ملخص
في زمن الحرب، ركّز الاهتمام البحثي بالشهادة السورية تركيزًا كبيرًا على الإنتاج الثقافي: كيف يكون شاهدًا على عنف الدولة. وفي هذه الدراسة، أحوّل الانتباه إلى شكل من أشكال شهادة الموالين في زمن الحرب، من خلال السؤال عن كيفية قيام أفلام المخرج السوري جود سعيد ببناء قصص حرب تُعطي معنًى لروايات النظام عن “الأزمة”. بالاعتماد على اثنين من أفلام جود سعيد: (مطر حمص) و(درب السما)، أزعم أن أعمال سعيد تروي الأزمة من خلال الشاهد الموالي، وهو ضحية موضوعية تحوّل الانتباه إلى كيفية قيام الجماعات المسلحة و “الأعداء” السوريين الآخرين بارتكاب أعمال عنف، وإلحاق الصدمات/ الرضات النفسية trauma بالسوريين. في عدِّ الشاهد الموالي موضوعًا تُروى من خلاله موجبات الرضّات النفسية السورية، تحدد أفلام سعيد ما يمكن رؤيته وقوله عن الصراع السوري وما لا يمكن؛ حيث يعمل الشاهد الموالي على إظهار عنف الجماعات المسلّحة المعارضة، وعلى إخفاء عنف النظام وإخراجه من دائرة المسؤولية عن كارثة سورية.
بعد عشرة أعوام من مرور صنوف شتى من المعارك، فشلنا -السوريين- في الاتفاق على مفردات مشتركة واحدة. وأصبحت المعاني المتنازع عليها ساحةَ المعركة الأساسية. ومن هنا، يجب اختيار كل كلمة بعناية، لأن لكل كلمة معنًى مختلفًا، وفقًا للخلفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية للمتحدث. الحرب أزمة، ولكن كلمة “أزمة” البسيطة لا ينبغي استخدامها من دون مزيد من التحليل والتحديد.
يزن الحاج 2021
مقدمة
إن الصراع والتنازع على كيفية تسمية الحروب الأهلية وتذكّرها يُعدّ من السمات البارزة لعمليات الانتقال بعد انتهاء الصراع. يعمل المنتجون الثقافيون ومسؤولو الدولة وموظفوها وصانعو الذاكرة على رعاية ذكريات الصراع التي تروّج لوجهة نظر معيّنة من الصراع، ويقدّمونها على أخرى تحمل رؤى الضحايا. تظهر هذه الذكريات المختلفة في قطع ثقافية متنوعة، تفهرس طرقًا محددة لمعرفة الصراعات. في جمهورية بيرو [غرب أميركا الجنوبية]، على سبيل المثال، كيف يجب أن يوصف الصراع، بين الدرب الساطع Shining Path والدولة، هل نصفه بأنه حرب أهلية، أم اقتتال بين الإخوة (الإخوة الأعداء)، أم صراع مسلح داخلي، أم إرهاب، لكي نستطيع أن نحدد الجناة والضحايا تحديدًا سويًا (Milton 2014; Aguero 2021). وكذلك، في الأرجنتين وأميركا اللاتينية، في مرحلة ما بعد الدكتاتورية، حيث يتنافس صانعو الذاكرة على مبادرات الدولة، للتوفيق بين الماضي الاستبدادي والمستقبل الديمقراطي، بطُرق تعيد تعريف الضحايا والجناة ومن يتذكّرهم (Gates-Madsen 2016). لا عجب إذن إن تذكّرنا قول فييت نغوين Viet Nguyen (2016) بأنّ الحروب تُخاض دائمًا مرتين: أولًا في ساحة المعركة، ثم في الذاكرة.
يبدأ صنع الذاكرة حول الصراعات بالأشكال الثقافية، من شهادات من زمن الحرب على أهوالها وآثارها. ولطالما كانت الحروب السردية في سورية نتيجة طبيعية مهمة لساحة المعركة، وكان القلق بشأن كيفية سرد السوريين للصراع من الناحية الفردية والجماعية مثيرًا للاهتمام في الأعوام الأخيرة (Bachleitner 2021; Pearlman 2016; Pearlman 2017). ظهرت مجموعة كبيرة من الدراسات الأكاديمية، لتحليل مواضيع مختلفة، في الإعلام السوري والإنتاج الثقافي (Della Ratta 2018; Wedeen 2013; Cooke 2017; Ziter 2015; Meis 2017; Hamdar 2018; Wessels 2017)، من زمن الحرب، تشهد على عنف الدولة وآثاره على المدنيين السوريين. وبينما تركز معظم هذه الأدبيات على المشهد السوري للانتفاضة ومسارها فيما يتعلق بعنف الدولة، يذكرنا مطر حمص (2019) بأنّ فهمنا لـ “التواصل الاستراتيجي” للنظام السوري وحشد وسائل الإعلام والأشكال الثقافية، كمادة لقوة النظام، لا يزال غير مدروس. يمكن أن تساعدنا الرؤى حول مثل هذه الأشكال الإعلامية والثقافية في فهم كيفية سرد الصراع السوري، من قبل مجموعات مختلفة، وكيف تتجسد المعارك حول المفردات المشتركة المشار إليها في المرجع بين السوريين وتراقب بعضها البعض بشيء من التوتر. لا يسعى هذا التحقيق إلى رسم معادلات أو تعزيز مزاعم كلا الجانبين حول الصراع، إنما يسعى لاستكشاف ما تسمّيه ديلا راتا “الموقف الموالي” (2018:70)، وتجلّيه في الإنتاج الفني والثقافي السوري.
