أسقطت الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة العالم بسياسته ومصداقيته ومنظماته وأخلاقه. ما بعد هذه الحرب ليس كما قبلها، كلام تردد كثيراً مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية، وذهب المحللون في تحليلاتهم وتوقعاتهم في اتجاهات شتى، منها ما أصاب ومنها ما أخطأ ومنها كان مجرد أمنيات. لكن لهذه الحرب المستمرة إلى ما لا يمكن توقعه بدقة حتى الآن، تداعيات أبعد بكثير مما يتم تداوله على مستوى غزة وفلسطين، أرضاً وقضية، وحتى على مستوى الشرق الأوسط برمّته، والشرق الأوسط ليس ما اصطلح على الخلط بينه وبين الشرق الأدنى التاريخي. كان الشرق الأدنى يعني بلاد الشام ومعها العراق ومصر، أما الشرق الأوسط فمصطلح مطاط قد يعني الشرق الأدنى وقد يتمدد ليشمل إيران وتركيا والمغرب العربي بحسب الاستراتيجيات الغربية.
ليس ما قبل حرب غزة كما بعدها بالتأكيد، لكن الصورة ضبابية حتى الآن رغم ما يرشح من المحادثات السرية التي تدور في عواصم عربية وأجنبية ومن زيارات مكوكية لمسؤولين غربيين، وخصوصاً أميركيين، لبعض العواصم العربية، وتحركات روسية وصينية وإيرانية في اتجاهات عربية.
على كل حال، الحرب على غزة، رغم محدودية ميدانها وأطرافها، هي حرب ببعد أخلاقي دولي، ستكشف الكثير من عورات النظام العالمي وتعري قوى كثيرة فيه، إن لم تكن عرّتها بعد. منذ الحرب العالمية الثانية وويلاتها سيكون العالم أمام امتحان المصداقية والإنسانية بشكل صارخ، وستكون مؤسساته هي الأخرى محل سؤال عن دورها وجدواها وستكون الدول في مواجهة شعوبها ومثقفيها. وسيكون دعاة حقوق الإنسان المزيفون مضطرين للمثول أمام محاكم الضمير والأخلاق.
سيبقى منظر الدمار الرهيب في غزة ماثلاً في الأذهان، كما بقي منظر المدن المدمرة في الحرب العالمية الثانية من ليفربول في بريطانيا إلى ستالينغراد في روسيا إلى هيروشيما وناغازاكي في اليابان إلى برلين في ألمانيا، وهو ما أكده مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أمس، معلناً أن الدمار في غزة يفوق دمار المدن الألمانية في الحرب العالمية، وستبقى فيديوات الموت تحت الأنقاض وفي المستشفيات وصور الضحايا الممزقين والعائلات المشردة بلا مأوى ولا غذاء ولا دواء تعذب العالم لفترة طويلة، إن لم يكن الزعماء فأقله أصحاب الحس الإنساني والضمير الحي.
سيذكر التاريخ طويلاً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأركان حربه كمجرمي حرب، ولن تفلح أي دعاية في غسل يديه من الدماء، حتى لو تكرمت عليه الأكاديمية السويدية بجائزة نوبل للسلام كما فعلت مع مناحيم بيغن زعيم العصابات الذي دمّر نصف لبنان واحتل بيروت مع وزير حربه أرييل شارون.
ولن يغفر إنسانيو العالم الحقيقيون في كل مكان للرئيس الأميركي “الديموقراطي” جو بايدن وقوفه العلني إلى جانب الجلاد، مزوداً إياه بخط جوي من أشد أسلحة الفتك والدمار والقتل ووقوفه متفرجاً على المجازر اليومية، محملاً الضحايا مسؤولية الحرب في إطار سياسة ديماغوجية لإدارته، يتبادل فيها هو ووزير خارجيته أنتوني بلينكن الأدوار والتصريحات المخادعة. هي سقطة أخلاقية للإدارة الأميركية المتغطرسة واللامبالية، لا بمصالحها ولا بمصالح “حلفائها” ولا بمشاعر أكثر من مليار عربي ومسلم في العالم. لقد أدرك العرب بالملموس أن أميركا عندما تكون إسرائيل في “الدق” تصبح إسرائيلية أكثر من إسرائيل، وأن لا صديق لها ولا حليف إلا تل أبيب.
سيكتب مؤرخون ومفكرون كثر عن أزمة الإنسانية لدى الأوساط الحاكمة في فرنسا وبريطانيا وكندا وألمانيا وهولندا وغيرها. لن تمر حرب إسرائيل على شعب غزة من دون نقد حقيقي. ما زال في الغرب أصحاب رأي حر وإنسانيون خارج قيود السلطة وأدوات القمع.
ستُكشف حقائق مروّعة عن التواطؤ الرسمي والأمني والعسكري في دول الغرب مع القاتل على القتيل. سيحاسَبون جميعاً ولو بعد حين، أقله أخلاقياً. سيثار جدل فكري وفلسفي واسع، سينبري كتّاب مثل برنار هنري ليفي للدفاع عن إسرائيل، وسيقوم آخرون بتفنيد الروايات الإسرائيلية. رغم كل التأثير الطويل للدعاية الإسرائيلية والغربية المتعاطفة معها لا بد من لحظ تغيير في الرأي العام السياسي والثقافي الغربي بدأت مقدماته في إسبانيا وبلجيكا ثم امتدت الى معظم الدول حيث ترتفع أصوات متكاثرة تتجرأ على نقد السياسات الرسمية ورفضها.
ارتفعت سابقاً أصوات كثيرة مطالبة بالتغيير في الأمم المتحدة، هذه المؤسسة التي كان أمينها العام السابق بان كي مون “يقلق” عند اندلاع أي نزاع في العالم، وخصوصاً إذا كانت إسرائيل طرفاً فيه. كان جريئاً أنطونيو غوتيريش في موقفه حيال همجية إسرائيل، لكنه كان كصوت في واد. المنظمة الدولية لا سلطة فعلية لها إلا عبر مجلس الأمن ومجلس الأمن يعطله الفيتو، الأميركي في معظم الأحيان. المجلس أصبح إحدى المؤسسات الأميركية. المنظمة الدولية هي أشبه بوكالة إغاثة دولية تحاصرها الولايات المتحدة، تارة بتهديدها بقطع دفع التزاماتها لها، وطوراً بتحويل قراراتها حبراً على ورق بتجاهلها واعتبارها ما كانت. الأمم المتحدة تسقط أخلاقياً أيضاً لأنها في الحقيقة خاضعة لنفوذ الدول العظمى التي تدير مجلس الأمن والمؤسسات التابعة للمنظمة.
كان يقال إن للحرب أخلاقاً وقد حفظ التاريخ منذ آلاف السنين نماذج كثيرة من أخلاق الحروب، لكن حرب إسرائيل على غزة لا أخلاق لها لأن من يقودونها ويدعمونها بلا أخلاق.
“النهار العربي”