ثبّتت انتخابات البرلمان الأوروبي موقعاً متقدماً لليمين المتطرف في عدد من البلدان على حساب الأحزاب اليسارية والليبرالية والخضراء، فيما عزّزت كتلة حزب الشعب الأوروبي (EPP) اليمينية الوسطية بقيادة مانفريد ويبر، موقعها في الصدارة حاصدة 186 مقعداً.
المشاركة في الانتخابات الأوروبية هذا العام كانت مشابهة للدورة الماضية، فقد بلغت نسبة المشاركة 50.8 في المئة من 360 مليون ناخب (وهي نسبة مشابهة لانتخابات عام 2019، إذ سجلت 50.66 في المئة)، ولا تزال هذه النتائج غير نهائية تماماً لحظة كتابة هذا المقال، لكنها بشكل عام تحدّد العدد الأكبر من المقاعد، وأي تغيير يطرأ عليها سيكون طفيفاً.
على رغم التقدّم الملحوظ الذي أحرزه اليمين المتطرف في هذه الانتخابات، لكن الأحزاب والتكتلات الوسطية احتفظت بغالبية كافية لتعطيل مساعيه، التي من شأنها أن تصل إلى حد تفكيك الاتحاد الأوروبي من الداخل.
وصرّحت رئيسة حزب التجمع الوطني في فرنسا حينها مارين لوبان بذلك علانية في أيار/ مايو 2014 لمجلة TIME الأميركية، إذ أشارت إلى أن هدفها هو “تفكيك النظام بكامله من الداخل”، وأنها ستكافح أيضاً “لإيقاف إنشاء اتحاد مصرفي أوروبي جديد”، إضافة إلى “إنهاء اتفاقية شنغن التي تسمح بالسفر المجاني بين 26 دولة في الاتحاد الأوروبي”. وأكّدت لوبان هذا الموقف مرات عدة في مؤتمرات واجتماعات لاحقة عقدها قادة اليمين المتطرف في أوروبا.
المصدر: موقع البرلمان الأوروبي Verian for the European Parliament).
يكمن الخوف في التغيرات التي قد تطرأ على التحالفات والتكتلات داخل البرلمان الأوروبي، حيث يملك اليمين المتطرف قدرة على الضغط باتجاه إعادة تكوينها، بخاصة أن التكتل الأكبر EPP يضم عدداً من الأحزاب التي يتراوح الانتماء اليميني فيها بين وسطي ومتطرف.
إذا فشلت تلك التكتلات ضمن البرلمان الأوروبي في إحداث تغييرات جذرية، فإن وصول مزيد من تيارات اليمين المتطرّف إلى الحكم في دول الاتحاد الأوروبي قد يقود إلى موجة من الانسحابات من الاتحاد، شبيهة بانسحاب المملكة المتحدة من خلال اتفاقية بريكسيت عام 2020 بقيادة الشعبوي المحافظ بوريس جونسون.
تأثير انتخابات البرلمان الأوروبي على الاقتصاد والسياسة الدوليين
للانتخابات الأوروبية تأثير مباشر على الاقتصاد العالمي، إذ إن للاتحاد الأوروبي الحصة الأكبر من التبادل التجاري في العالم (انظر الرسم البياني رقم 2)، كما أنه يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية (14.17 في المئة) بعد الصين (19.01 في المئة) والولايات المتحدة الأميركية (15.5 في المئة)، وذلك بحسب الأرقام المحدّثة لصندوق النقد الدولي.
كما أن للانتخابات الأوروبية دوراً مهماً في تحديد السياسات الدولية وبنائها، إذ بإمكان التحوّل باتجاه اليمين المتطرف أن يلقي بظلاله على مسائل إنسانية وبيئية حساسة، وأن يدفع باتجاه تبنّي سياسات قومية متشدّدة على المستويات كافة:
اقتصادياً، من خلال تقييد حركة التجارة وتبنّي سياسات حمائية من جهة، وتعزيز الإنفاق العسكري والإجراءات التقشّفية من جهة أخرى.