جود سعيد مخرج سينمائي سوري بارز، مرتبط بـ “الموقف الموالي”، أخرج عدة أفلام وبرامج تلفزيونية تروي قصصًا حربية عن الصراع السوري. أفلامه هي قطعٌ مهمة تنتج نسخة محددة عن الحرب، تتماشى مع رؤية النظام السوري التي تُرسي أسس الأشكال المستقبلية لصنع الذاكرة. تعرّض سعيد لانتقادات شديدة في دوائر المعارضة السورية ووسائل الإعلام الإخبارية، لكونه “لسان حال النظام” (Issa 2014) الذي ينتج السينما الطائفية (Azraq 2019)، ومُنع فيلمه رجل وثلاثة أيام Man and Three Days، من العرض في المهرجانات السينمائية العربية في باريس، بسبب ارتباطه بالنظام السوري (Enab Baladi 2018). أتساءل في هذه الدراسة: كيف يروي فيلمان من أفلام سعيد الحربية، (مطر حمص) و(درب السما)، حكاية موالية عن الأزمة، من خلال بناء سردية الضحايا والجناة. أجادل بأن أفلام سعيد تعمل على سرد الأزمة من خلال الشاهد الموالي فقط، وهو ضحية موضوعية تحوّل الانتباه إلى كيفية قيام الجماعات المسلحة والمجتمع الدولي والمعارضة السورية والمتظاهرين والانتهازيين في زمن الحرب، بفرض الإرهاب والعنف على السكان السوريين. ويستكشف تحقيقي في الشاهد الموالي كيفية توصّل الناس إلى صنع المعنى وفهم الصراع. ومع ذلك، فإن هذا يثير تحديات أخلاقية حول كيفية أخذ هذه المواقف على محمل الجد، من دون الانخراط في الدفاع عن النظام، وهو أمرٌ حاولت القيام به في جميع أنحاء هذا النص. هذا مهمّ بشكل خاص للتفكير، لأن أفلام سعيد، على عكس الأنواع الأخرى من أفلام الحرب، لا تستكشف دور الجناة، جماليًا أو أخلاقيًا أو سياسيًا (Duvdevani and Yosef 2020)، ولا تجعل من عنف النظام إشكالية بأي شكل من الأشكال، إنما تركز على الشاهد الموالي، من حيث إنه ضحية للأزمة السورية، وتحاول إظهار السوريين الموالين مجموعةً متماسكة. ينتج عن تركيز الشاهد الموالي رواية محددة عن قصة الحرب السورية، تتعارض مع تلك التي تُستَكشف عادةً في الإنتاج الثقافي السوري بعد عام 2011. على هذا النحو، يوفر الشاهد الموالي طرقًا بديلة للتفكير في الحرب وتذكرها. في تحويل المسؤولية عن كارثة سورية وإخراجها بعيدًا عن النظام، تفعل أفلام سعيد أكثر من مجرد إظهار “الجانب الآخر” من الصراع. أجادل بأن أفلامه تضع الشاهد الموالي كموضوع يتم فيه سرد الصدمة/ الرضة النفسية السورية وتحديدها، بين المرئي وغير المرئي والمحكي وغير المحكي. الشاهد الموالي بمثابة موضوع مرجعي للصدمات الفردية والجماعية السورية، وهو موضوعٌ تُنسَب إليه القيم الاجتماعية والسياسية التي تشير إلى أنهم سوريون عاديون موالون للدولة. في أفلام حرب سعيد، يعمل الشاهد الموالي -وهو الموضوع الفني- على إخفاء عنف النظام وإخراجه خارج دائرة المسؤولية عن كارثة سورية، ويعمل أيضًا على بناء ذاكرة مؤلمة عن ضحايا الحرب. ويعمل الشاهد الموالي أيضًا على توليد مواضيع الصراع التي يمكن أن يحدث حولها المعنى وصنع الذاكرة. أتحدث فيما يلي عن الشاهد الموالي الذي أظهره فيلم سعيد إنسانًا تقدميًا وعلمانيًا وثابتًا ورصينًا، والأهم من ذلك كله أنه أظهره ضحيّةً.
يُسهم الشاهد الموالي، في أفلام سعيد، في تشكيل فهم الموالين للصراع على أنه “أزمة”، من خلال الفهرسة وصنع المعنى، حيث تعمل الفهرسة من خلال المراجع الشفهية وغير الشفهية التي تزود المشاهدين بطرق محددة لرؤية المعنى وتشكيله. إن الحوار الداخلي للشخصية، والارتعاش الجسدي، والتمتمة مقطوعة الأنفاس، والسرد الصوتي، والاختيارات الجمالية والبصرية للفيلم، كلها تعمل بشكل فهرسي لإنتاج معنى وعلاقة، بين الفيلم و “العالم الحقيقي” (Piazza 2016). بنفس الطريقة التي تتعامل بها المسلسلات السورية مع “الدراما في الوقت الفعلي” (Della Ratta 2018: 57)، تستكشف أفلام سعيد قضايا زمن الحرب، مثل الاختفاء أو الاختطاف أو التربح من الحرب، على خلفية الجماليات في سورية المدمرة. كموضوع للشهادة في زمن الحرب، يشهد الشاهد الموالي على أهوال الحرب، ويخلق معنًى للصراع من خلال تحديد الضحايا والجناة وبناء أنطولوجيات الضحايا. لا يرتبط الشهود الموالون صراحة بالدولة أبدًا، بل هم سوريون عاديون يبحرون في خضمّ الحرب. في سرد قصص الحرب من خلال موضوع الشاهد الموالي، تخلق أفلام سعيد معنًى حول الحرب، وتُبقي حالة التوتر مع قصص الحرب المعارضة والمناهضة للنظام. على نطاق أوسع، تعطي أفلامه أيضًا معنًى لفترة ما بعد عام 2011، باعتبارها تشكل أزمة أحدثها أعداء خارجيون وداخليون، وهو ما يُعفي سلطة الدولة من المسؤولية عن الكارثة في سورية. تشير شعبية سعيد الواسعة في سورية، والبث المنتظم لأفلامه على القنوات العربية، إلى أن أفلامه تلعب دورًا مهمًا في صنع معاني الصراع.
في إطار تقديم هذه الحجة، حول الشاهد الموالي في أفلام سعيد، أبدأ الدراسة بتفكير موجز في الإنتاج الثقافي السوري المعاصر، وموقع جود سعيد في هذا المشهد الواسع. وأسعى أيضًا إلى تطوير أفكار حول فهرسة ذلك الإنتاج وجدولته [تنظيم البيانات وفقًا لخطة أو إطار عمل محدد]، ودراسة صلته بأفلام سعيد. ثم أنتقل إلى إجراء مناقشات منفصلة للفيلمين: (مطر حمص) و(درب السما)، قبل أن أختتم بتأمّل يوضّح رواية الشاهد الموالي ورؤيته الصراع كأنه أزمة.
الإنتاج الثقافي السوري قبل عام 2011 وبعده
يؤكد الباحثون في الإنتاج الثقافي السوري أهمية العلاقات الخلافية والإطرائية، وضرورة الاعتماد المتبادل بين المنتجين الثقافيين والنظام القائم قبل الانتفاضة. تشير فكرة ديلا راتا (2018)، عن “استراتيجية الهمس”، إلى كيفية قيام نخبة المنتجين الثقافيين بالتحايل على رقابة الدولة والروايات التي تقرها الدولة، من خلال إنتاج “محتوى يبدو أنه إصلاحي موجه لتثقيف الجمهور حول قضايا النوع الاجتماعي (الجندر) والدين والحقوق السياسية والمواطنة” (2018:5). توضح ديلا راتا أن النظام والمنتجين الثقافيين أصبحوا متشابكين ومرتبطين ببعضهم البعض، من خلال المفاهيم المشتركة للتقدم (التنوير tanwir)، وإن كانت هناك علاقات خلافية بينهما. أشارت ميريام كوك (2007) إلى التشابكات بين المنتجين الثقافيين السوريين ونخب الدولة، من حيث التبعية المتبادلة. وأشارت فكرة كوك عن “النقد المسموح به” إلى المنتجين الثقافيين السوريين كيف رأوا أنفسهم منخرطين في انتقادات لسلطة النظام، على الرغم من أن نخب الدولة استولت على هذا الإنتاج الثقافي لإقامة عباءة ديمقراطية. قدّمت ليزا ودين (1999) حججًا مماثلة، مفادها أن المنتجين الثقافيين شاركوا في انتقاد الدولة، على الرغم من أنهم كانوا يعتمدون على سلطة الدولة. تميزت العقود التي سبقت الانتفاضة إلى حد كبير بطرق التأكيد على التبعية المتبادلة والتشابك بين سلطة الدولة والمنتجين الثقافيين.
