهة. رفضت ولا تزال ترفض إطلاق صفة الإرهابيين على مقاتلي “حماس”، ما أغضب كثيرين، بمن فيهم وزراء يهود. إلا أنها ركّزت على الضحايا الإسرائيليين لحرب غزة ولم تولِ الفلسطينيين حقهم من الاهتمام بما يتناسب مع الفارق الكبير في حجم الكارثة بينهم وبين جيرانهم، وعاملتهم كأعداد وليس كبشر! وأوقفت 7 صحافيين عرب عن العمل، لأنهم كتبوا تعليقات قصيرة أو إشارات مرحبة بعملية “طوفان الأقصى”. من هؤلاء اللبنانية ندى عبد الصمد التي تقاضي حالياً الهيئة حيث عملت 27 عاماً.
أما “الغارديان” الليبرالية، فروّجت على مدى سنوات، مع صحف يمينية، قصة معاداة السامية ضد جيرمي كوربين زعيم حزب العمال السابق، مع أنها كانت في رأي كثيرين بينهم يهود، تهمة مفبركة، أو عير مثبتة، في أقل تقدير. كما أن الصحيفة أنهت تعاونها مع الكاتب ناثان روبنسون قبل عامين لأنه نشر تغريدتين ساخرتين حول الدعم الأميركي لإسرائيل.
والأدهى أن اليمين المتطرف أخذ يخوض معارك إسرائيل على الأرض. هكذا استمات تومي روبنسون للمشاركة في مسيرة اعتبر منظموها أن هدفها الاحتجاج على معاداة السامية. ولما منعته الشرطة، استهجن ذلك بعض المشاركين في المسيرة، فيما سخر منه آخرون. وروبنسون عنصري له تصريحات تدل إلى عدائه للسامية، شأنه شأن القس الأميركي جون هاجي، الذي ألقى كلمة في تجمع مضاد لمعاداة السامية في واشنطن الشهر الماضي!
في المقابل، شهدت لندن مسيرة يهودية أخرى في تشرين الثاني أيضاً للتنديد بالاحتلال والدعوة إلى وقف العدوان على غزة كما يراه منظموها. ومع أن عدد المشاركين فيها لم يقل كثيراً عن تظاهرة “إخوتهم” التي وصفوها بأنها “ضد الفلسطينيين، وليست لشجب معاداة السامية”، لم يذكرها الإعلام نهائياً، على الأغلب.
بات هناك إذاً فريقان في المجتمع اليهودي البريطاني، لكل منهما مفاهيم متضادة وأهداف متباينة ومصطلحات مختلفة، ويتعاطف الإعلام مع أحدهما ويهمل الآخر.
هذا الشرخ يمثل مشكلة للمؤسسة الصهيونية التي سعت دوماً إلى تصوير اليهود كتلة متجانسة وجزءاً من “الأملاك القومية”، وتستخدمهم عملياً “دروعاً بشرية” طبقاً لجوناثان أوفير، الموسيقي وقائد الأوركسترا الإسرائيلي الذي يعيش في الدنمارك.
أوفير ليس صوتاً استثنائياً في دفاعه عن اليهود والفلسطينيين. ثمة أصوات يهودية كثيرة تعمدت بمعاناة الانتساب الى كيان تعتبره ظالماً. وهي شبه منبوذة في بريطانيا، تتجنبها وسائل الإعلام الرئيسية قدر الإمكان. وعموماً يسعى الإعلام اليميني، الذي يحمل في كثير من الأحيان سمات عنصرية، الى الدفاع عن إسرائيل حتى ضد أبنائها!
هكذا تتمدد غزة خارج حدود القطاع لتنذر بإثارة “حرب أهلية ” باردة بين يهود بريطانيا، وتمهد لإعلان حرب أخرى على الإعلام “الصديق” لأنه تجرأ مرة على معاملة إسرائيل بموضوعية.
“النهار العربي”