حديثاً، تزداد المؤشّرات إلى نيّة النظام استغلال انشغال وسائل الإعلام بالحرب عن السويداء، لزيادة الضغط والتضييق على سكان المحافظة ومحاصرة حراكها السلمي بهدف وأده. ويُستدلُّ على ذلك من السياسة الجديدة التي يتبعها النظام في المحافظة، والتي تتخذ مناحيَ عدّة، تبدأ من “الحجز الاحتياطي” على أموال المواطنين لأسباب سياسية، ولا تنتهي عند حدود الاعتقالات التعسّفية لعدد من الشبّان على خلفية آرائهم السياسية التي شاركوها على وسائل التواصل الاجتماعي.
“يلا عالساحة هبّوا… نداء الكرامة لبّوا… بالعتمة لا تتخبوا… طلعت شمس الحرية… سوريا بدا حريّة”… هتافات لا يزال صداها يدوّي في ساحة الكرامة (السير سابقاً) وسط مدينة السويداء (جنوب سوريا) منذ آب/ أغسطس العام الماضي، ليعكس إصرار الآلاف من ناشطي الحراك السلمي المناهض للنظام السوري وإصرارهم.
ربّما يبدو حراك السويداء حراكاً قليل الحظّ أو سيئ الطالع، إذ يرزح منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تحت وطأة الإهمال والتهميش الذي فرضته التغطية الإعلامية المكثّفة لتبعات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان.
وحديثاً، تزداد المؤشّرات إلى نيّة النظام استغلال انشغال وسائل الإعلام بالحرب عن السويداء، لزيادة الضغط والتضييق على سكان المحافظة ومحاصرة حراكها السلمي بهدف وأده.
ويُستدلُّ على ذلك من السياسة الجديدة التي يتبعها النظام في المحافظة، والتي تتخذ مناحيَ عدّة، تبدأ من “الحجز الاحتياطي” على أموال المواطنين لأسباب سياسية، ولا تنتهي عند حدود الاعتقالات التعسّفية لعدد من الشبّان على خلفية آرائهم السياسية التي شاركوها على وسائل التواصل الاجتماعي.
عقاب جماعي
ويعتبر قرار الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لـ15 شخصاً من أبناء قرية القريا (شمال السويداء)، بمثابة خطوة صريحة في سياسة التضييق الجديدة التي ينتهجها النظام مع السكان وأبناء الحراك في المدينة.
إذ كشفت شبكة أخبار السويداء 24 المحلية، في 3 تشرين الأول الحالي، عن نسخة مسرّبة من القرار الصادر عن وزير المالية في حكومة النظام بالاستناد إلى كتاب صادر عن إدارة المخابرات العامة فرع 285، والتي تضمّنت قائمة بأسماء الناشطين الذين شملهم القرار ومعلوماتهم الشخصية، والذين أسندتْ لهم تهمة “التورّط بالأحداث الأخيرة التي يشهدها القطر حالياً” كما جاء في النصّ.
وقابل أبناء المجتمع المحلي القرار بموجة من الغضب والاستنكار، التي عبّر عنها عدد من أعضاء اللجنة السياسية الممثّلة لحراك السويداء في اجتماعهم مع نشطاء من بلدة القريا، وذلك قبل توجّه الجمع للمشاركة في الوقفة الاحتجاجية التي نظمها أبناء القرية رفضاً للقرار في صبيحة اليوم التالي على صدوره.
فيما اعتبر عدد من ناشطي الحراك وأعضاء اللجنة القرار انتهاكاً صريحاً “لحقوقهم المدنية المشروعة” على خلفية آرائهم السياسية المفترض أنها مكفولة دستورياً.
وقال السيّد “محمد عوّاد”، أحد الناشطين الذين شملهم القرار، في وصف القائمين على القرار، إنهم “عصابة تحارب الناس بلقمة عيشها”، وأضاف أنه لن يستبعد أن تصدر عنهم أفعالاً من هذا القبيل، “فمن ضرب أبناء بلده بالكيماوي… لا بدّ وأن لديه الجاهزية لأفعال شبيهة، ونحن على يقين بأن كل القرارت هدفها الضغط، ونقف مع كل سوري وكل حر شريف” على حد تعبيره، مختتماً حديثه بالقول: “ثورتنا سلمية… ومستمرون… واللي بدن يعملوه يعملوه”.
في سياق متصل، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً في تموز/ يوليو الماضي، كشفت فيه أن 817 مدنياً من بلدة زاكية في محافظة ريف دمشق أصدر النظام السوري ضدهم قرارات جماعية بالحجز الاحتياطي على أموالهم منذ مطلع 2024.
