الملخص:
تعَدُّ منظمات المجتمع المدنيّ أحد أهمّ المؤشرات الدالة على مدى تطور المجتمعات المعاصرة، ذلك لأنها تعنى بتعزيز صلات الفرد بمجتمعه، وتجعله عنصرًا فاعلًا في تحقيق التنمية المجتمعية. وقد ارتبط مفهوم المجتمع المدني، خلال مراحل تطوّره، بنضال الشعوب من أجل الحرية، ومرّ بمراحل طويلة حتى تبلور مع بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، بأن كان الوسيلة التي تنظّم العلاقات بين الفرد والدولة والمجتمع في النظم الديمقراطية.
إن وجود منظمات مدنية فاعلة وذات تأثير في المجتمع يكاد يجعلها سلطة مقابلة لسلطة الدولة، ولهذا نجد أن النظم الدكتاتورية والاستبدادية تعمل على إعاقة العمل المجتمعي، وترفض منح تراخيص لأي عمل من هذا النوع تحت أي مسمى، سواء أكان منظمة، أم هيئة، أم جمعية، أم فريقًا، أم منتدًى، أم ناديًا.. إلخ، إلا إذا كان تحت سيطرتها الكاملة.
تتتبّع هذه الدراسة مسار انتقال قيادة المجتمع السوري، على يد حزب البعث الشمولي، إلى الدكتاتور الذي حكم سورية، دولة ومجتمعًا، وعمل على توريث السلطة كاملة لابنه بشار. وفيها تحليل للسمات العامة لسياسة حافظ الأسد، ثم سياسة بشار الأسد، تجاه المجتمع المدني، انطلاقًا من فرضية أنه “لا وجود للمجتمع المدني في ظلّ حكم حزب واحد شمولي”، مع ملاحظة أن النظام السوري هو نظام جمهوري شبه رئاسي، وفقًا للدستور، وليس نظامًا ملكيًّا يُشرع نظام توريث الحكم!
تتكون الدراسة من جزئين: الأول يتناول موضوع واقع المجتمع المدني، ابتداءً من عام 1963، العام الذي استولى به حزب البعث على الحكم في سورية، حتى عام 2000، تاريخ وفاة حافظ الأسد الأمين القطري لحزب البعث ورئيس الجمهورية. والجزء الثاني يتناول الموضوع للفترة ما بعد عام 2000، منذ تولي بشار الأسد رئاسة حزب البعث والجمهورية العربية السورية.
يجيب الجزء الأول عن جملة من الأسئلة: كيف أثّرت التوترات السياسية في نشاط الهيئات الاجتماعية قبل وصول حزب البعث إلى السلطة؟ وهل تمكّن السوريون من بناء نواة لمجتمع مدني بعد الاستقلال عن فرنسا؟ كيف تعامل حزب البعث في فترة رئاسة حافظ الأسد مع حراك المجتمع؟ وما هي البدائل التي وضعها لإحكام سيطرته عليه؟ وهل يمكن تصنيف تلك البدائل بأنها مؤسسات مجتمع مدني؟ ولماذا أصبح كلّ حراك للمجتمع المدني في سورية يتصف بأنه حراك سياسي حقوقي منبثق عن جهات معارضة لنظام حكم حزب البعث؟
وبناء على الأسئلة المطروحة، فقد وجبَ انطلاق البحث من مقدمة عن مفهوم المجتمع المدني ودوره في المجتمعات الحديثة، لتبيان الفرق بين ما تؤديه منظماته من دور في الأنظمة الديمقراطية والعلمانية، وبين دور المنظمات والجمعيات في الأنظمة الشمولية، ثم الانتقال إلى توضيح حالة نشاط المجتمع السوري قبل وصول حزب البعث إلى السلطة. وقد تبيّن أنه كان هنالك حراك مجتمعي متنوع يقارب مفهوم المجتمع المدني الحديث، كالنقابات المهنية والاتحادات والجمعيات المتنوعة الأهداف الخيرية الثقافية والحقوقية، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال حتى قيام الوحدة مع مصر عام 1958، حيث ضمن دستور 1950 للمواطن السوري الحريات الشخصية العامة، ومنها حرية الفكر والمعتقد وحرية الصحافة والطباعة والتعليم وحرية إنشاء الجمعيات وعقد الاجتماعات، وذلك على الرغم من أن تلك الفترة كثرت فيها الانقلابات العسكرية التي أدت إلى شعور المجتمع بعدم الاستقرار، وقد اتسمت تلك الفترة بالنضال المجتمعي الثقافي والحقوقي والسياسي من قبل كل التيارات المتصارعة على السيطرة على المجتمع والدولة حينذاك.
وسلّط الجزء الأول الضوء على القوانين التي وُضعت في عهد الوحدة مع مصر، تلك القوانين التي صادرت الحريات السياسية والمدنية، وكانت بداية مرحلة انهيار العمل المدني المجتمعي، الذي نهض مجددًا بعد الانفصال لفترة قصيرة، ثم انتكس نشاطه، شيئًا فشيئًا، مع جلوس حزب البعث على كرسي السلطة.
