انتهت الألعاب الأولمبية التي جرت في باريس 2024، فكانت حصيلة العرب من الميداليات – بوصفهم أمة- متواضعة جدا مقارنة بالأمم الأخرى، على الرغم من أن التعداد السكاني للدول العربية يبلغ أكثر من 450 مليون نسمة، كما أنهم يشغلون مساحة من الأرض تبلغ أكثر من 13 مليون متر مربع، وإذا ما تأملنا بعض البلدان العربية بصورة منفردة، فإن بعضها قد يصل تعداد سكانها إلى أكثر من 50 مليون نسمة، في حين أن بعضها يمتلك ثروات طائلة، ناهيك عن وجود إرث ثقافي وتاريخيّ عميق، بالإضافة إلى موقع جغرافي استراتيجي قد يكون الأكثر أهمية، بيد أن المفارقة تتمثل بأن العرب لا يسهمون – حقيقة – في النتاج الحضاري كما ينبغي أو يُؤمل، ولننظر في العجز العربي عن تحقيق أي تقدم في القضية الفلسطينية، بالتوازي مع عدم قدرتهم على إيقاف الإبادة الجماعية في غزة، لكن هل يمكن أن يكون هذا الاستنتاج ضرباً من جلد الذات؟ أم أنه حقيقي أو موضوعي؟
قد تبقى حالات التميز العربي فردية، إذ لا يمكن أن نعدها نتيجة وعي مؤسساتي على مستوى الدولة، فبعض الأسماء الأكثر حضوراً في العالم بوصفهم ينتمون إلى هذه الأمة يعدون نتاج بيئات غربية، أو أنهم نتيجة عبقرية فردية أو طفرة داخلية، استطاعت أن تحقق شيئاً من التميز في ثقافة تعاني من عدم القدرة على تكوين منتج حضاري متميز، وبهذا يجب أن نبحث ونتأمل العوامل التي تحول دون تحقيق إسهام بصورة حقيقية ومنتجة.
من أهم العوامل التي يمكن أن تندفع إلى الذهن بخصوص هذا التواضع الحضاري، يتصل بمقولة التداعيات الإمبريالية، أو «الرسيس الكولونيالي» مسبوقاً بمقولات استشراقية ترى أن الغرب يسعى دائما إلى تجاهل النتاج الحضاري العربي، والحد منه، فالمنظور الغربي للتراث العربي قد يبدو أكثر قيمة أو موضوعية من واقعهم المعاصر، فهل يمكن أن نعد هذا تجاهلاً للعبقرية العربية المعاصرة؟ أم هذا التجاهل للنتاج المعاصر يتحقق بداعي تواضع المنتج تبعاً لفشل السياقات الحضارية المحفّزة للتميز والإبداع عربياً، فالعرب بوصفهم أمة لم يتمكنوا من نيل سوى جائزة نوبل واحدة في الآداب – حصل عليها الأديب المصري نجيب محفوظ، ومثلها في العلوم، في حين لم يسهم العرب في تكوين مثقف عالمي سوى إدوارد سعيد.. أم أنه ينبغي ألا نسارع لهذه الاستنتاجات، فالواقع يشي بشيء من الواقعية في تقدير هذا النتاج، الذي لا يمكن أن نحدّ من قيمته أو تقديره، لكن هل يرقى إلى أن يكون حاضراً في الثقافات الأخرى؟ ولا يمكن أن نقول العالمية التي نالت جزءاً كبيرا من الطعن نتيجة المركزية الغربية التي تحتكر المعايير والأحكام ضمن تعريفها الخاص، أو منظورها، بيد أنّ القيمة تُناط بالتأثير الذي يجعل تقدير العمل الذي نقوم به يستحق أن يُلاحظ.
تبدو وقائع الأمور ضمن بعد جدلي، فالمرجعية الحضارية العربية تعاني من اختلال نتيجة جملة من الأسباب، التي تتصل بعدم تكوين ثقافة الإنتاج، أو معنى الإنجاز، فثمة ثقافة سائدة في الشارع العربي، كما الثقافة العربية، وسائر المستويات التي تنهض على محاكاة النموذج الذي يسم جميع جوانب ثقافتنا التي تشتغل بنمط محدد، فثمة محاكاة لتوليد الفساد، والمحسوبية السياسية التي تنعكس على النتاج الحضاري، كما أنّ مجتمعاتنا طاردة، أو محبطة للإنسان العربي، سواء أكان مثقفاً، أو رياضياً، أو عالماً، أو أي شيء آخر، وهذا يتحقق عبر نمط من الإقصاء من قبل منظومة فاسدة، ومن هنا، فلا جرم أن يكون هذا التراجع في مجمل الأنشطة الحضارية. لكن يبقى سؤال محوري ويتمثل بمقولة: هل من يمثل العرب هم حقيقة الأفضل في هذه الأمة؟ وإذا كانوا هم الأفضل فكيف يمكن أن نعجز عن منافسة العالم، وأن يكون نتاج أمة بهذا الحجم من الجوائز والتقديرات محدوداً جداً، ومن ذلك – على سبيل المثال – نموذج ذلك أولمبياد باريس، أم أن حقيقة من يمثلوننا هم الأفضل، لكنهم نتاج فعل لم يتمكن من إنتاج قدراتهم الحقيقية؟
ثمة ملحوظة أخرى تتصل بالتقدير المبالغ فيه للذات، والسكون إلى نموذج ماضوي يرتد سلبياً على هذه الذات، إذ تبقى عاجزة عن توليد الجديد، أضف إلى ما سبق عدم تمكين ثقافة المنافسة والإنجاز، كما ثمة نموذج غير صحي بعلاقة الإنسان مع وطنه، فبعض الرياضيين بمجرد وصولهم إلى الغرب يهرعون للتخلص من انتمائهم بغية الحصول على جنسية أخرى، وربما يحقق هذا الرياضي بعد ذلك الإنجازات في بلده الجديد؛ ما يعني بصورة أو بأخرى أننا في سياق عربي مشوّه، غير قادرة على استخراج أفضل ما في الإنسان العربي.