غيّرت الانتفاضة في عام 2011 سياسات الإنتاج الثقافي السوري تغييرًا جذريًا بطرق متباينة، خاصة العلاقات بين الدولة والمنتجين الثقافيين. تقترح شارلوت بانك (2020) أن الانتفاضة غيّرت ديناميات العلاقة بين النظام والمنتجين الثقافيين، وهو ما دعا الى التخلّي عن استعمال الرمز الفني (المجاز والغموض) والاستعارة، وإلى زيادة النقد المباشر لممارسات النظام. هدد نزوح المثقفين والمنتجين الثقافيين السوريين إلى البلدان المجاورة جدوى المشهد الثقافي السوري، على الرغم من انتشار الإنتاج على الإنترنت الذي يشهد على الانتفاضة. انخفض الإنتاج الثقافي في الأعوام التي أعقبت الصراع مباشرة، لكنه انتعش ووجد حياة جديدة على القنوات التي تتخذ من الخليج مقرًا لها، مثل مركز بث الشرق الأوسط (MBC)، وفي البرامج السورية اللبنانية المنتجة بشكل مشترك (Joubin 2016: 158)، وهي سيدار للإنتاج الفني Cedar Arts Productions. في الأعوام الأخيرة، استعادت المسلسلات musalsalat السورية مكانتها في جميع أنحاء المنطقة، على الرغم من استمرار الصراع، وبينما حافظ بعض هذا الإنتاج على اهتمامه بمواضيع ما قبل الانتفاضة، من ضمن ذلك المشروع الوطني الفاشل (Salamandra 2019)، فإن معظمها يهتم مباشرة بشهادة زمن الحرب.
شهدت صناعة الأفلام والوثائقيات السورية أيضًا تحولات كبيرة متعلقة بالصراع، وهي المسؤولة جزئيًا عن اكتساب صانعي الأفلام، من أمثال جود سعيد، مكانة أكبر اليوم. تميزت العقود التي سبقت الصراع إلى حد كبير بعلاقات خلافية وعدائية بين صانعي الأفلام والتوثيق والدولة. منذ الستينيات فصاعدًا، ارتبط المشهد الوثائقي السوري ارتباطًا وثيقًا بالحركات السياسية والاجتماعية، في الفترة التي أدت إلى ظهور مؤلفين مثل محمد ملص وأسامة محمد وعمر أميرالاي وغيرهم، ممن اجتازوا رقابة الدولة والقمع لتمويل أفلامهم وعرضها. كان على مؤلفي فترة ما قبل الانتفاضة أن يجدوا “لغة سينمائية تحتال على الطغيان للتمرّد” ضد نظام يحاول إبقاءهم صامتين (Alkassim and Andary 2018). بمجرد بدء الانتفاضة وانزلاق البلاد إلى صراع عنيف، حوّل المؤلفون السوريون انتباههم إلى تأريخ التجربة السورية داخل البلاد وخارجها.
ركز الاهتمام بالشهادة السورية في زمن الحرب بقوة على كيفية ارتكاب النظام وحلفائه للعنف، وإلحاق الصدمات/ الرضات النفسية بالمدنيين السوريين. كان هناك اهتمام أقل بكثير بكيفية تشكيل النظام السوري لرواية موالية للحرب، حيث كانت في حالة توتر مع الروايات المناهضة للنظام. يحتل جود سعيد مساحة فريدة كواحد من أكثر المخرجين السوريين إنتاجًا في فترة الصراع، حيث كتب وأخرج ستة أفلام رئيسة منذ عام 2011، من ضمنها كثير من الأعمال الدرامية والأفلام القصيرة. عُرِضت أفلامه وحصلت على جوائز في المهرجانات السينمائية، في جميع أنحاء العالم، ومن ضمن ذلك، القاهرة ومسقط وسان فرانسيسكو وتونس، وهي تُعرَض بانتظام على القنوات الفضائية العربية. حتى إن بروز سعيد داخل سورية أدى إلى تساؤلات حول احتمالات بأن يتولى في النهاية السيطرة على مؤسسة السينما الوطنية نفسها (al-Khayr 2021). تختلف علاقة سعيد بسلطة الدولة، عن علاقة معظم المخرجين السوريين المعروفين من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، بأنّ سلطات الدولة تروّج له بنشاط، بالنظر إلى الميزانيات الواسعة لأفلامه، وهو يُعدّ على نطاق واسع متوافقًا سياسيًا مع النظام.
جميع أفلام سعيد صُوّرت داخل سورية، وهي تعتمد على جمالية الحرب في سرد القصص. يسبغ على جماليات “العالم الحقيقي” نوعٌ من الموثوقية المعرفية (Wilson 1986)، وهو ما يسمح للمشاهد بإجراء استنتاجات بين الفيلم وواقعهم المعيش. ويتشكل صنع معنى المواجهات المختلفة بين الفيلم والعالم، من خلال ترتيب الأحداث، وهو ما يُنتج معنًى جدليًا بين المشاهد والفيلم. وتعمل المراجع المختلفة في أفلام سعيد بشكل فهرسي، لإنتاج طرق لرؤية الصراع السوري ومعرفته. وتخلق هذه المراجع معنًى محددًا، لأنها تشير إلى عالم خارج الفيلم، إلى “عالم حقيقي”، حيث يمكن رسم تدمير حمص، على سبيل المثال، بفئة معينة من الضحايا. وفي بناء الشاهد الموالي، باعتباره موضوع الأزمة، تحرف أفلام سعيد المسؤولية عن كارثة سورية بعيدًا عن النظام، وتخلق قصصًا حربية حول ضحايا وجناة محددين، وتقلب بشكل فعال العلاقة التي بناها الإنتاج الثقافي المناهض للنظام بين الجاني والضحية.
توضح أفلام سعيد معاني خاصة للصراع، حول معجم الأزمة، من خلال إخبار المشاهدين بما يجب رؤيته وما يجب أن يعرفوه، وما يتوجب ألا يرونه ولا يعرفونه. وتعكس أفلام سعيد إنتاج وتداول أسرار عن الحرب لا تنكر تجارب صراع معينة، بل تخبر المشاهدين بما يجب معرفته، وما لا يجب معرفته (Hillenbrand 2020) عنهم. بالاعتماد على ثلاث لحظات محددة في التاريخ الصيني المعاصر، يتعامل هيلينبراند (2020) مع مسألة كيفية معرفة الصينيين بما يمكن قوله وما لا يمكن قوله عن تجاربهم التاريخية الجماعية لمذبحة نانجينغ والثورة الثقافية واحتجاجات ميدان تيانانمين. لا تفسّر الرقابة وجهود فقدان الذاكرة التي تقودها الدولة ما يعرفه الناس ولا يعرفونه، إنما تفسّر ظاهرة ثالثة، يشير إليها هيلينبراند بالسرية العامة؛ ليس قمع التجربة، بل العملية التي يُنتِج من خلالها صانعو الثقافة طرقًا لرؤية هذه التجارب والبحث عنها، وإخبار الناس بما يجب معرفته وما لا يجب معرفته. إن مصطلح هيلينبراند (السرية العامة) لا يعني أن تُكتَم الأحداث كليًا، بل أن تُستوعب وتُشكَّل وتُخصص لخلق معاني جديدة، مع تقديم معان أخرى متنازع عليها حديثًا. هناك مثال ممتاز من فيلم سعيد: نسب مسؤولية تدمير الساحة المحيطة بساعة حمص إلى المقاتلين المسلحين، في حين أن الوقائع تؤكد أن الجيش هو من دمّر الساحة، وهو ما تمت مناقشته أدناه. الإنتاج الثقافي هو المكان الذي يُكشف فيه عن الأسرار العامة، وقول المسكوت عنه، وبناء طرق لمشاهدة التاريخ. أفلام سعيد لا تنكر الحرب أو أهوالها، ولكنها تعيد صياغتها حول جناة وضحايا محددين، وتخلق سجلات وذكريات محددة لكيفية فهم الصراع. هؤلاء الضحايا دائمًا هم من الموالين. إن بناء قيم سياسية وأخلاقية محددة تخلط بين المواطن والدولة، بحيث يجسد الشاهد الموالي الدولة وقيمها، يجعل الضرر الذي يعانيه الشاهد الموالي موازيًا للضرر الذي تعرضت له البلاد.