واجتماعياً، من خلال تبني سياسات قومية معادية للمهاجرين واللاجئين، وتأجيج الكراهية ضد المسلمين ومجتمع الميم وباقي الفئات الهشة، بالإضافة إلى ضرب المنظمات النقابية والعمالية ومنع حقّها بالتنظيم.
وبيئياً، من خلال تحجيم أو حتى إلغاء السياسات المناخية وتسخيف التهديدات البيئية وأخطار الاحتباس الحراري.
وسياسياً، من خلال اتباع مقاربات هوياتية عدوانية تجاه الشعوب والمجتمعات والثقافات المختلفة، من شأنها أن تضاعف من التوتّرات العرقية حتى ضمن دول الاتحاد الأوروبي نفسها.
وساعد الانحراف الكبير باتجاه سياسات الهوية لدى معظم التيارات اليسارية والنسوية المعاصرة، وبخاصة في أوروبا وأميركا الشمالية، في نموّ هذا الميل الهوياتي العدواني وتعميمه والتطبيع معه من الجماهير غير المؤيّدة للأيديولوجيات اليمينيّة بشكل صريح، عبر التركيز على الذات الجوهرانية والتوجهات والتجارب الذاتية للأفراد أو المجموعات الهوياتية، ووضعها من حيث الأهمية نفسها في التحليل وبناء السياسات مع البنى الاجتماعية والاقتصادية، على رغم معارضة هذه التيارات العناوين التي يعلن عنها اليمين المتطرف وأشكال تمظهرها المختلفة، لكن تلك المعارضة لم تخرج يوماً عن الإطار الشعبوي.
نتائج الانتخابات
في ألمانيا، والتي تأتي في المركز الأول من حيث عدد المقاعد في البرلمان الأوروبي بـ 96 من أصل 720 مقعداً، أثار مقتل شرطي ألماني على يد مهاجر أفغاني قبل أسبوع، ومن ثم حادثة طعن أحد المرشحين عن حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) هاينريش هوش على يد أحد اليساريين المتطرفين قبل أربعة أيام من الانتخابات، موجة من الغضب ألقت بثقلها على النتائج بعدما أحسنت قوى اليمين استغلالها.
تجاوز AfD (الحزب البديل من أجل ألمانيا) بقيادة كل من تينو شروبالا وأليس فايدل، وهو حزب يميني شعبوي يُعتبر من الأشد تطرفاً في البلاد، جميع التوقعات، حاصداً 15.9 في المئة من الأصوات، متخطياً بذلك ائتلاف الأحزاب الثلاثة الحاكمة (SPD وGrune وFDP)، ومحتلاً المركز الأول في المقاطعات الشرقية، حيث انتخبه مهاجرون كثر من دول أوروبا الشرقية ووسط آسيا وتركيا!
أتى AfD في المرتبة الثانية بعد ائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي/ الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CDU/CSU) اليميني الوسطي المعارض، والذي حظي بنسبة 30 في المئة من الأصوات، ما يدل على تغير كبير في المزاج الشعبي في ألمانيا، والذي يتّجه يميناً بشكل عام، وعلى عدم قبول سياسات ألمانيا، بخاصة في ما يخص الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وكانت الخسارة الأكبر في ألمانيا لحزب الخضر (Grune)، إذ شهد تراجعاً بنسبة 8.6 في المئة، في إشارة إلى موجة الاحتجاج المتصاعدة ضد السياسات التي يفرضها هذا الحزب، والتي أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار الطاقة. في حين حصد تحالف “سارة فاجنكنشت – العقل والعدالة” (BSW) 6 مقاعد في البرلمان الأوروبي، بنسبة 6.2 في المئة من الأصوات على رغم عضويته القليلة والنقص في كوادره البشرية وعدم جاهزيته لخوض انتخابات بهذا الحجم، فهو تحالف يساري شعبوي جديد منشق عن الحزب اليساري “دي لينكه” (2.7 في المئة فقط من الأصوات) وأعلن تأسيسه في كانون الثاني/ يناير 2024.