وسبق أن أصدر مجلس الشعب في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر العام الماضي، القانون رقم 26 القاضي باستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة وإدارتها وبيعها والمصادرة من المواطنين بموجب حكم قضائي، ومنح عملية الاستثمار تلك لوزارة المالية، أما إدارة العقارات خارج التنظيم فتعود لوزارة الزراعة.
اعتقالات بالجملة
في مطلع الشهر الحالي، و في واقعتين منفصلتين، أقدمت سلطات النظام السوري على اعتقال أربعة شبّان من أبناء السويداء الفارّين من لبنان في أعقاب العدوان الإسرائيلي عليه.
إذ اعتُقل ثلاثة شبّان من بلدة الكفر (ريف السويداء)، قبل نحو أسبوعين، عند حاجز المخابرات العسكرية في منطقة الجديدة بريف دمشق لتخلّفهم عن الخدمة الإلزامية، وبعد ذلك بأيام اعتُقل شاب ينحدر من ريف السويداء الشمالي وهو عائد من لبنان على خلفية آرائه السياسية المناهضة للنظام، ولم يتمكن ذووه من معرفة مكان احتجازه.
وتأتي هذه الاعتقالات على الرغم من صدور مرسوم عفو رئاسي، في أيلول/ سبتمبر الماضي، أُعطيَت بموجبه مهلة “للفارّين خارجياً من المطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية” بتسوية أوضاعهم خلال 4 أشهر.
وفي سياق متصل، أقدمَ جهاز المخابرات الجوية على اعتقال 7 أشخاص من مبنى المستشفى الوطني في السويداء في السادس من تشرين الأول الحالي، كان من بينهم يافعاً في الـ17 من عمره.
وأكد ذوو المعتقلين وشهود عيان من المستشفى لوسائل إعلام محلية، عشوائية الاعتقالات التي طاولت الشبّان السبعة، مشيرين إلى أن العناصر كانوا يتحرّون في البداية عن شخص بعينه، ثم ما لبثوا أن اعتقلوا 7 أشخاص لا يعرف أحدهم الآخر.
ويشير ارتفاع معدّل الاعتقالات في السويداء منذ مطلع الشهر الحالي، إلى تغيير سياسة المُهادنة التي كان النظام يقارب من خلالها ملف المحافظة الجنوبية الثائرة.
تعثّر صفقات المبادلة
بالإضافة إلى مؤشّر ارتفاع معدّل الاعتقالات في صفوف ناشطي الحراك وأبناء المحافظة، يبرز مؤشّر تغيير النظام طريقة تعاطيه في قضايا مبادلة المحتجزين، كدليل مضاف على تخلّي النظام عن سياسته التفاوضية مع الحراك، وانتهاجه سياسة مغايرة تقوم على المواجهة والضغط والتضييق بدلاً من التفاوض، في محاولة لطيّ صفحة هذا “التمرّد”.
فبخلاف ما أبداه النظام على مدار العام الماضي؛ من مرونة في مبادلة محتجزيه من الجيش عند فصائل السويداء بمعتقلين من المحافظة في سجونه، لا يبدو أنه يلقي بالاً اليوم لاستعادة ضباطه المحتجزين منذ ثلاثة أشهر لدى الفصائل المحلية في المحافظة.
إذ احتجز فصيل “تجمّع أحرار جبل العرب” كلاً من الرائد في جيش النظام علي السليمان، والملازم أوّل حسن الخضور، والرقيب عبد الرحمن اليونس، والمساعد ماجد محفوظ في تموز/ يوليو الماضي، وذلك ردّاً على اعتقال قوّات النظام الشيخ بهاء الشاعر والشاب مرهف الحناني، وعلى رغم مضي 3 أشهر على احتجاز الفصيل العسكريين إلا أنّه لم يتمكّن حتى الآن من التوصّل إلى صفقة مبادلة مع النظام.
ويعدّ تعثّر صفقة المبادلة بين العسكريين لدى الفصائل، والشيخ بهاء والشاب مرهف لدى النظام، سابقة في سجل عمليات التبادل بين الطرفين، إذ تمكّنت الفصائل، منذ بداية الحراك السلمي في المحافظة، من مبادلة جميع محتجزي النظام لديها مقابل الإفراج عن معتقليها لديه.
فوضى و اضطرابات
يبرز الفصل الجماعي للموظفين من المؤسسات الحكومية أداة مضافة من أدوات سياسة التضييق التي يتبعها النظام مع سكان المحافظة؛ فأصدر في أيلول/ سبتمبر الماضي، قراراً يقضي بفصل 41 موظفاً من مؤسسة الكهرباء في السويداء على خلفية تخلّفهم عن الخدمة الاحتياطية في جيشه.