الشاهد الموالي في أفلام سعيد هو بمثابة موضوع مرجعي للصدمات/ الرضات النفسية الفردية والجماعية السورية وصنع الذاكرة. كمرجع للصدمة/ للرضة النفسية السورية، يبني شاهد سعيد الموالي قصصَ حرب تجعل بعض الأفعال والأحداث والصدمات/ الرضات النفسية بارزةً، وبعضها الآخر هامشيًا أو غير مرئي تمامًا. وهذا الشكل من إنتاج الصدمات/ الرضات النفسية يولّد ذكريات ثقافية تعلي من شأن مطالبات الصدمات/ الرضات النفسية، لبعض الموضوعات والجماعات (Rastegar 2015:15)، وتقدّمها على تلك الموضوعات الخاصة بالآخرين، وتعطي تفسيرات للمراجع الثقافية للحرب. لا تحاول أفلام سعيد استعادة الصدمة/ الرضة النفسية المفقودة، بل تعيد توجيه الجماهير إلى أشكال من الرؤية والنسيان التي تنتج في النهاية معنى حول الصراع. إنّ إشارات الرضة النفسية السورية في أفلام سعيد هي شخصيات تُعزى معاناتها إلى التقاء جمهرة الممثلين/ الفاعلين، والجماعات الإسلامية المسلحة دائمًا تقريبًا، والمستفيدين من الحرب، والميليشيات الموالية في بعض الأحيان. كضحية للحرب السورية، يقدّم الشاهد الموالي ذاتية تدوّن الصراع السوري بمعنى محدد. بالاعتماد على اهتمام (مطر حمص) باستراتيجيات النظام للاتصال (2019:2399)، أعدُّ أفلام سعيد مركزية لاستراتيجيات النظام التي تؤسس للإجماع وتغير التأثير الجماعي وتنتج موضوعات سياسية مركزية لحكم النظام. الرضات النفسية التي تحدث، ولا يُعترَف بها أو يُتحدث عنها، تترك “غيابات جذرية” يمكن للجماليات معالجتها (Richardson 2018). في هذا الصدد، تقدم أفلام سعيد معنى ولغة للتأثير المؤلم لمساعدة الناس في إقامة روابط بين الحدث والمعنى. تتوسط أفلام سعيد في التأثير المؤلم/ الرضيّ، وتخدم هذه الوظائف التواصلية بطرق مختلفة موضحة أدناه، من التمثيل الواضح للجماعات المسلحة على أنها إسلامية، إلى إخفاء عنف النظام.
مطر حمص
يوازن فيلم (مطر حمص) بين خلفية تقسيم حمص عام 2014، ومحاصرة مجموعات مسلحة مختلفة لأحياء المدينة. يدور الفيلم حول قصة حب بين امرأة تدعى يارا، قُتل شقيقها في أثناء قتاله مع الجيش، وصديقه الشاهد الموالي يوسف، الذي قُبِض عليه وسط حملات الحصار المتنافسة. تم تصوير الفيلم بعد أسابيع من عودة القوات الحكومية إلى المدينة في أواخر عام 2015، بعد اتفاق بين الدولة والجماعات المسلحة، أدى إلى رحيل الأخيرة هذه. يبدأ الفيلم بمقايضة فاشلة للمدنيين، عندما سمحت جماعة إسلامية مسلحة للمدنيين المحاصرين بالعبور إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، مقابل حصص غذائية. يقوم المدنيون على عجل بجمع المتعلقات والعثور على أحبائهم للعبور. وبينما يتجمعون على طول الحاجز شديد التحصين، الذي يذكّرنا بالحواجز التي شيدت في جميع أنحاء المراكز الحضرية خلال الحرب لتحصين المعاقل، أعلن قائد المتمردين (أبو عبد الله) أن أمامهم ست دقائق للعبور. يعيد المشهد إنشاء تجربة مدنية مشتركة في سورية تتمثل في الإبحار في الحصار والمعابر المؤقتة، مع تحويل مسؤولية الحصار بعيدًا عن النظام. ضحايا الحصار جميعهم من الموالين ويحاولون العبور إلى برّ الأمان، ولا يبقى شخص واحد عن طيب خاطر على الجانب المحاصر من قبل ميليشيا (أبو عبد الله).
يبدأ المدنيون في العبور، وتصفّق مجموعة من محبي “الخَير” على الجانب الآخر، من ضمنهم الأصدقاء والأقارب والكهنة والأئمة وجنود النظام، ويستقبلونهم بحماس. يشير هذا التجمع لمختلف الموضوعات إلى تعدد سورية التي يأتي رعاياها الموالون من مختلف الطوائف والطبقات داخل المجتمع السوري. التناقض بين ميليشيا (أبو عبد الله) والمحبين المدنيين واضح، ويحدد جهة الخير والشر في الفيلم، ويُظهر التناقض بين النزعة الإسلامية وسورية العلمانية المتخيّلة (Joubin 2016). مع تكشف المشهد، يصل الخبر إلى (أبو عبد الله) أن الحصص المتبادلة لا تلبي مطالبهم بعشر حصص غذائية لكل رجل وخمسة لكل امرأة. بعدئذ أمر قناصًا بالبدء في إطلاق النار على معبر المدنيين، ورأى رجلًا مختبئًا خلف ساعة حمص المعروفة في شارع القوتلي. تبدأ القنابل في الانفجار، وهناك أربعة أشخاص عالقون على الجانب الآخر. بمجرد أن تدرك (سارة)، وهي فتاة صغيرة من الجانب الموالي، أن أختها (يارا) لا تزال في الجانب الذي تحتجزه الميليشيا، تركض للعودة. يجهز القناص بندقيته لإطلاق النار عليها، لكن كلبًا يطاردها فيُصاب بدلًا منها، وتهرب سارة إلى الجانب الآخر. الرجل الذي يقف خلف برج الساعة يتوسل إلى القناص للسماح له بأن يبقيه حيًا. في النهاية، بعد ساعات من التوسل لإنقاذ حياته، قُتل بالرصاص وهو يحاول الفرار. لا يزال برج الساعة قائمًا، ولكنه مليء بثقوب من الرصاص. في غضون ذلك، لا تزال سارة وأربعة آخرون محاصرين، بعد أن أمر (أبو عبد الله) بإغلاق الممر. يتم عرض المشهد في ساحة جمال عبد الناصر المحيطة ببرج الساعة، وموقع كثير من الاحتجاجات في حمص، ومنطقة دمرها الجيش لأهميتها العاطفية والسياسية للحركة الاحتجاجية في حمص. من خلال إنشاء قصة جديدة عن تدمير برج الساعة، ينقل الفيلم المسؤولية عن تدمير هذا الرمز المهم بعيدًا عن النظام، إلى الجماعات المسلحة، ويعطي معنى مختلفًا لهذا الحدث الصادم الذي لا يرتكز على الواقع المعيش، ولكنه يتوافق مع أفكار النظام حول تحديد الضحايا والجناة. وبهذه الطريقة، فإن الفيلم وهذا المشهد مناسبان ويعيدان سرد الأحداث منفصلة عن الواقع، ولكن مع ذلك، بما يتفق مع من يلومه الموالون على التدمير المادي للبلاد. وفي الوقت نفسه، لا تزال هذه المشاهد تتجنب اعتبار الجناة الحقيقيين، الجيش السوري، مسؤولين عن أي تدمير.
