في ضوء حركة النزوح العكسي من لبنان إلى سوريا، تزداد النقاشات حول مخاوف انعكاس ذلك على اقتصاد مناطق سيطرة النظام السوري، الهشّ. وعلى أوضاع قاطني تلك المناطق، المعيشية، المهترئة أساساً. وترتبط تلك المخاوف باحتمال أن تطول الحرب الإسرائيلية على لبنان، وأن تأخذ مسارات أكثر تعقيداً، بصورة تفاقم من حدّة أزمة النزوح باتجاه سوريا. ويمكن حصر هذه المخاوف في أربعة قطاعات أساسية. قطاع تأجير العقارات، وقطاع التهريب بين لبنان وسوريا، واحتمال انخفاض سعر صرف الليرة السورية جراء تقلص شريان الدولار الآتي من الأراضي اللبنانية، وأخيراً، ازدياد الطلب وانعكاساته التضخمية.
حتى ساعة كتابة هذه السطور، ما زال حجم حركة النزوح متواضع الأثر، من الناحية الاقتصادية. فالوافدون إلى سوريا، بعشرات الآلاف (نحو 23 ألف لبناني و65 ألف سوري). لكن اتساع نطاق الحرب الإسرائيلية على لبنان وازدياد حدتها، وطول أمدها، يجعل نحو 1.5 مليون سوري، وربما ما يعادلهم من اللبنانيين، في مرمى احتمالات النزوح، إلى سوريا.
وفي حال تحقق هذا الاحتمال، فإن قطاع تأجير العقارات في سوريا، سيكون أبرز المتأثرين المباشرين. وهو توجس بدأ يتشكل أساساً في أوساط السوريين، منذ بدء حركة النزوح، قبل نحو أسبوع. فالإيجارات في سوريا، رغم ارتفاعها بمعايير القدرة الشرائية للسوري، هي منخفضة بمعايير القدرة الشرائية للبناني. وهو عامل سيدعم عامل ازدياد الطلب ليخلق قفزة مرتقبة بأسعار الإيجارات، ستنعكس سلباً على السوريين المستأجرين لعقارات منذ سنوات. ويبدو أن الوسيلة المثلى للتخفيف من وطأة هكذا معضلة، هو قيام حكومة النظام بتقديم تسهيلات كبيرة لعمليات ترميم العقارات في ريف دمشق والقلمون، ورفع القيود الأمنية عنها، الأمر الذي يمكن أن يخلق عرضاً يقابل الطلب المتولد في هذا المجال.
الجانب الثاني الذي يغذي مخاوف السوريين، التجار منهم بالذات، هو ما يتعلق بالأضرار المحتملة على طرق التهريب بين سوريا ولبنان. وهي طرق تشكّل مصدراً رئيسياً لتغذية أسواق سوريا بسلع كثيرة، عبر وسطاء لبنانيين، تهرُّباً من العقوبات الغربية. والملفت، أن مسؤولاً رسمياً في جمعية حماية المستهلك، بمناطق سيطرة النظام، كان قد أرجع جانباً من أسباب ارتفاع أسعار المحروقات في السوق السوداء، إلى تضرر خط تهريب المحروقات الآتي من لبنان، الذي وصفه بأنه “توقف حالياً”. وهو أول انعكاس سلبي محقق ومباشر للحرب الدائرة في لبنان، على الاقتصاد السوري. لكن آراء أخرى تقلل من مدى تضرر خطوط التهريب بين البلدين. إذ يوجد أكثر من 100 معبر غير رسمي، يتم من خلالها تهريب بضائع تتراوح بين الأدوية والأغذية والمنظفات، وصولاً إلى الأجهزة الالكترونية وقطع غيار السيارات، من دون أن تتوقف عند المحروقات.
والحديث عن انشغال عناصر حزب الله بالحرب، وانعكاسه على طرق التهريب تلك، يبدو مبالغاً فيه، نظراً لكون المهرّبين من أبناء المناطق الحدودية، والذين يحظون بتزكية من الحزب على الضفة اللبنانية، وبتنسيق مع الفرقة الرابعة على الضفة السورية، ومن غير المتوقع أن يتوقف نشاط هؤلاء حتى لو تفاقمت الحرب وطال أمدها. بل هناك مؤشرات أن عمليات تهريب البشر عبر تلك المعابر غير الرسمية، ازدادت بسبب الحرب، جراء رغبة سوريين في دخول بلادهم بعيداً عن مراقبة النظام الأمنية، على أمل العودة قريباً إلى لبنان، عبر المعابر ذاتها، حالما تهدأ الأحوال. كما أن الدخول عبر المعابر غير الرسمية، يبدو أقل كلفة بالنسبة للسوريين، جراء إصرار النظام على تحميلهم عبء تصريف 100 دولار لكل فرد، رغم الظروف العسيرة التي ينزحون في ظلها.
