باريس ـ “القدس العربي”:
نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية تقريرًا بعنوان: لماذا تتغاضى أوروبا عن انحرافات قيس سعيد التسلطية؟ لمراسلتها في تونس منية بن حمادي أكدت فيه أن دول الاتحاد الأوروبي الـ 27، وفي مقدمها إيطاليا (الأقرب جغرافيا)، تستمر في في إيلاء الأولوية للسيطرة على تدفقات الهجرة في تعاملها مع تونس، وذلك على الرغم من “الخطاب المعادي” للغرب الذي يتبناه رئيسها قيس سعيّد.
وبدأ التقرير بالإشارة إلى أن “الرئيس التونسي قيس سعيّد اعتذر في الأخير عن دعوةٍ لحضور قمة مجموعة السبع المنعقدة في جنوب إيطاليا، وأرسل بدلًا منه رئيس حكومته أحمد الحشاني، وذلك دون أن يقدّم أي تفسير، مع العلم أن العلاقات بين روما وتونس في وضع جيد. وقد زارت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني تونس أربع مرات في أقل من سنة. ومن الواضح أن الغرب لا يزال يحافظ على علاقته بقيس سعيّد، رغم انحرافه الاستبدادي”.
تهاون الغرب النسبي في تعامله مع قيس سعيّد يعود إلى حقيقة أن الاتحاد الأوروبي يمنح الأولوية لمساعي التحكّم في تدفقات الهجرة، وذلك في إطار تفاهم مع تونس
وشدد التقرير على أن تهاون الغرب النسبي في تعامله مع قيس سعيّد يعود إلى حقيقة أن الاتحاد الأوروبي يمنح الأولوية لمساعي التحكّم في تدفقات الهجرة، خاصة من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وذلك في إطار مذكرة تفاهم موقّعة مع تونس في 16 حزيران/ يونيو 2023. والتوتّرات الأخيرة المتعلقة بالمخاوف التي عبّر عنها الاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة عقب موجة الاعتقالات التي طالت الصحافيين والمحامين ومسؤولي المنظمات غير الحكومية في أيار/ مايو لم يكن لها تأثيرات عميقة على هذه العلاقة.
وأشار التقرير إلى أن انتقادات بروكسل وباريس وواشنطن أثارت غضب قيس سعيّد، الذي استدعى السفراء المعنيين وأكّد رفضه لأي تدخل أجنبي. ومن جانبه، فضّل الجانب الأوروبي التريث وترك العاصفة تمر وذلك لسبب واضح: وهو أن التعاون بين تونس والاتحاد الأوروبي على كبح تدفقات الهجرة يؤتي ثماره. فمنذ بداية السنة، وصل أقل من 23 ألف مهاجر إلى السواحل الإيطالية مقارنةً بحوالي 60 ألفا خلال نفس الفترة من سنة 2023. وفي مايو/ أيار الماضي، كشف حينها وزير الداخلية التونسي كمال الفقي للبرلمانيين، في جلسة استماع مغلقة، أن الحدود مراقبة بشكل دقيق استجابةً لطلبات بعض القادة الأوروبيين مع اقتراب الانتخابات الأوروبية، وذلك وفقاً لتقارير جريدة “الشارع المغاربي” التي أكدها النائب ياسين مامي.
قلب الطاولة
نقل التقريرعن حمزة المؤدّب، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، قول إنه “لطالما نادت إيطاليا بالحفاظ على الروابط مع قيس سعيّد وما زالت تراه رهانًا لضمان استقرار البلاد.. وعمومًا، تفضّل العواصم الأوروبية اليوم نهجًا براغماتيًا أولوياته الهجرة والأمن أو الطاقة، حتى “إذا كان ثمن تحقيق هذه الأولويات هو التغاضي عن غياب جدول زمني للانتخابات أو حقوق الإنسان”.
وذكر التقرير بأن قيس سعيّد، أستاذ القانون الدستوري الذي وُصف حينها بـ “المحافظ الراديكالي”، وصل إلى السلطة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بعد فوز كاسح في الانتخابات الرئاسية. وكانت حملته تتركز على مكافحة الفساد، ورفض النخب السياسية التقليدية، والترويج لنظام ديمقراطية تشاركية لا مركزية، وهو ما لاقى استحسانًا بين التونسيين وخاصةً الشباب الذين شعروا بخيبة أمل عقب عشر سنوات من الأزمات السياسية بعد الثورة وعملية انتقال ديمقراطي اعتبروها غير مرضية.