يدور الفيلم حول كيفية محاولة الأب إيليا وجاد وسارة ويارا ويوسف النجاة من محاصرتهم من قبل الجماعة الإسلامية المسلحة، والقتال المستمر بين يارا ويوسف. يارا عاملة في الصليب الأحمر في حمص تبحث عن شقيقها المفقود الذي اختفى أثناء خدمته في الجيش الوطني. على الرغم من صداقة يوسف مع شقيق يارا، فإنه يرفض إظهار التعاطف معها. هناك صراع مستمر بين الاثنين، حيث وقع الطفلان، جاد وسارة، والكاهن الأب إيليا، في المنتصف. في أحد المشاهد، يصرخ يوسف غاضبًا على سارة “من أنتم أيها الناس؟”، فتجيب: نحن المعذبون والمشردون والمضطهدون الذين عانوا الألم والخسارة بسبب “أمثالك”. فيواجهها يوسف بغضب مماثل، ويذكرها بأن “أمثاله” يسمحون لها بالتجوّل وشعرها مكشوف، وهو ما أثار مخاوف مما قد يعنيه الاستيلاء الإسلامي على النساء السوريات. يُقدّم الشاهد الموالي هنا على أنه موضوع نبيل وعلماني يكافح من أجل الحفاظ على الحقوق الاجتماعية. ويخبر يوسف سارة أنها ليست مضطهَدة، وأن أمثاله يؤمنون بشيء ما، ولكنهم الآن فقراء ومظلومون ويتضورون جوعًا. تجسّد يارا حركة الاحتجاج، ويجسد يوسف المواطن اليومي الموالي للدولة.
يعمل الصراع بين يارا ويوسف على سرد نقدٍ للحركة الاحتجاجية، مع تحميل الأسف السياسي على المتظاهرين المسؤولين عن الانزلاق إلى الفوضى. يستخدم يوسف مرارًا وتكرارًا اختفاء شقيقها ضدّ يارا بالقول إنه كان يدافع عن حريتها كامرأة بعدم تغطيتها الشعر. بالنسبة إلى يوسف، لم يفهم أشخاص مثل يارا قط مدى جودة حياتهم أو الحريات التي يتمتعون بها. التمييز بين الشاهد العلماني التقدّمي الموالي، والميليشيا الطائفية برئاسة (أبو عبد الله) يحجب الطائفية الموالية، ويعيد إنتاج ما يسميه منشاوي (2022) “نزع التطييف”، وهي عملية تُنكَّر فيها الطائفية، وتنسَب فقط إلى القوى المناهضة للنظام. تواجه يارا بانتظام عدوان يوسف، لكنها تبدأ ببطء في إدراك مسؤوليتها عن الفوضى في سورية. والأهمّ من ذلك، أنها ستدرك تضحية أخيها. مع تقدم القصة، تصبح يارا أضعف جسديًا، ويجد يوسف طرقًا للتنقل في الحصار والتنقل بين المنازل بحثًا عن الطعام والإمدادات، التي يوثقها الأب إيليا بجدّ ليدفع للسكان المقيمين. وهناك نقطة تفتيش قريبة للجيش تقذف الطعام لمساعدتهم أيضًا. يجسّد يوسف شخصية الموالي الثابت الذي يكابد المشقة في زمن الحرب ويتحدى الجناة الإسلاميين. إن انحدار يارا إلى انهيار جسدي وعاطفي، ينتهي بها في غيبوبة، يجسّد انهيار الحركة الاحتجاجية في مواجهة العنف. صدماتهم مرتبطة بشكل أساسي بالجماعات المسلحة التي تقدَم على أنها الجناة الوحيدين للصدمات/ للرضة النفسية السورية.
بينما تستلقي يارا في غيبوبة بين الحياة والموت، يتم تغيير شخصيتها واستبدالها بسبب عدم ولائها للدولة. بهذا المعنى، كان يوسف والموالون مثله هم ضحايا يارا والمتظاهرين، لكنهم مع ذلك يتسامحون ويرغبون في المصالحة. بجدّ وصبر، يعيد يوسف يارا إلى صحتها. في أحد المشاهد، يشرح يوسف غضبه تجاهها. توفي والد يوسف بسكتة دماغية أثناء مشاهدة أخبار الحرب في سورية، وسرعان ما تبعته زوجته، قُتل شقيق يوسف الوحيد خلال الحرب، واختطِفت شقيقة زوجته وقُتلِت أثناء سفرها، تاركة إياه لتربية ابن أخيه جاد. لم يتبق أحد، انضم يوسف إلى الجيش ضمن جيش الاحتياط، على أمل متابعة مسيرة أسرته حتى الموت، ولكن أطلِق سراحه بسبب مرض السكري. ثم يخاطب جسد يارا الميّت: “لكن هذا هو الواقع. واقع الربيع العربي في سورية!”. يعلن الشاهد الموالي ضحيّته، ويعكس الأمل الذي وعدت به الانتفاضة في البداية. أصبحت مشاعره تجاه يارا أكثر وضوحًا، بعدما أعادها إلى الصحّة. يداعب شعرها، ويهمس في أذنها، ويقع في حبها، وهي لا تزال في غيبوبة. عندما تستيقظ أخيرًا، تتحوّل نظرتها تجاهه وتقع في حبّه أيضًا. تشير مصالحتهم إلى أن السوريين يمكنهم أيضًا المصالحة.
تقدّم سلسلة من الانعطافات السردية شخصية جديدة (ريما)، تتسبب في اعتقال يارا ويوسف، على يد عميد سابق يُدعى جبر منصور، تحصّن وسيطر على أجزاء من الحيّ مع بناته. يقاتل العميد ضد ابنه خليل الذي انضم إلى قيادة (أبو عبد الله). يتم استجواب يارا ويوسف وسجنهما، ثم يُطلَق سراحهما عندما يجد الأب إيليا الجنرال ويشهد لهما. بعد إطلاق سراحهم، كان هناك اتفاق على مغادرة ميليشيا (أبو عبد الله) حمص، على الرغم من أنه يرفض حتى أن يعيد يوسف ريما، امرأة تلجأ معهم إلى الكنيسة ومسؤولة عن قتل شقيق (أبو عبد الله) بعد أن هاجمت الميليشيا عائلتها وقتلتها. مع اقتراب سريان اتفاق إخلاء حمص، يبحث (أبو عبد الله) عن ريما، ويستعد العميد مع بناته لمحاربة الميليشيا. تتبع ذلك فوضى، ويُقبَض على العميد ويقتَل ويعلَق في ساحة المدينة. على الرغم من أن ابنه خليل يبدو غير مبال بوفاة والده، فإن أحد رجال الميليشيات قطع رأسه في النهاية كعقاب لمعارضة والده للميليشيا. في المشهد قبل الأخير، عاد الجيش إلى حمص، لكن (أبو عبد الله) يرفض المغادرة من دون ريما، قاتلة شقيقه. يواجه الأب إيليا، الذي يرفض تسليم ريما، معلنًا أن المدينة ملك لمواطنيها، وحمص مقدسة، والأرض المقدسة علّمت السوريين البقاء على قيد الحياة: “الناس مثلك يأتون ويذهبون. ما سيبقى هو الأرض والذين سيعيشون ويموتون من أجلها”. وبينما كان ينطق بهذه الكلمات، قام (أبو عبد الله) بغرز سكين في جسد الأب إيليا، وهو ما أدى إلى مقتله. في حالة الفوضى العنيفة، استطاع (أبو عبد الله) أسرَ ريما، وبعد أن اعترفت بأنها قتلت شقيقه، سحبت مسمار قنبلة يدوية وقتلت نفسها و(أبو عبد الله). ينتهي الفيلم بـ جاد وسارة ويارا ويوسف على عجلة فيريس (دولاب ألعاب)، وسط دمار حمص، يفكرون في مستقبلهم.