في فرنسا، والتي تأتي في المركز الثاني بـ 81 مقعداً، حصد حزب التجمع الوطني بقيادة جوردان بارديلا 31.5 في المئة من الأصوات، ما يعزّز احتمالات وصول مارين لوبان إلى الرئاسة عام 2027، وتلك النسبة هي ضعف ما حصل عليه حزب النهضة (الجمهورية إلى الأمام) بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما دفع بالأخير إلى إعلان حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة استجابةً للنتائج، ولكن أيضاً في محاولة منه للالتفاف عليها معوّلًا على صحوة محتملة في الشارع الفرنسي، إذ صرّح أيضاً: “إن اليمين المتطرف هو سبب إفقار الشعب الفرنسي وسقوط بلدنا. لذلك في نهاية هذا اليوم، لا أستطيع التظاهر بأنه لم يحدث شيء”.
وفي إيطاليا، والتي تأتي في المركز الثالث بـ 76 مقعداً، تصدّر حزب إخوة إيطاليا (Fratelli d’Italia) النيوفاشي بقيادة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني النتائج، إذ حصل على 28.8 في المئة من الأصوات، لكنّ جزءاً كبيراً من هذه الأصوات أتى على حساب حزب الرابطة الإيطالي (Lega)، حليفها اليميني بقيادة ماتيو سالفيني، الذي خسر 14 مقعداً في البرلمان الأوروبي وحاز 9 في المئة من الأصوات فقط، فيما حقق الحزب الديمقراطي اليساري الوسطي بقيادة ستيفانو بوناتشيني، تقدماً معتدلاً، إذ حصد 24.1 في المئة من الأصوات.
وفي إسبانيا، والتي تأتي في المركز الرابع بـ 61 مقعداً، فقد حصد حزب VOX الفاشي 9.6 في المئة من الأصوات، فيما تقدم حزب الشعب اليميني الوسطي بنسبة كبيرة حاصداً 34.2 في المئة من الأصوات، مقابل تراجع طفيف لحزب العمال الاشتراكي الإسباني الذي حصل على 30.2 في المئة من الأصوات.
أما في بولندا، والتي تأتي في المركز الخامس بـ 53 مقعداً، فقد اكتسح اليمين بكل أطيافه المشهد بمنافسة يمينية – يمينية كما كان متوقعاً، تقدم فيها اليمين القومي المتطرف على اليمين الشعبوي، إذ حصل الائتلاف المدني (Civic Coalition) اليميني الوسطي على 37.1 في المئة من الأصوات، فيما تقدّم تحالف الأحزاب القومية المتطرفة “كونفدرالية الحرية والاستقلال” (Konfederacja) حاصداً ستة مقاعد بنسبة 12.1 في المئة من الأصوات على حساب حزب العدالة والقانون البولندي اليميني الشعبوي، الذي خسر خمسة مقاعد بحصوله على 36.2 في المئة من الأصوات.
وفي رومانيا، والتي تأتي في المركز السادس بـ 33 مقعداً، فقد اكتسح الائتلاف الوطني المشهد، إذ فاز بنسبة 48.7 في المئة من الأصوات. والائتلاف هو عبارة عن تحالف بين اليسار الوسط واليمين الوسط، وتحديداً بين الحزبين الديمقراطي الاجتماعي والليبرالي القومي. لكن اللافت كان تقدم التحالف من أجل اتحاد الرومانيين (AUR) اليميني المتطرف، إذ حصل على 14.9 في المئة من الأصوات، وفاز بـ 5 مقاعد في البرلمان الأوروبي على حساب الحزب الليبرالي الوسطي “تجديد مشروع رومانيا الأوروبي”، الذي خسر كل مقاعده الخمسة في المقابل مسجلًا نسبة 3.7 في المئة من الأصوات فقط.