ويبقى الضرر النوعي المحتمل انعكاسه على طرق التهريب، وعلى انسيابية السلع والبضائع الآتية عبرها إلى الأسواق السورية، يتوقف على احتمال مستبعد في الوقت الراهن. وهو أن يتسع مدى الحرب الإسرائيلية على لبنان ليشمل مرافق حيوية تخص الدولة اللبنانية. ونقصد هنا تحديداً المرافئ، التي تشكّل مصدر دخول السلع والبضائع إلى لبنان، ومنها إلى سوريا. ومن المستبعد أن تؤثر سياسة استهداف إسرائيل للمعابر العسكرية بين البلدين، على خطوط التهريب. لانفصال خطوط التهريب الخاصة بالسلع والبشر عن تلك العسكرية الخاصة. ونظراً للعدد الكبير للمعابر.
أما بالنسبة لتأثير الحرب والنزوح على سعر الصرف. فيبدو التأثير الأولي إيجابياً، حتى الآن. إذ أن النظام سارع لاستغلال الأزمة، بغية لمّ أكبر قدر ممكن من دولارات القادمين إلى سوريا، عبر تعميم مصرفه المركزي بتوجيه مكاتب متنقلة للمصارف وشركات الصرافة نحو المعابر الحدودية، لتصريف الدولارات، بسعر الصرف الرسمي. ويضطر الوافدون إلى سوريا لتصريف دولاراتهم، كي يتمكنوا من التعامل مع السوق المحلية السورية، التي يُجرَّم فيها التعامل بغير العملة المحلية. ويتنافس المركزي السوري مع صرّافي السوق السوداء اللذين تم تسجيل نشاطهم شبه العلني في المعابر الرسمية. وصَرُف هذه الدولارات يعزّز سعر صرف الليرة السورية. وازدياد حركة النزوح، يعني المزيد من صرف الدولارات لصالح الليرة السورية.
ومن الصعب أن نجزم بحجم القطع الأجنبي الذي سيُصرف إلى الليرة السورية في ضوء الظروف الراهنة. لكن، حتى ساعة إعداد هذه السطور، فإن حجم هذا القطع يوازي ما يمكن أن نقول إنه ضرر طال شبكات نقل الدولار من لبنان إلى سوريا، جراء الحرب. فسعر صرف الليرة السورية في دمشق، لم يتحرك قيد أُنملة، منذ بدء التصعيد في لبنان، حتى الساعة. لذا، فإن مخاوف التجار السوريين من عجزهم عن الحصول على “الدولار اللبناني”، تبدو غير مبررة، حتى اللحظة.
وتبقى الانعكاسات التضخمية لحركة النزوح، هي الأخطر. فمعادلة القدرة الشرائية المتواضعة للسوريين مقابل العرض المتواضع من المُنتِجين، كانت قادرة على لجم قفزات الأسعار جزئياً. فإن اختلت تلك المعادلة مع دخول قدرة شرائية أعلى، وطلب إضافي غير مُعتاد، مقابل ثبات العرض، تكون النتيجة تضخماً متسارعاً، بالتأكيد. ولا يمكن ضبط طرفي هذه المعادلة في مدى زمني قصير، إن تحوّل النزوح إلى حالة مديدة، كما حصل في حالة النزوح السوري إلى لبنان، بعيد العام 2011. لكن في حال كان أمد الحرب قصيراً، فإن الضغوط التضخمية المتولدة ستزول بزوال أسبابها.
وفي مجمل المخاوف الاقتصادية جراء الحرب في لبنان، يأتي اللاجئون السوريون هناك، في مقدمة المتضررين. إذ أن 90% منهم يندرج في خانة “الفقر المدقع”، وفق أرقام أممية. ومع المعلومات المتواترة عن تمييز حيالهم في عمليات الإيواء داخل الأراضي اللبنانية، وإجراءات النظام التمييزية ضدهم مقارنة بأقرانهم من اللبنانيين على الحدود، عبر “التفييش الأمني”، وفرض تصريف الـ100 دولار، تتفاقم جوانب ضعفهم. الأمر الذي يوجب تكثيف الضغوط الدولية على مختلف الأطراف الرسمية اللبنانية والسورية، للحد من التعامل التمييزي حيالهم. ورفع القيود الأمنية والمالية على حركة نزوحهم نحو بلدهم الأم.
- المدن