تتزامن مصالحة يارا مع يوسف مع اعترافها الضمني بأن الموالين مثله ومثل شقيقها يجسّدون المثل العليا التي خانتها حركة الاحتجاج. بعد المصالحة، تتذكر يارا قصة قوية عن مشاهدة مظاهرة ورؤية شقيقها بالزي الرسمي على الأطراف. تتجمد من رؤيته، تهتز عندما تخترق رصاصة كتفه. أثناء تعافيه، قال شقيقها إنه سيحميها دائمًا، حتى لو شاركت في الاحتجاجات. يؤكد تذكر يارا انتقاد يوسف للمتظاهرين ومسؤوليتهم عن انحدار سورية نحو العنف. يسهل محو عنف الدولة في (مطر حمص) من خلال تأطير الصدمة/ الرضة النفسية السورية التي يجسدها الشاهد الموالي. يؤدي شكل الشاهد الموالي في مطر حمص وظيفة تواصلية محددة، عندما تسعى الصدمة/ الرضة النفسية الشخصية للشاهد إلى أداء صدمة/ رضة نفسية جماعية (Ashuri 2010). كشاهد موالٍ، يجسد يوسف الصدمة/ الرضة النفسية السورية الجماعية كمرجع وقعت معاناته على يد أعداء سورية الداخليين والخارجيين. يعمل (مطر حمص)، وأفلام سعيد، على نطاق أوسع على توجيه الحقائق السياسية والاجتماعية حول “الأوهام الوطنية” المتماسكة مع روايات الدولة للصراع (Aydinlik 2021). ومع ذلك، فهي متماسكة بطرق لا تقوّض الدولة أو تشير إلى أنها غير قادرة على حماية السكان. ولذلك، يعيد (مطر حمص) تشكيل الصدمة/ الرضة النفسية السورية، حول ذاتية الشاهد الموالي وسلسلة من الضحايا والمرتكبين المرجعيين.
درب السما
يتحدث فيلم (درب السما) لجود سعيد عن الطائفية والانقسامات الاجتماعية في سورية، من خلال الشاهد الموالي (زياد) الذي يلعب دوره أيمن زيدان. يأخذ البناء السردي المجزأ للفيلم المشاهدين ذهابًا وإيابًا، بين أيام زياد الأخيرة في منزله والعودة إلى قرية أجداده. زياد أرمل يُربّي ثلاثة أطفال يرفضون مغادرة منزله، وسط اشتداد الحرب وتهديدات الميليشيات المتكررة ضده وضد أسرته. أخيرًا، يستسلم لضغوط الحرب ويغادر المنزل، بعدما قتلت الميليشيا ابنته الصغرى (رؤى) وخطيبها المحتمل/ المأمول (عروة). عند عودته إلى قرية أجداده، وجد زياد أن شقيقه توفيق يسيطر على ميليشيا موالية تستفيد من الحرب. لقد وقع ضحية ثلاث مرات، عندما فرّت ابنته راما وزوجها الأعمى أمجد من سورية وغرقا على الأرجح في البحر الأبيض المتوسط. لا تبدو الدولة مسؤولة في أي مكان عن المأساة التي حلّت بزياد. كشاهد موالٍ، يقع زياد ضحية للميليشيات الطائفية وانتهازيي الصراع. ويقدّم شهادة على أهوال وانقسامات الحرب، ويذكّر الجمهور بسوري مثالي قبل الصراع، عندما “كانت الأبواب تبقى مفتوحة”، و “لا يشعر الجيران بأنهم غرباء”. إن صمود زياد في مواجهة الانهيار الاجتماعي يبني شاهدًا مواليًا يرفض الاستسلام أو إدامة الانقسامات الاجتماعية في سورية.
يبدأ الفيلم بتحرك زياد وعائلته عبر حاجز من الحافلات المدمّرة، ويروي التعليق الصوتي الظروف والنفي من قبل طلابه السابقين بسبب خطيئة اسم العائلة، وفهرسة الدينامية الطائفية للصراع السوري من دون أن تنسَب صراحة هوية طائفية إلى زياد وعائلته. عندما يتكشف الفيلم، نعرف أن المعبر نتج عن مقتل ابنة زياد رؤى وخطيبها عروة، الذي جُنِّد بالقوة في الميليشيا المحلية. أدى تزايد أسلمة الميليشيات المحلية وحصار القرية وانتشار الحرب إلى إجبار عائلة زياد على مغادرة القرية، لكنه رفض باستمرار، وأخبر عائلته وجيرانه أن الحرب “لن تغلق أبوابه أبدًا”. على الرغم من إصراره على البقاء، تجنبت بقية القرية زياد وعائلته، ورفضوا حضور حفل زفاف ابنته راما، على صديقة طفولتها وخطيبها أمجد (الذي يؤديه محمد الأحمد)، الذي أصيب بالعمى قريبًا وينتظر الجراحة. ولا يحضر حفل الزفاف سوى صديقه المقرب أبو محمد. مثل زياد، يرفض أبو محمد نبذ صديقه، على الرغم من تزايد الطائفية المنسوبة إلى الميليشيات المسلحة فقط في قريتهم، لكنه يناشد زياد المغادرة، مستغلًا توقف الحصار لمدة (48) ساعة لمغادرة المدنيين مقابل المساعدات الإنسانية. يوبخ زياد ويهاجمه، بسبب مخاوف حمقاء بخصوص امتحانات طلابه عندما توقفت الحياة تمامًا بسبب الحرب. ورغم إلحاح أعز أصدقائه وأطفاله بالمغادرة، يرفض زياد.
المسلّحون المحليّون الملتحون، بطائفيتهم الواضحة، ونبذ المعلّم السابق زياد، والانقسام العنيف لسكان القرية وفقًا للطائفة، يُصنّفون المسلحين على أنهم جناة طائفيون يتحمّلون وزر الصدمات السورية. عادةً ما تصوّر أفلام سعيد المتشددين الإسلاميين بطرق غامضة ونمطية، تعتمد على اللهجات والمظهر والكلام، لتصنيفهم على أنهم مرتكبو عنف معادون، وغالبًا ما تظهر فروقهم بتصوير رزين ومرح أحيانًا للجنود. يناشد أبو محمد زياد المغادرة، ويخبره صراحة أن المسلحين يرغبون في تطهير القرية من “غير المولودين هنا”. يواصل زياد رفضه المغادرة حتى بعد أن رش المسلحون الحرف “x” على منزل العائلة، وهو ما يذكرنا بممارسات تنظيم (داعش) في رش الحرف العربي “ن” على أبواب المسيحيين في الموصل. يتصاعد التوتر بين زياد وعائلته، الذين يريدون المغادرة باستثناء رؤى. بينما أشير إلى المسلحين على أنهم طائفيون، صُنِّف زياد وعائلته على أنهم قادمون من خلفية متعددة الطوائف. يشار إلى أن زياد وزوجته المتوفاة منحدرون من طوائف مختلفة، وكذلك أمجد وراما، ورؤى وعروة. من دون التحدث مباشرة عن الطائفة أو المذهب، فإن الفكرة في جميع أنحاء الفيلم هي أن عوالم زياد الشخصية والعائلية تمتد عبر المشهد الاجتماعي الشاسع في سورية. التناقض واضح إلى حد ما: من ناحية، ميليشيا عنيفة وطائفية عازمة على تقسيم المجتمع السوري، ومن ناحية أخرى، عائلة تتقاطع هوياتها بطرق تجعل الطائفية الصارخة مستحيلة. كشاهد موالٍ، ترتكز ذاتية زياد على سورية العلمانية المتخيّلة، حيث تتعايش الطوائف بسلام من خلال الروابط الاجتماعية والعائلية. التناقض بين الشاهد الموالي والميليشيا واضح.