وفي النمسا، فاز حزب الحرية النمساوي (FPO) اليميني المتطرف متصدراً النتائج بنسبة 25.7 في المئة من الأصوات، يليه حزب الشعب النمساوي (OVP) اليميني الوسطي بنسبة 24.7 في المئة من الأصوات، ليحتل اليمين المشهد السياسي، مقابل معارضة ملحوظة من الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي (SPO) اليساري الوسطي، والذي يشكل تحالفاً بين الديمقراطيين الاجتماعيين واليساريين الشيوعيين في النمسا بنسبة 23.2 في المئة من الأصوات.
وفي هنغاريا، فاز التحالف بين حزب الشعب الديمقراطي المسيحي والاتحاد المدني الهنغاري “فيدس” (Fidesz–KDNP) بنسبة 44.8 في المئة من الأصوات، وتتراوح سياسات هذا التحالف بين وسطية ومتطرفة، وأتى في المرتبة الثانية حزب الاحترام والحرية (TISZA) بنسبة 29.6 في المئة من الأصوات، وهو حزب يميني وسطي وشعبوي، في حين تقدمت حركة “وطننا” (MHM) اليمينية المتطرفة لتكسب مقعداً في البرلمان الأوروبي بعدما حصلت على 6.7 في المئة من الأصوات، وذلك على حساب حركة الزخم (Momentum) الليبرالية الوسطية التي خسرت مقعدين وحظيت بنسبة 3.7 في المئة من الأصوات فقط.
كما شهد الصعود اليميني توسعاً، ولو كان محدوداً، في أماكن غير متوقعة. ففي البرتغال، حصد حزب Chega (كفى) بقيادة أندريه فينتورا 9.8 في المئة من الأصوات، في إشارة إلى نمو قاعدته الجماهيرية. وفي هولندا، حصل حزب الحرية اليميني المتطرف على نسبة 17.7 في المئة من الأصوات، مقترباً من حزبي العمال والخضر اللذين حصلا على نسبة 21.6 في المئة من الأصوات. وفي اليونان، تمكن حزب “الحل اليوناني” اليميني المتطرف (Greek Solution) من تحقيق تقدم بسيط، إذ حصل على 9.3 في المئة من الأصوات ليكسب مقعدين، مقابل هزيمة لحزب اليسار الجديد الوسطي (New Left) الذي خسر مقعديه في البرلمان وحصل على 2.5 في المئة فقط من الأصوات، واحتفاظ الحزب الشيوعي اليوناني (KKE) بمقعدين بنسبة 9.3 في المئة من الأصوات، وبهذا يكون اليمين المتطرف دخل في مواجهة شبه متكافئة مع اليسار المتطرف في اليونان.
الأسباب والتداعيات
عزّز اليمين المتطرف مواقعه في دول أخرى أيضاً، مستفيداً من التناقضات الكبيرة التي لم يجد الاتحاد الأوروبي لها حلولاً. فنسبة كبيرة من الأصوات التي حصلت عليها أحزاب اليمين المتطرف أتت من الشباب والعمال والمزارعين، بل حتى من مهاجرين كثر يهدّد اليمين المتطرف بترحيلهم! كان التصويت هذه المرة لصالح أحزاب اليمين من الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية كافة.
فالشعارات التي تحملها هذه الأحزاب تشمل مروحة واسعة من المواضيع الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والدينية، التي يمكن أن تتقاطع حولها شرائح واسعة من الجماهير. فالمهاجرون المسلمون المتطرفون دينياً، على سبيل المثال، يجدون أحزاب اليمين المتطرف التي تدعو إلى اضطهاد المثليين جنسياً، أقرب إليهم من أحزاب اليسار التي تدعو إلى حمايتهم وصون حقهم الديمقراطي بالتساوي مع المثليين جنسياً والنساء وباقي الشرائح الاجتماعية المضطهدة تاريخياً.
في المقابل، فإن تلك الأحزاب التي تجعل من شعارات مناهضة المهاجرين المسلمين أولوية في مناطق ذات غالبية غير مسلمة، تستثمر أكثر في شعارات مناهضة المثلية في مناطق ذات وجود أكبر للمسلمين. أما الفئات الشبابية، فهي تشعر بالتململ من انخفاض مستوى المعيشة، وازدياد الجرائم والأحداث الأمنية والحروب وانسداد الحلول، بالإضافة إلى القمع الواسع الذي مارسته الحكومات الأوروبية في الأشهر الأخيرة.