ويوم 25 تموز/ يوليو 2021، في خضم أزمة كوفيد-19 ومع تفاقم الجمود السياسي والأزمة الاقتصادية، قلب قيس سعيّد الطاولة بتعليق البرلمان ومنح نفسه كامل الصلاحيات، وهي خطوة وصفها معارضوه بأنها “انقلاب” لكنها قُبلت بشكل عام من قبل المجتمع الدولي. وبعد سنة، رسّخ توجّهه نحو نظام رئاسي مطلق من خلال تبني دستور جديد يمنحه صلاحيات واسعة.
وأضاف أنه منذ انقلابه، شرع الرجل القوي في قرطاج في عملية تفكيك منهجي للهيئات والمؤسسات التي أُنشئت بعد الإطاحة بزين العابدين بن علي في سنة 2011، وهي فترة ما بعد الثورة التي يسميها مؤيدوه “العشرية السوداء”. وقد حكم سعيّد البلاد من خلال مراسيم، واتخذ قرارًا أحاديًا بحلّ البرلمان نهائيًا في آذار/ مارس 2022 بعد تعليق العمل بالدستور وحلّ مجلس القضاء.
وفي السنة نفسها شدّد سعيّد قبضته على السلطة القضائية بإقالة حوالي خمسين قاضيا، قبل أن يهاجم حرية التعبير بإصدار المرسوم عدد 54 في أيلول/ سبتمبر 2022 لمكافحة “الأخبار الكاذبة”. ومنذ سنة 2023، اعتُقل عشرات المعارضين من مختلف الأحزاب السياسية ومعظمهم من قادة حزب النهضة الإسلامي – بما في ذلك زعيمه راشد الغنوشي- بتهمة التآمر على أمن الدولة أو التخابر مع قوى أجنبية. كما طالت حملة الاعتقالات العديد من الصحفيين والنقابيين ورجال الأعمال والمحامين أو المسؤولين في المنظمات غير الحكومية الذين وُجّهت إليهم نفس التهم.
مطاردة المهاجرين
ولفت التقرير إلى أن وتيرة القمع ضد المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء زادت بعد اتهامهم من قبل رئيس الدولة بالمشاركة في مؤامرة تهدف إلى تغيير “التركيبة الديموغرافية” للبلاد، ليصبحوا هدفًا لمطاردات حقيقية منذ تموز/ يوليو 2023. طُرد عدة آلاف منهم من منازلهم ووظائفهم أو نُقلوا إلى الحدود، في وسط الصحراء، تزامنًا مع توقيع مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي.
رغم دعوته للتقارب مع روسيا أو الصين، إلا أن أوروبا هي الشريك التجاري الأول لتونس بينما تقدّم الولايات المتحدة دعماً مالياً كبيراً لجيشها
ووفق التقرير فإن الرئيس سعيّد يلعب لعبة القبضة الحديدية مع الغرب، رافضًا أي نقد – مهما كان خجولا – من الخارج باعتباره مساسًا بسيادة البلاد. ورغم دعوته للتقارب مع روسيا أو الصين، حيث تم استقباله في نهاية أيار/ مايو خلال زيارة دولة، إلا أنه لا يمكنه بسهولة قطع العلاقات مع الغرب ذلك أن أوروبا هي الشريك التجاري الأول لتونس بينما تقدّم الولايات المتحدة دعماً مالياً كبيراً لجيشها. والتحوّل المفاجئ لقيس سعيّد، الذي رفض في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 تبني قانون يجرّم العلاقات مع إسرائيل، دليلٌ على وسائل الضغط التي لا تزال واشنطن تملكها حسب العديد من النواب التونسيين.
وذكر تقرير “لوموند” أنه في 19 أيار/ مايو، أثار مقال نشرته صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية حول هبوط طائرات “عسكرية روسية” في جزيرة جربة الجدل. ورغم نفي موسكو وتونس لهذه المعلومة، إلا أن الخوف من تحول تونس نحو روسيا سيمثل قطيعة مع الغرب الذي لطالما كانت تونس مرتبطة به – مع أن تغيير المسار الدبلوماسي الذي يدعيه الرئيس وخطابه “المناهض للإمبريالية” بالكاد كان له آثار ملموسة على أرض الواقع. لهذا السبب، يعتقد حمزة المؤدّب أنه “لا أحد يأخذ [قيس سعيّد] على محمل الجد. فجميع مناوشاته الدبلوماسية لا تتبعها أفعال ملموسة، بل هي مجرد خطب وشعارات”.
- القدس العربي