وقال أحد الموظّفين الذين شملهم القرار لوسائل إعلام محلية، إن القرار قد يتسبّب في شلّ قدرة الشركة على أداء عملها؛ لا سيّما وأنها تعاني أساساً من نقص في الكوادر.
يحصل ذلك كله في ظلّ انفلات أمني غير مسبوق تشهده المحافظة منذ سنوات على خلفية تخلّي الجهات الأمنية عن دورها في ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار، ويتجلى الاضطراب في المحافظة بصور عدة، منها شحّ مخصصاتها من المحروقات واستبعاد الأهالي من الدعم الحكومي فضلاً عن ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة الأتاوات بنسبة تفوق الـ400 في المئة لحواجز النظام الموزّعة على مداخل المحافظة.
في ظل كل هذا التضييق، يبرز سؤال أساسي، هل سيعود نظام الأسد لتجنيد عصابات محلية مجدداً في المحافظة؟ بهدف زيادة الضغط على الأهالي، والتي كان آخرها عصابة “راجي فلحوط”، وهو زعيم عصابة محلية ضبطته الفصائل المحلية وفي حوزته بطاقة أمنية، كنموذج فاضح عن سياسة النظام في تجنيد شبان السويداء في الأمن والسماح لهم بتشيكل عصابات تمارس كل أنواع الانتهاكات بحق المدنيين في المحافظة من خطف وسرقة وسلب وتعدٍّ بالضرب.
في الوقت ذاته، تشهد تجارة المخدرات وتعاطيها في المحافظة “ازدهاراً” غير مسبوق، مع تحوّلها إلى جسر هروب من الواقع للكثير من الشبّان الذين ضاقت بهم الأحوال ذرعاً في مكان تندر فيه فرص العمل والاستقرار، إذ تحتل السويداء اليوم موقعاً “متميزاً” على خط تهريب المخدرات جنوباً إلى الأردن، ومنها إلى دول الخليج.
وهو ما دفع الجيش الأردني، مطلع العام، إلى تنفيذ غارة على منزلين في السويداء يعودان الى شخصين يُعتقد أنهما يعملان في تجارة المخدرات، وأدت إلى مقتل 10 أشخاص، بينهم أطفال ونساء.
حراك مستمرّ
ولا يجانبنا الصواب إن قلنا إن الحراك السلمي الذي يشهد عامه الثاني، لم ينطلق لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية فحسب، ولكن أيضاً لأسباب تتعلّق بالفلتان الأمني ومظاهره المستشرية في كلّ شبر من المحافظة.
وهذا الأمر جعل الحراك يتجه نحو تنظيم صفوفه بإيعاز من القيادات الدينية في المحافظة، عن طريق هيئة عامة مكونة من ممثلي نقاط الحراك، تمخضت عنها لجنة سياسية تتألف من 11 عضواً منتخباً، لتتنامى النشاطات السياسية وينتقل العمل من الشعبي إلى المؤسساتي.
وتزامناً مع حركة النزوح الأخيرة، أصدرت اللجنة السياسيّة بياناً مفاده الترحيب بالوافدين، وإظهار الاستعداد لاستقبال “جميع الحالات الإنسانية من المدنيين والنساء والأطفال”، مؤكدين وحدة مصير شعوب المنطقة.
وأكدت اللجنة رفضها التام لنفوذ عناصر حزب الله في المنطقة، كما أردفت: “لا نقبل بقدوم هذه العناصر التي يستعد النظام لجلبها تحت عنوان النزوح، وهي الملاحقة دولياً بتهمة الإرهاب، ولن تنال المحافظة من قدومهم إلا تحويلها إلى ساحة لتصفية الحسابات، ما يهدد حياة المدنيين وأمنهم وما تبقى لديهم من أسباب الحياة”، بينما لم تسجل السويداء أعداد نازحين لبنانيين تُذكر حتى اللحظة، ولكن الكثير من أبناء المحافظة عادوا إليها إثر الحرب الدائرة التي أعدمت فرصهم بتحصيل لقمة العيش.
ويبقى المشهد الوحيد الذي تصدّره المحافظة الى العالم اليوم؛ هو استمرار حراكهم السلمي في ساحات الكرامة التي تجمع شرائح المجتمع كافة في حلقات واسعة يحطّم هدير أصواتهم أسطورة طاغية انتهى زمانها.
- درج