يبدو أن رد فعل الفئات الشبابية في أوروبا أتى على قاعدة “عدم تجريب المجرّب”، على الرغم من أن أقصى اليمين لا يحمل في جعبته سوى تاريخ حافل من الحروب العبثية والانهيارات الاقتصادية والاستبداد الشديد. وفي هذا السياق، يظهر العجز الكبير لتيارات اليسار المتطرف في استقطاب الجماهير الشابة والعمالية وتعبئتها.
شكّل الانتصار التاريخي لحزب إخوة إيطاليا (Fratelli d’Italia) النيوفاشي ووصول جورجيا ميلوني إلى سدة الرئاسة عام 2022، رافعةً كبيرة لليمين الأوروبي المتطرّف، الذي كان بدأ بتحقيق الانتصارات المتفرّقة في هنغاريا والسويد والنمسا.
وفي فنلندا، وبعد حصوله على المركز الثاني في انتخابات عام 2023، انضمّ حزب الفنلنديين اليميني المتطرّف Finns Party إلى الحكومة الائتلافية المشكّلة من أحزاب اليمين واليمين الوسط، إذ وعد بالحدّ من الهجرة واتباع سياسات تقشّفية. وفي ألمانيا، وبعد الفوز الكبير لـ CDU/CSU وAfD، فإنه من المحتمل (وليس حتمياً) حدوث اضطرابات سياسية، وتعبئة جماهيرية من أحزاب اليمين، في حال لم ينسحب ائتلاف الأحزاب الثلاثة الحاكمة من الحكومة، والدعوة لانتخابات مبكرة على غرار ما حصل في فرنسا.
إلى جانب الانتصارات المتتالية لليمين المتطرّف في عدد من البلدان الأوروبية، شكلّت الأحداث الأمنية في أوكرانيا وفلسطين أرضية صلبة لأحزاب اليمين التي استغلت الأوضاع الناتجة منها لاستهداف الحكومات بشعارات وعناوين متجانسة في أماكن ومتناقضة في أماكن أخرى، لكنها في نهاية المطاف كانت تصبّ في مصلحة تقدّمها على حساب خصومها.
فقد أدّت السياسات التي اتبعتها دول الاتحاد الأوروبي رداً على الحرب الروسية على أوكرانيا، إلى ارتفاع كبير في أسعار الطاقة من جهة، وربط مصير القارة الأوروبية بمصير أوكرانيا من جهة أخرى.
كما أدّت ردود الفعل على عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر في غزة وما تلاها من مجازر إسرائيلية في قطاع غزة، إلى تفاقم السخط ضد الحكومات الأوروبية من التيارات اليمينية واليسارية على حد سواء، ولأسباب متناقضة أيضاً، بخاصة بعدما واجهت تلك الحكومات الأحداث في غزة بالتحريض وموجات القمع بحق الفلسطينيين والمهاجرين من العرب والمسلمين، وذلك من شأنه أيضاً أن يخدع مهاجرين كثراً لا يدركون عمق وتمايز العلاقة بين بعض تيارات اليمين المعادي للسامية في أوروبا وإسرائيل.
وبعد حصولها على عدد كبير من المقاعد، من المرجّح أن تبدأ أحزاب اليمين المتطرّف وتكتلاته بالضغط داخل البرلمان الأوروبي لإقرار قوانين قابلة للتطبيق في أسرع وقت ممكن وبأقل قدر ممكن من التعقيدات، مثل ترحيل المهاجرين واللاجئين من مرتكبي الجنايات إلى بلدانهم الأصلية حتى ولو كانت مصنّفة غير آمنة لهم، والتشدد في حماية الحدود الأوروبية وإغلاقها ومنع الهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى إقرار قوانين تشجّع المواطنين الأوروبيين على الإنجاب والتكاثر.
