كان واضحاً بشكل لا لبس فيه أن الوزير تبنّى خطاباً دينياً إسلامياً، متجاوزاً بذلك فكرة الخطاب التربوي المتوازن. فقد بدا جلياً طموحه في صياغة منهاج يتوافق مع تعاليم الإسلام، لا مع قيم المواطنة ومبادئ التربية الشاملة.
منذ وصول حكومة أحمد الشرع (الجولاني)، تصاعدت المخاوف من فرض الحكومة المؤقتة فكرها الإسلامي على الحياة السورية، وهو ما لم تتأخر فيه. لكن الغريب أنها حاولت التلاعب وإقناع السوريين بأنها تراجعت عن قرار تغيير المناهج، الذي أثار موجة غضب واسعة، بينما الحقيقة تقول إنها لم تتراجع، وفي ما يبدو أنها لن تتراجع.
التلاعب على المصطلحات
بعد جدل حول تغيير المناهج بحذف معلومات علمية وصور لشخصيات تاريخية وأخرى لتماثيل، نفى وزير التربية نذير القادري ذلك، مدعياً أن التعديلات اقتصرت على مادة التربية الإسلامية. لكن تصريحاته الأخيرة على قناة “العربية” أكدت حدوث التعديلات، ما يثير تساؤلات حول استمرار الحكومة المؤقتة في خداع السوريين بتصريحات متناقضة.
خلال المقابلة، بدا واضحاً تلاعب الوزير القادري بالكلمات، إذ صرّح: “ما قمنا به هو تعديل طفيف وليس تغييراً جذرياً للمناهج”، لكنه تجنّب وصف “حذف الفقرات أو المعلومات أو الصور” كجزء من التعديلات، معتبراً إياها تغييراً “يخدم ثورتنا” على حد تعبيره. وبرغم ذلك، لم يوضح من المقصود بـ”ثورتنا”، وهل يشمل ذلك جميع أطياف السوريين وأهدافهم المختلفة؟!
على رغم البيان الذي نفى أي تغييرات في المنهاج، أقر الوزير بحذف فقرات من المواد العلمية، قائلاً: “لم تُعدّل المواد العلمية، إنما حُذفت منها نظريات ثبت بطلانها”، من بينها “نظرية التطور”، إذ استند في قرار الحذف إلى وجهة نظر دينية وليست علمية. وتحدث الوزير بثقة عن “بطلان” هذه النظريات، من دون توضيح الأسس أو المعايير التي ارتكز عليها هو ولجنته في اتخاذ هذا القرار.
كان واضحاً بشكل لا لبس فيه أن الوزير تبنّى خطاباً دينياً إسلامياً، متجاوزاً بذلك فكرة الخطاب التربوي المتوازن. فقد بدا جلياً طموحه في صياغة منهاج يتوافق مع تعاليم الإسلام، لا مع قيم المواطنة ومبادئ التربية الشاملة.
هل فهم الحكومة المؤقتة للحرية محدود؟
أما عن حذف الصور والتماثيل، فقال القادري: “حتى لو حُذفت، ما المشكلة في ذلك؟ أين المشكلة طالما أن المعلومة لم تُحذف؟ ما المشكلة في حذف الصورة! هل حذف صورة يمنع حرية أحد؟”.
تعكس إجابة القادري فهماً محدوداً للحرية، إذ يختصرها بتصرفات الأفراد وسلوكهم، متجاهلاً أن الحرية تشمل أيضاً الحق في المعرفة والوصول إلى المعلومات من دون قيود أو حجب. فمن وجهة نظره، لا يعتبر حذف الصور أو بعض المواد العلمية اعتداءً على حرية الأفراد، وكأن المعرفة بحد ذاتها ليست حقاً أساسياً يجب أن يُصان.
