مراجعة: عماد الشدياق
على الرغم من التطورات الايجابية التي أصابت العلاقة بين سوريا وتركيا في العقد الأخير من القرن الماضي وحتى اليوم، الا ان البلدين لم يتحررا بعد من الصور والمدارك النمطية السابقة التي كانت سائدة بينهما، بحيث ان التقارب الحالي لم يوصلهما، على ما تستنتج الدراسة، الى مرحلة "جدول الأعمال المشترك" القابل للاستمرار. ولهذا يعتبر الدكتور محفوظ ان استشراف العلاقة بين الدولتين أشبه بالعمل المحفوف بالمخاطر وبمثابة تأمل استباقي للمستقبل، لأسباب تتعلق بآليات صنع القرار السياسي الخارجي لدى الطرفين، التي تتم وفق أسس غير واضحة ومستعصية التحديد.
يتناول الكاتب ملف العلاقات السورية التركية من خلال الكشف عن عوامل التجاذب والتنافر بين الطرفين وفي ضوء التفاعلات البينية للدولتين. فيشير الى مقتضيات البحث الذي يتداخل أكاديمياً وسياسياً، مضيئاً في هذا المجال على خلفيتهما التاريخية وعلى سياستهما الخارجية، بالاضافة الى البيئات الاقليمية والدولية وكذلك بيئتهما البينية، ويختم دراسته باستشراف احتمالات المستقبل.
ويصب تركيزه على الاهتمامات التركية السورية في الشؤون الاقليمية والدولية من دائرتي نشاط رئيسيتين هما: المنطقة العربية وما يربطها بالصراع العربي الاسرائيلي، والعلاقة بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية (أو الغرب بعامة)، منتهجاً لذلك منهجاً متعدداً (مركباً) يهدف الى تغطية كافة مفردات الدراسة بمجالاتها الزمنية والتفاعلية الواسعة، مستعيناً بمداخل منهجية فرعية وسيطة كالجغرافيا السياسية والقومية والقوة، والاعتماد المتبادل والدراسات الاستشراقية المستقبلية…
تاريخياً، تأسس التوتر في العلاقات بين الأتراك والسوريين على مسار طويل ومتراكم من السياسات العدائية التي بُنيت بدورها على عدد كبير من عوامل التنافر، كالذاكرة التاريخية والنزاع على الجغرافيا والمياه بالاضافة الى ملف الأكراد… لكن العلاقة بين البلدين لم تصل الى حدود الأعمال العسكرية التي تستأهل الذكر.
وكانت المرحلة السلجوقية بداية لتعرّف السوريين على الأتراك بفعل الاحتلال الذي استمر تحت تسميات مختلفة، سلجوقي، مملوكي، وعثماني… وصولاً الى مرحلة الحرب العالمية الأولى، فالسياسات الكولونيالية الفرنسية التي فرضت ترسيم حدود المنطقة ككل.
بين الأعوام 1920 و1939 بدأت مراحل السلخ التدريجي للأراضي السورية التي ضمت الحزام الشمالي. وخلال مرحلة الحرب الباردة التي جعلت من الحدود بين البلدين "خط التماس" للمعسكرين المتقابلين، تأثرت العلاقة التركية السورية عقب سلخ لواء اسكندرونة من الأخيرة، شاركت تركيا القوى الدولية في صراعها على الشرق الأوسط، اذ اعترفت بإسرائيل (1949) وانضمت الى حلف الشمال الأطلسي (1952) ودعت الى حلف بغداد وحشد قواتها على الحدود السورية (1955). إلا ان العام 1998 شكل نقطة تحول للعلاقة بين سوريا وتركيا، بالاشارة الى اتفاق "أضنة"، الذي أدخل البلدين ضمناً في حوار استراتيجي مهّد الى جميع الاتفاقات الحالية بينهما (اقتصادية، اعلامية، ثقافية، تعليمية، وسياحية).
أما في خضم البحث عن آليات "صنع القرار" الخارجي في الدولتين، يلاحظ الكاتب ان سوريا تتبع سياسة خارجية نشطة، لها أولوية على السياسة الداخلية، من باب أهمية التفاعلات الخارجية وقدرتها على حفظ الاستقرار الداخلي وتحقيق الأهداف الاستراتيجية العامة. وعليه يعتبر ان صانع القرار السوري يقف دائماً عند "مفترق طرق" ويراهن على عنصر الوقت والصمود، بالاضافة على تعويله الدائم على الذاكرة التاريخية.
بالمقابل تتسم السياسة التركية بالصورة والأحكام النمطية، وهي رهينة مجموعة من المحددات مثل العلاقات المدنية العسكرية، الدور العسكري في السياسة، بالاضافة الى التحولات (الملحوظ بعد وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة) في الثقافة السياسية للتكوينات الاجتماعية وللطبقة السياسية التركية، الميّالة نحو الشرق الأوسط، بعد ان كانت كارهةً له وطامعةً في آسيا الوسطى وتجتمع مع الغرب تحت لواء حلف استراتيجي (وما زالت لكن بتبعية أقل).
فيشير بهذا الصدد الى التغيرات (نهاية الحرب الباردة) التي أكسبت تركيا فرصة لإعادة تشكيل نفوذها السياسي الجديد في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز من خلال الجنوح نحو "فك الارتباط" جزئياً مع الغرب (بداية لما اتفق على تسميته صحافياً العثمانية الجديدة).
في حين ان السوريين افترضوا ان تفكيك "تابو" الحدود السياسية قد يسهم في خلق جو اندماجي عابر للقطر المحلي، الأمر الذي أفسح بالمجال لتقارب الرؤى بين الطرفين على اعتبارهما من الدول النامية التي تسعى الى تحقيق مكانة سياسية تستجيب لتحديات العولمة الاقتصادية.
ويستخلص في ختام دراسته ان العلاقة بين البلدين تتميز بطابع بريغوجيني (نسبة للعالم البلجيكي Prigogine) لكونها تتم في جو من عدم التواصل والتعارف المباشر بالقدر المطلوب، وفي ظل بيئة اقليمية مخترقة وهشة، مشدداً لإثبات ذلك على "صعوبة الرؤية" للشؤون المتبادلة والقضايا المشتركة بين البلدين على الرغم من التفاصيل والتعليقات اليومية والكتب العامة المنجزة سريعاً، من تلك التي تجعل القارئ يظن انه يفهم ما يدور بين الجارين بمجرد الاطلاع عليها.
[ الكتاب: سوريا وتركيا، الواقع الراهن واحتمالات المستقبل
[ الكاتب: د. عقيل سعيد محفوظ
[ الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية 2009
"المستقبل"