وبعد تحقيق هذه الأهداف، من المرجّح أن يبدأ اليمين المتطرّف بالتضييق على المهاجرين الشرعيين بأشكال مختلفة، إذ يعتبر المهاجرين بشكل عام أعداءً للمجتمعات الأوروبية، حتى ولو قاموا بتحصيل الجنسيات بعد جهدٍ كبير، وانتظار سنوات طويلة، وتعلّم اللغات والتكيّف والاندماج في تلك المجتمعات. لكن حتى لو لم يتمكن اليمين المتطرّف من الضغط لإقرار تلك القوانين، فإنه سيفعل ما في وسعه لجعل حياة المهاجرين الشرعيين في البلدان الأوروبية جحيماً، فهو يدعو إلى التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية.
أوروبا وإسرائيل
في ما يخص إسرائيل، وعلى رغم التاريخ الدموي بحق اليهود ومعاداة السامية في أوروبا، فإن عدداً متزايداً من رؤساء أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا (مثل رئيس حزب الحرية الهولندي خِيرت فيلدرز، ورئيس حزب VOX البرتغالي سانتياغو أباسكال، ورئيس حزب ديموقراطيو السويد جيمي أوكسون) يرون في بنيامين نتانياهو حليفاً لا غنى عنه، والعكس صحيح.
فنتانياهو هو قائد المعسكر اليميني الذي شكّل منذ عامين حكومة قومية متطرفة ضيَّقت الخناق على الفلسطينيين، وأرخت الحبل للمستوطنين والجنود الإسرائيليين على حد سواء لممارسة أنواع الجرائم والتعديات كافة بحق الفلسطينيين من دون عقاب أو حتى مساءلة، وتحويل إسرائيل أكثر فأكثر إلى دولة قومية متطرفة ذات طابع يهودي.
كما أن القاسم المشترك الأكبر بين إسرائيل وبعض أحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا هو كراهية المسلمين، أو “المسلموفوبيا” (لدي تحفظات على مصطلح “إسلاموفوبيا” لا مساحة لنقاشها هنا).
فإذا كانت التكتلات الوسطية في البرلمان الأوروبي تدعو إلى حفظ حق إسرائيل والدفاع عنها، مع الاحتفاظ بهامش من النقد والمساءلة، فإن بعض التكتلات اليمينية المتطرفة ستقدم دعماً غير مسبوق وغير مشروط لإسرائيل، وستدعم بناء المستوطنات الجديدة بكل الأشكال الممكنة والعلنية، كما أنها ستدعم الحكومات الإسرائيلية مهما ارتكبت من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حروب وإبادات جماعية، سواء ضد الفلسطينيين أو ضد العرب من جنسيات أخرى.
هذا بالإضافة إلى أن اليمين المتطرف ككل في أوروبا، ومن وجهة النظر المعادية للسامية بالذات، يرى في إنشاء إسرائيل مكسباً، إذ إن إسرائيل استضافت اليهود غير القادرين على الاندماج في المجتمعات الأوروبية بسبب الاختلافات الهوياتية والثقافية الحادّة، وبذلك لا يضطر هذا اليمين، في حال سيطرته في المستقبل على القارة الأوروبية، إلى إعادة التاريخ وممارسة الفصل العنصري بحق اليهود وفرض القيود على مشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية.
الاقتصاد والمهاجرين
على صعيد الاقتصاد، هناك 27.3 مليون مهاجر يعيشون بشكل قانوني في الاتحاد الأوروبي ويعملون في مختلف القطاعات الإنتاجية المختلفة، بخاصة تلك التي لا يفضّل الأوروبيون العمل فيها بسبب مستوى الأجور أو أخطار العمل.
وإذا غادر قسم كبير من المهاجرين الشرعيين في وقت قصير، لن يتمكن الأوروبيون من بناء المنازل، وتعبيد الطرقات، وصيانة البنى التحتية، وإدارة المنشآت الصحية، وجمع المحاصيل الزراعية. إن لطرد المهاجرين الشرعيين تداعيات اقتصادية وخيمة على دول الاتحاد الأوروبي، إذ سيتدهور الإنتاج وتتوقف العجلة الاقتصادية.