أدّى رفض زياد مغادرة منزله في النهاية إلى وفاة ابنته. أصرّت رؤى على أن يترك عروة الميليشيا، ويتخلص من بزته القتالية ويحلق لحيته، وهو أمر يقاومه بانتظام أثناء محاولته كسب ضعف الوقت، على الأرجح حتى يتمكنوا من المغادرة أو يتم إجبار الميليشيا على الخروج. أخيرًا، في إحدى الأمسيات، ظهر في لقائهما السري، كاشفًا عن نيته ترك الميليشيا وهو ينحني ليطلب يدها للزواج. قبل القبول، يخطف المقاتلون المسلحون الزوجين، ثم يقتلونهما ويعلقون جثتيهما معًا في ساحة المدينة. بعد قتلهم المروّع وشنقهم العلني، وافق زياد على مغادرة القرية والسماح لراما بالمغادرة إلى أوروبا والسعي للحصول على رعاية أمجد. أثناء مغادرتهم، طلب أبو محمد من زياد اصطحاب ابنته لجين معه، حتى تتمكن من إنهاء امتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) مع إغلاق المدارس. على الرغم من الإذن بالبقاء في القرية، يدرك أبو محمد أن الميليشيا لن تسمح لابنته بمواصلة تعليمها. يوافق زياد ويحضرها معه إلى القرية مع ابنه رام. مع عودة زياد إلى القرية ومواجهة شقيقه، تعرّفنا على كثير من الشهود الموالين الذين تصف تضحياتهم في مواجهة الحرب، وتربح توفيق العنيف من الحرب، بأنهم مواطنون مخلصون للدولة.
في الفيلم، يظهر توفيق جانيًا، لكنّه مقرّبٌ من الدولة، وهو مستفيد من تأجيج الصراع. ينشر توفيق قوته ونفوذه ضد زياد، من خلال نشر شائعات بين القرويين بأنه ينام مع لجين. يُقبَض على زياد ويُسجَن بناء على هذه الاتهامات. قبل سجنه، أصبح زياد قريبًا من مديرة المدرسة المحلية مريم، التي وافقت على تسجيل لجين في المدرسة لإكمال دراستها. وبالمثل، بالنسبة إلى كثير من الناس في القرية، صنِّفت مريم على أنها ضحت من أجل بلدها بسبب صورة جندي صريع، يُفترض أنه من أحبته، ظهرت بشكل بارز في مكتبها. كما تدافع مريم عن زياد أمام القرويين الذين يريدون سجن زياد. في النهاية، وافقت نهلة، إحدى مساعدي مدرسة مريم، على الزواج من توفيق، مقابل إطلاق سراح زياد. يصرّ توفيق أيضًا على أن تتنازل العائلة عن أرضها له. مع تلبية كلا المطلبين، يطلَق سراح زياد في اليوم التالي، لكنه يبقى غاضبًا، لأن نهلة اضطرت إلى التضحية بنفسها بعد أن ضحت بالفعل من أجل بلدها. خلال مواجهة بعد السجن، صرخ زياد في وجه شقيقه قائلًا: فلتأخذ المنزل والممتلكات، ولكن اترك نهلة وشأنها، لا تزال تربة قبر زوجها، الذي استشهد بسبب أشخاص مثلك، رطبة. يخلط زياد بين المستفيدين من الحرب والميليشيات المسلحة كمرتكبي أعمال العنف والتدمير في سورية، مكررًا لغة “أمثالك” المنتشرة في فيلم مطر حمص لخلق مرتكب/ جانٍ عالمي. ومع ذلك، تجازف نهلة بالزواج، وفي ليلة زفافهما، تموت منتحرة على سريرها في فستان الزفاف، وتقع صورة زوجها المتوفى، وهو جندي، على صدرها.
يذكّر موت نهلة المأساوي المشاهدين بالتضحيات المؤلمة التي يقدمها السوريون لبلدهم ولبعضهم البعض. على الرغم من الحزن على وفاة نهلة، استمر زياد ومريم في التقارب، وبمناسبة طلب زياد يد هالة/ حلا للزواج، طلبت شقيقة مريم، نيابة عن مسؤول حكومي محلي، عامر، روم نجل زياد، من مريم أن تتزوج زيادًا. الخطوبة المزدوجة ناجحة، ويقام حفل زفاف مريم وزياد في منزل العائلة، مع انضمام جميع القرويين إليهم. مع بدء حفل الزفاف بالغناء والرقص، يأتي عامر راكضًا إلى المنزل وهو يصرخ ويتعثر ساقطًا، وينقل نبأ أن ميليشيا مسلحة قد اجتاحت للتو نقطة تفتيش وستدخل القرية في غضون (15) دقيقة. تتوقف الاحتفالات، وتعبر الكاميرا “الوجوه الحزينة والخائفة لرواد الزفاف حتى تستقر على زياد، الذي يبدأ في استعادة ذكريات رؤى وعروة المشنوقين في ساحة المدينة. يتذكر زياد نفسه وهو يبكي تحت أجسادهم والأحداث اللاحقة التي أدت إلى رحيل الأسرة ومحاولة ريما وأمجد الوصول إلى أوروبا. بعد عودته من الفلاش باك والتذكر المؤلم بما تحمّله، يناشد زياد الجميع الغناء بفرح. الرسالة هنا هي أنه في مواجهة الانقسام والمشقة والعنف، يجب أن يكون ردّ الموالين هو التحدي والفرح والتضحية.
كشاهد موالٍ، تم بناء شخصية زياد كموضوع ضحية أُجبر على ترك منزله وتفكيك عائلته في مواجهة الانهيار الاجتماعي. قصة الحرب التي رويت في (درب السما) هي قصة تتقاطع فيها أهوال الحرب لإحداث خسارة وتفكك عائلي. تتآمر انتهازية الحرب والطائفية لإلحاق الصدمات بالسوريين العاديين، مثل عامر ومريم ونهلة وروم وزياد. يعمل التزامهم الجماعي برؤية سورية ما قبل الصراع على توجيه المشاهدين حول المراجع التي تبني الصدمة/ الرضة النفسية السورية الشخصية والجماعية بطرق تتماشى مع روايات الدولة عن الصراع الذي يشكل “أزمة”. الضحايا الموالون في (درب السما) ليسوا ضحايا الدولة، إنما بسبب تفاعلهم الاجتماعي والسياسي مع الدولة. إنهم يمثلون “خيالًا/ فانتزيا وطنيًا”، يتعرض للهجوم من قبل المجتمع الدولي والميليشيات الإسلامية والمستفيدين من الحرب ومجموعة من اللاعبين الآخرين الذين ظهروا بشكل مختلف في أفلام سعيد، كمرتكبي الصدمات/ الرضات النفسية الجماعية السورية. الشاهد الموالي هو ضحية، على وجه التحديد، لأنهم مخلِص.