تُبيّن الشهادات التي قدّمت للدراسة عن الفترة الأولى لحكم حزب البعث، ما بين عامي 1963 و1970، أنه كانت هناك مساحة صغيرة لممارسة بعض الفعاليات والأنشطة، التي يمكن أن تكون أقرب إلى أنشطة المجتمع الأهلي، منها إلى أنشطة المجتمع المدني، لأن نشاطها كان مقيدًا بنصوص القانون ومراقبًا ومقتصرًا على العمل الثقافي والخيري. وبالبحث في أسباب منح حزب البعث للمجتمع هذه المساحة الصغيرة من العمل المجتمعي، اتضح أنها تعود أولًا لقرب تلك المرحلة زمنيًّا من عهد الاستقلال الذي انتشرت ومورست خلاله الأفكار الديمقراطية ضمن المجتمع السوري، وثانيًا لأن قيادة نظام حزب البعث في بدايات تسلّمه السلطة في سورية كانت مدنّية ومتمسّكة نوعًا ما في خطابها بأفكار الحرية، على أنها منهج حياة ينبغي ترسيخه في الواقع السياسي والاجتماعي.
أما في الفترة الثانية الممتدة من انقلاب التيار العسكري على القيادة المدنية داخل حزب البعث، في العام 1970، التي سماها الحزب “الحركة التصحيحية”، فقد أصبح حزب البعث الذي يقوده حافظ الأسد هو القائد للمجتمع والدولة، بموجب الدستور، وخلال هذه المرحلة قُضي نهائيًا على مؤسسات المجتمع المدني، من نقابات مهنية وعمالية وفلاحية، ومن جمعيات ثقافية وعلمية، ومن هيئات وحركات نسوية وطلابية، وحلّ محلها اتحادات ونقابات وجمعيات تابعة بشعاراتها وأهدافها لشعارات حزب البعث العربي الاشتراكي.
توصّل هذا الجزء من الدراسة إلى أن السمة الرئيسية لكل حراك ونشاط حرّ للمجتمع المدني، خلال الأعوام الثلاثين من فترة رئاسة الأمين القطري لحزب البعث (القائد للدولة والمجتمع) حافظ الأسد للجمهورية العربية السورية، كانت هي المعارضة لسياسة وممارسات أجهزة نظام البعث الاستبدادية وأيديولوجيته الشمولية في السيطرة على كل جوانب الحياة العامة والخاصة للمجتمع السوري. وكان أي نشاط مدني حقوقي يُقابل بالترهيب والتخويف والتهديد، والاعتقال والإخفاء القسري، وقد يصل مصير الناشط المعارض لسياسة الحزب والقائد إلى الإعدام بدون محاكمة. وقد أدى هذا الأمر إلى انقسام المجتمع السوري خلال تلك الحقبة إلى شرائح ثلاث: الأولى خضعت لسيطرة النظام وانضمت إلى مؤسساته البعثية البديلة (نقاباته وجمعياته واتحاداته البعثية)؛ والشريحة الثانية ارتأت الصمت والابتعاد عن أي نشاط مدني حقوقي؛ أما الشريحة الثالثة فهي التي تجرأت على معارضة سياسات البعث، وكان مصيرها إما الاعتقال، أو الفرار خارج سورية.
أما الجمعيات الخاصة التي رُخّصت للعمل وتمكّنت من ممارسة نشاطها المجتمعي في تلك الفترة، فإنما هي جمعيات تأسست قبل استلام حافظ الأسد حكم سورية عبر قيادته لحزب البعث، وأغلبها جمعيات أهلية خيرية أو أهلية ثقافية، ولا يمكن -بحالٍ من الأحوال- وضعها في حقل نشاط المجتمع المدني، لأنها من ناحية تخضع لرقابة النظام وفروعه الأمنية، ومن ناحية أخرى لا تُحقق الشرط الأساسي للمجتمع المدني في الدول الحديثة، وهو أن يكون نظام الدولة ديمقراطيًا في التطبيق العملي، لا على الورق فقط.
تأتي أهميّة الجزء الأول من البحث من محاولته فهم طبيعة العلاقة بين نظام حزب البعث والمجتمع المدني السوري، خلال فترة حكم حافظ الأسد، وتحليلها، ومن محاولته سبر الأسباب التي جعلت من نشاط المجتمع المدني في تلك الفترة نشاطًا معارضًا للنظام. أما الهدف منه، فهو دحض حجج النظام التي كرّسَها لتعطيل نشاط المجتمع المدني، إذ اتهمه بالسعي إلى تفتيت الدولة السورية وأسلمتها، ولذلك عمل على القضاء على أي تحرّك نقابي أو مجتمعي، وقام بتأسيس اتحادات ومنظمات مجتمعية خاضعة كليّا له. واعتمد البحث على مقابلات واسعة مع ناشطين في مجال حقوق الإنسان وفي المنظمات الحقوقية، ومع محامين وقضاة ناشطين في منظمات مدنية، ومع سياسيين لديهم باع في العمل في مجال المجتمع المدني.
“حرمون”