يشير موقع المفوضية الأوروبية إلى أن النقص في اليد العاملة والمهارات في أوروبا في ارتفاع متزايد في جميع دول الاتحاد الأوروبي، وأن 63 في المئة من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تعجز عن إيجاد اليد العاملة الماهرة التي تحتاج إليها، فيما هناك 42 مهنة تعاني من نقص في اليد العاملة.
انطلاقاً من هذا الواقع الاقتصادي، والحاجة الموضوعية الى اليد العاملة الأجنبية، قد لا تعمل أحزاب اليمين المتطرّف وتكتلاته على إقرار قوانين لمكافحة الهجرة الشرعية، لكنها بطبيعة الحال، ستتساهل بشكل كبير مع حصول انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم “فردية” من الأفراد والمجموعات القومية المتطرفة، إضافة إلى الضغط لشرعنة التمييز العنصري في أماكن العمل، وفي الأجور، وذلك بهدف طرد أكبر عدد ممكن من المهاجرين بشكل تدريجي، وجعل الهجرة واللجوء إلى أوروبا مسألة منفّرة.
وبما أن هذه الممارسات ليست غريبة عن الأحزاب الفاشية وقواعدها الجماهيرية في فترات تراجعها، فمن البديهي توقّع الأسوأ على هذا الصعيد في فترة التقدّم السياسي لتلك الأحزاب وتملّكها جزءاً من القرار الأوروبي.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن صعود اليمين المتطرّف في أوروبا سيشكّل تحدياً أمام الحكومات المضيفة للاجئين في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها الحكومة اللبنانية المفلسة والعاجزة، والتي تحاول أن تمارس ضغوطاً على كل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لتحمّل مسؤوليات أكبر في ملف اللاجئين السوريين، بالتزامن مع ممارسة انتهاكات بحق اللاجئين طاولت حتى ناشطين من المعارضة السورية ومنشقّين عن الجيش السوري، إذ احتجزتهم السلطات اللبنانية تعسفياً، وقامت بتعذيبهم وإعادتهم بشكل قسري إلى سوريا، وذلك بحسب تقرير لهيومن رايتس ووتش في 25 نيسان/ أبريل 2024. من المحتمل أن يضغط اليمين المتطرّف لقطع كل المساعدات المالية الأوروبية للحكومات المضيفة للاجئين، على رغم عدم كفايتها في المقام الأول.
في المحصلة، فإن تزايد نفوذ اليمين المتطرف في أوروبا لا يشكل خطراً داهماً بعد، بخاصة في ظل التوازنات الحالية في البرلمان الأوروبي. وسيبدأ الخطر بالزوال تدريجاً مع تراجع تلك الأحزاب عن بعض مواقفها ووعودها الأساسية بعد وصولها إلى السلطة، وذلك تحت رحمة اصطدامها بالواقع الموضوعي الذي لا يمكن تجاوزه بأساليب بهلوانية كما سبق وفعلت تيارات اليمين المتطرف الفاشية والنازية في القرن الماضي.
لكن في ظل تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية على مستوى القارة، وانعدام الاستقرار الأمني على مستوى العالم، فإن التوجهات الشعبوية، سواء كانت يمينية أم يسارية، القائمة على استثارة وتأجيج عاطفة الجماهير المحبطة من جهة، وعدم القدرة على تطبيق أية حلول عملية من جهة أخرى، ستكون هي السائدة لفترة معينة من الزمن، طالما أن لعبة “الديمقراطية البرجوازية” بشكلها الراهن لا تزال جارية. إلا إذا كان اليمين المتطرف يطمح، بالفعل، إلى الإطاحة بهذه الديمقراطية واستبدالها بأنظمة فاشية استبدادية، “مكرراً التاريخ على شكل مهزلة”!
- درج