الخاتمة
تحكي أفلام جود سعيد قصص الحرب، من خلال الشهود الموالِين، وتُخفي عنف الدولة، وتجعل المسؤولية عن الصدمة/ الرضة النفسية السورية غير مرئيّة، وتقدّم طرقًا محددة لفهم الصراع. كيف سيتذكر السوريون وغيرهم الصراع في المستقبل، وينخرطون في نقاشات حول ذكريات الصراع التي سيتم تشكيلها من خلال القطع الثقافية مثل هذه الأفلام، ووضع الضحايا والجناة بشكل مختلف عن الأشكال المختلفة لرواية القصص وفهم الحرب. في أفلام سعيد، يُقَدَّم السوريون على أنهم ضحايا الحرب بشكل كبير مع الجناة الرئيسين الذين يشار دائمًا إليهم على أنهم ميليشيات إسلامية. الإسلاموي المسلّح هو الموضوع الرئيس المتناقض مع الشاهد الموالي الذي يعمل كموضوع مرجعي للصدمة/ الرضة النفسية السورية الجماعية. تحتوي جميع أفلام سعيد على شاهد موالٍ يمثّل دور ضحيّة الحرب، ويقدّم موضوعًا لصنع المعنى والذاكرة. على سبيل المثال، في نجمة الصبح (بين شقيقين)، حاول الشاهد الموالي (خلدون) إنقاذ نساء قريته اللواتي اختطفهنَ شقيقه عارف، وهو سجين سابق يقود الآن ميليشيا مسلحة. في (رجل وثلاثة أيام)، يستخدم سعيد شبحًا كشكل من أشكال مطاردة الموالين. يدور الفيلم حول وفاة جندي يدعى (بيرم)، ويُكلّف ابن عمه (مجد) بإعادة الجثة إلى قريتهم. (مجد) مخرج مسرحي جبان يتقوقع على نفسه ولا يمتلك الشجاعة أو الإرادة للتنقل في العنف السوري، حتى يظهر شبح (بيرم) ويناشده إعادة الجثة. وزعم سعيد أن (بيرم) يمثل “كل شخص فقدناه في هذه الحرب”، ويرمز إلى “الأشخاص الغائبين الذين يبقون في ذاكرتنا ويعودون إلينا في تفاصيل حياتنا اليومية”. في مواجهة الشعور بالذنب من التضحيات التي قدّمها (بيرم)، من أجل بلاده على عكس انتهازيته وجبنه، اضطر مجد أخيرًا إلى إكمال المهمة. ينتهي الفيلم بامتنان مجد لبيرم لإعادته إلى جذوره. بصفته شاهدًا طيفيًا/ شبحيًا مواليًا، يذكّر (بيرم) المشاهدين بالتضحيات المنسيّة التي قدّمها السوريون، والرضة النفسية المتبقية بعد وفاة أحد أفراد أسرته. تؤدي أفلام سعيد الحربية هذا الشكل من العمل السياسي، من خلال التركيز على الشهود الموالين كضحايا للحرب. الشخصيات، ومن ضمنها بيرم والأب إيليا ويوسف وزياد، هم أشخاص عاديون يُصنفون على أنهم موالون فقدوا أحباءهم، وفي حالة بيرم قدّموا حياتهم، بسبب الصراع. إنهم يقدمون تضحيات يومية من أجل بلدهم، ويواجهون عنف وطائفية المسلحين.
الشاهد الموالي هو موضوع صنع المعنى، حيث يحدث ترسيم الضحية والجاني. يتماشى صنع المعنى هذا مع استراتيجيات النظام في التواصل وإطارات الصراع التي تشكل “أزمة”، بعد “تآمر” أعداء سورية في الداخل والخارج لتدمير البلاد. الدولة لا تجعل الشاهدَ الموالي ضحية أبدًا. لا يظهر عنف النظام في أي مكان في أفلام سعيد، كعامل رئيس في الصراع. حتى في الحالات التي يتم فيها توجيه انتقادات معتدلة للنظام، إنما يكون ذلك بطريقة هزلية وروائية. ومن المثير للاهتمام أن الأفلام تُظهر سورية مدمّرة، لكنها لا تنسب مسؤولية التدمير إلى مشروع دولة فاشل. ولا تنتقد عنف الدولة أو ممارسات الحرب بأي طريقة ذات مغزى، فضلًا عن تقويض شرعية الدولة أو سلوكها أثناء الصراع. وبدلًا من ذلك، تعمل أفلام سعيد على تحويل المسؤولية عن الصراع السوري بعيدًا عن النظام، وتحميلها إلى مجموعة من الجناة المتجسدين في الجماعات المسلحة التي تشير لهجاتها ولحاها ولباسها وشعاراتها وعنفها إلى أنها جماعات إسلامية وطائفية. نتيجة لذلك، لا تطرح أفلام سعيد إشكالية، ولا تفكّر في الآثار الأخلاقية لعنف النظام، بل إنها في الواقع تجعله غير مرئي. هذه ليست مسألة دقة تاريخية، ولكنها مسألة أخلاقية حول كيفية تحويل أفلامه لعنف الدولة إلى الأطراف المتطرفة، بدلًا من الشاهد الموالي. يؤسس إخفاء عنف الدولة طرقًا لرؤية ومعرفة الضحايا والجناة. تتمحور طرق الرؤية هذه حول أنطولوجيا الضحية التي تبني شهودًا موالين كمدافعين عن الوطن وسط الفوضى والأزمات. يجب أن يأخذ البحث المستقبلي في الإنتاج الثقافي السوري الذي يروي الصراع أو يتذكره في الحسبان كيفية حدوث هذه الأشكال المختلفة لصنع المعنى في فترة ما بعد 2011، وربطها ببعضها البعض من خلال الروايات المتضاربة، وإنشاء أساس لبناء الذاكرة في المستقبل.
لقد كابد السوريون الصدمات الفردية والجماعية، وطريقة تعاملهم مع هذه الصدمة/ الرضة النفسية تختلف بالتأكيد، بناءً على تجارب الفرد. وفَّر الإنتاج الثقافي السوري مساحةً لإعطاء معنًى لهذه الصدمة ومساعدة السوريين على معالجتها. ومع ذلك، فإن أفلام سعيد تبني ذاتية لفهم ومعالجة الصدمة/ الرضة النفسية المتسقة مع روايات الدولة حول الصراع. بصفته منتجًا ثقافيًا بارزًا، إن لم يكن الأبرز، برعاية الدولة لفترة ما بعد 2011، تصل أفلام سعيد إلى جمهور واسع، داخل سورية وخارجها، في المهرجانات السينمائية وقنوات الأفلام العربية والمصادر عبر الإنترنت، مثل (يوتيوب YouTube). كقصص حرب، تعطي هذه الأفلام معنًى للتجربة السورية مع الصراع والعنف، بطرق ترفع السرديات الموالية للصدمة على سرديات الآخرين. في الواقع، تذهب أفلام سعيد إلى أبعد من ذلك، وتصل إلى الأشكال الملائمة من الشهادة والخبرة الثورية، وتحولها إلى تجارب موالية. في فيلم (مطر حمص)، على سبيل المثال، يُعزى سبب تدمير برج الساعة في حمص إلى ميليشيا (أبو عبد الله)، في حين أن الجيش السوري هو الذي دمّره فعليًا، ردًا على تجمع المتظاهرين في الساحة المحيطة ببرج الساعة. تكثر هذه التقلّبات في الموقف في أفلام سعيد، وتعمل على خلق مراجع بديلة ومنافسة للصدمة/ الرضة النفسية السورية. وهذا لا يشير إلى أن السوريين الذين يعدّون موالين لم يعانوا آثار الصراع. بدلًا من ذلك، يتمثل هدفي التحليلي هنا في تقديم القطع الثقافية إلى مناقشة كيفية فهم السوريين لصدماتهم/ رضاتهم النفسية الفردية والجماعية، وتسليط الضوء على كيفية اعتماد النظام على استراتيجيات الاتصال، لخلق معنى حول التجارب الاجتماعية والسياسية المؤلمة، وكيف أن هذه القطع، بدورها، تخلق ذكريات الحرب.
“حرمون”