إن المعايير التي تستخدم في الرياضة قد تنفي المعنى عن مقولة المؤامرة، والمقولات الاستشراقية التي تصدر عن الغرب أو الآخر تجاه العرب، فالمنافسة تعمد إلى مقاييس ذات طابع تحكيمي لا يمكن تجاوزها، أو التشكيك بها، ومن ذلك الأرقام، أو الأهداف، وغير ذلك من معايير، ويمكن قياس ذلك على سائر المجالات، وبذلك ينفي الشّبهة الاستشراقية، ويؤكد معضلة الذات التي تفتقر إلى التنظيم والإدارة والإرادة والتدريب والانتماء الوطني، وبذلك فإن تواضع النتاج العربي قد يتصل بهذه الاختلالات التي تبدو مؤشراً على قطاعات كثيرة في العالم العربي، الذي يبدو ضعيفاً سياسياً، واقتصادياً، وعلمياً، وثقافياً.. وبذلك فإن ثمة حاجة إلى تأمل الأسباب والدوافع، ذلك أن نجاح الفرد في سياق ثقافي يعاني من إشكاليات غالباً، يعدّ خروجاً عن المألوف، وليس نتاجاً لطبيعة هذا السياق كما يشير عبد الله العروي، في حين أن الفيلسوف الألماني فيلهلم فون همبولت، يقدم تصوراً صادقاً في توصيف قدرات الأمم، حيث يشير إلى أن تقدم أمة ما يُقاس بمدى قدرتها على تنمية قدرات أفرادها وتحفيزهم على الإبداع والإنجاز.
يمكن إحالة ضعف الأداء إلى دور التعليم والتنشئة الاجتماعية، ولاسيّما في تشكيل قدرة الأفراد على الإنجاز، فالأنظمة التعليمية في العالم العربي، غالبا ما تركز على التلقين والحفظ ـ على الرغم من ادعاءات التطوير – دون أن تولي اهتماما كافيا لتنمية المهارات النقدية والإبداعية لدى الطلاب، في حين أن غياب هذا النوع من التعليم قد يعوق الأفراد عن تطوير قدرات متميزة في سائر المجالا، أو الأنشطة، فالتنشئة الاجتماعية في كثير من المجتمعات العربية تميل إلى تعزيز قيم الاستقرار، والامتثال بدلاً من التشجيع على المغامرة والمخاطرة، ما ينعكس على الأداء العام في شتى المجالات التي تتطلب الابتكار والتميز، في المقابل، نجد أن المجتمعات التي تولي اهتماما أكبر لتنمية مواهب الأطفال والشباب عبر التعليم المبتكر، والأنشطة اللامنهجية تخلق بيئة محفّزة قادرة على إنتاج أبطال رياضيين ومبدعين.
إن الفجوة في النظام التعليمي والتنشئة الاجتماعية لا يعني بالضرورة إحالته إلى الظروف الاقتصادية أو السياسية فحسب، بل يمتد أيضاً إلى الأسس التربوية التي يحتاج العالم العربي إلى إعادة النظر فيها بجدية، وبوجه خاص إذا أراد أن يصنع جيلاً قادرا على تحقيق إنجازات تليق في إمكاناته الكبيرة، فمجتمعاتنا تفتقر إلى القوة النيتشوية، التي تنظر إلى أهمية تكوين إنسان خارق، ومبدع، لكن هل ثمة خشية لدى بعض الدول أن يمتلك مواطنوها قدرات قد تشكل تهديداً على وجود السلطات التي تعتمد على محدودي التفكير والإبداع استجابة للاشتراطات التي تبيح بقاء السلطة، وبذلك نخلص إلى أن المشكلة ليست مجرد نتيجة عوامل خارجية أو سياسية، إنما هي – أيضاً – متجذرة في ثقافتنا التي تحتاج إلى الوعي والعمل والنقد.
كاتب أردني فلسطيني
- القدس العربي