هذا التصور يتغاضى عن حقيقة أن الحرية ليست مجرد مجال شخصي ضيق يتعلق بتصرفات الأفراد، بل هي فضاء أوسع يشمل حرية التفكير والتعلم والتعرف على مختلف الأفكار والنظريات، حتى تلك التي قد لا تتفق مع رؤية أو أيديولوجيا معينة. فحين تُزال الصور أو تُحذف المعلومات بحجة التوافق مع معايير دينية أو اجتماعية محددة، يُفتح الباب لتضييق آفاق الأفراد وحصرهم في إطار فكري ضيق، لا يسمح لهم برؤية الصورة الكاملة أو بناء آرائهم بشكل مستقل.
ويبقى السؤال: هل يجهل القادري أن المعرفة هي جزء لا يتجزأ من الحرية؟ أم أن هذا التجاهل متعمد لخدمة أهداف معينة، تتعارض مع حق الأفراد في الاطلاع على مختلف زوايا الحقيقة؟
تكشف هذه التصريحات عن الهوة العميقة في فهم الحرية لدى الفئات المتشددة، ممن يعتقدون؛ ربما “بحسن نية”، أن غياب صورة لن يؤثر على حرية الأفراد. وهذا بحد ذاته يشكل كارثة أخرى، إذ يعكس اعتمادهم على رؤية ضيقة ومحدودة للمعرفة، رغم أنهم يشغلون مناصب تُعنى بالتعليم ونقل المعارف. فبدلاً من الانفتاح على مختلف زوايا الفكر والعلوم، يفضلون الاكتفاء بفهمهم المحدود، متجاهلين أن دورهم يتطلب تمكين الأفراد من الوصول إلى المعلومات بحرية ومن دون قيود.
“النظام السوري كان أكثر ظلماً من الاحتلال العثماني”!
من جهة أخرى، أكد الوزير استبدال مصطلح “الاحتلال العثماني” بـ “الفتح العثماني”، مشيراً إلى أن “النظام السوري كان أكثر ظلماً من كثير من الأنظمة”، وقال: “هل كان الاحتلال العثماني ظلماً أم فتحاً؟”، من الغريب فعلاً أن يقارن وزير في حكومة انتقالية بين ظلم نظام وآخر ليبرئ أحدهما، أليس من الواجب أن يعترف بأخطاء كلَي الجانبين من دون تفضيل ظلم على آخر؟
برأي الوزير، لا مقارنة بين ظلم الحكم العثماني ونظام الأسد، متجاهلاً تاريخ الجرائم بحق السوريين، مثل المجازر المارونية – الدرزية تحت إشراف الدولة العثمانية، وفرض الضرائب الباهظة والظلم الاقتصادي. كما استخدمت السلطات العثمانية القمع ضد أي معارضة، ونفذت إعدامات علنية لترهيب السكان، كإعدام العشرات من المثقفين والقادة السوريين في ساحتي المرجة في دمشق والبرج في بيروت عام 1916، والمعروفة باسم “شهداء السادس من أيار”، بالإضافة إلى قمع الحريات الثقافية والتعليمية وغيرها من الإجراءات التعسفية.
وبالانتقال إلى الجزء الأهم وهو القانون، قال الوزير إنهم حذفوا كلمة “قانون”، متسائلاً: “هل هناك فرق بين الشرع والقانون؟”، متجاهلاً أن بعض تطبيقات الشريعة قد تتناقض مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، كحقوق النساء والأقليات، كما أن ذلك قد يؤدي إلى التضييق على حرية الفكر، كما حدث عند حذف مواد علمية لا تتوافق مع الدين الإسلامي.
في النتيجة، تعكس تفسيرات نذير القادري رؤية الحكومة بشكل عام، ولا ينبغي النظر إليها بشكل منفصل. لكن الأخطر في ذلك كله، هو التلاعب بالتصريحات والإيحاء بأنه تم التراجع عن قرارات تم اتخاذها، فيما يبقى الوضع كما هو على أرض الواقع. وهذا يمثل استهتاراً بعقول السوريين أولاً، ويؤكد أن توجه الحكومة المؤقتة يميل إلى التشدد.
- درج