لا يخفى على عاقل أن إيران وميليشياتها وحرسها الثوري قد شعرت وخاصة في السنوات الأولى من عمر الثورة، بخطورة المشهد العسكري الميداني في سوريا، فأوفدت في حزيران 2015 قائد فيلق القدس المجرم قاسم سليماني إلى روسيا، حاملاً في جعبته هدفاً استراتيجياً واحداً وهو طلب مساعدة الروس الفورية للتدخل العسكري بقضهم وقضيضهم في سوريا.
وفور وصوله إلى موسكو، وضع سليماني أمام قيادات الكرملين العسكرية والسياسية، خريطة العمليات السورية وتوزع السيطرة الميدانية للأطراف فيها، حيث لم تستطع تلك القيادات إخفاء ارتباكها واستقرائها لصعوبة المواقف وبدء مراحل تعقد الحسابات السياسية والعسكرية القادمة في المنطقة، نتيجة الشعور بأن الأوضاع على الأراضي السورية باتت كل يوم في انحدار أكبر وأشد على الحكومة السورية، وأنّ “الأسد” الفار لا شك أنه أضحى في خطر حقيقي داهم ينذر بقرب انتهاء حكمه، خاصة بعد خسارة قواته المسلّحة وخلال فترات وجيزة أكثر من 70% من الأراضي والمناطق لصالح الثوار، الذين بدورهم وصلوا الى قلب العاصمة دمشق بل وأصبحوا على بعد كيلومترات قليلة من قصوره الرئاسية.
وقوف روسي إلى جانب مجرم حرب
لا شك أن روسيا ومنذ تدخلها في سوريا، نهاية أيلول 2015، كان لها هدف معلن أرادت تسويقه منذ بدايات وجودها وهو أنها أتت بطلب من شرعية “الأسد” المجرم وذلك لمحاربة الإرهاب الدولي المتمثل بتنظيمي داعش والقاعدة والجماعات الجهادية والسلفية الأخرى، لكن حقيقة الأمر وما بات يعرفه القاصي والداني أن الدب الروسي ما تدخّل في بلادنا إلا للوقوف إلى جانب نظام المخلوع المجرم بشار الأسد، وإيران وحزب الله وعشرات الميليشيات الطائفية العابرة للحدود، للقضاء على الثورة والعمل بكل الطرق والأساليب اللاإنسانية على استعادة كل الأراضي التي سيطرت عليها الفصائل، وإعادة تعويم الأسد ونظامه الدموي القاتل.
درّبت موسكو قواتها في ظروف قتالية حقيقية مع تجريب واختبار أحدث أنواع الأسلحة والعتاد الحربي والترسانات المتقدمة على أجساد السوريين وأملاكهم في كل المدن والبلدات، وارتكبت مئات المجازر الدموية بحق الشعب السوري ودمّرت مدنه وبلداته وسوّتها بالأرض..
بالإضافة إلى تعزيز الوجود الروسي الجيوستراتيجي على شواطئ المتوسط من خلال شبه الاستملاك الذي منحه “الأسد” لقاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية لفترات طويلة من الأمد، ولا شك أن هاتين القاعدتين هما الأهم والأكثر اهتماماً من بين كل القواعد التي أسستها موسكو في سوريا والمنطقة خلال العقود الماضية، نظرا لما أسهمتا وستسهمان به من تسهيل كبير للنشاط العسكري الاستراتيجي الروسي في سوريا والإقليم وشمال أفريقيا.
وعملياَ ومن أجل تحقيق هذه الأهداف مجتمعة، كما صرح كبار مسؤولي الكرملين، درّبت موسكو قواتها في ظروف قتالية حقيقية مع تجريب واختبار أحدث أنواع الأسلحة والعتاد الحربي والترسانات المتقدمة على أجساد السوريين وأملاكهم في كل المدن والبلدات، وارتكبت مئات المجازر الدموية بحق الشعب السوري ودمّرت مدنه وبلداته وسوّتها بالأرض، وإجبار الملايين منهم على النزوح واللجوء القسري داخل وخارج سوريا.
تاريخ روسي أسود
لا شك أن للدب الروسي، خلال 14 عاماً مضت، تاريخاً أسود دموياً حافلاً بالإجرام، إجراماً ترك جرحاً غائراً بل وحفر ندبة في قلوب السوريين لا يمكن للأيام والسنوات أن تزيلها أو تمحوها بسهولة، ولا شك أن روسيا، بسلوكها العدائي هذا وبما فعلته وارتكبته من جرائم بشعة، باتت تعي وتدرك ذلك جيداً.
وبالتالي، يمكنها حتماً توقع القادم غير المريح بشأن علاقاتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية المقبلة مع الإدارة السورية الجديدة التي استلمت زمام ومقاليد الأمور في العاصمة دمشق.
ولم يكن مفاجئاً، بعد سقوط نظام بشار الأسد البائد، أن تتوجه الأنظار فوراً إلى المصالح والقواعد الروسية الأساسية في سوريا (طرطوس وحميميم)، وما هو مصيرها المستقبلي، لا سيما بعد أن بدأت موسكو بسحب قواتها والكثير من التجهيزات والعتاد والعناصر من النقاط والقواعد العسكرية المنتشرة فيها، اعتباراً من جنوبي البلاد إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها، وتجميعها في قاعدة حميميم استعداداً لنقلها المتتابع إلى موسكو، أو لإعادة نشر قطعها ومدمراتها البحرية في مدينة طبرق الليبية، وهي المنطقة الخاضعة لسيطرة الجنرال خليفة حفتر المدعوم من الكرملين والتي تستضيف بالفعل بعض القواعد الجوية الروسية على أراضيها.
خيارات روسيا المعقدة والمحدودة
لا شك أن روسيا بعد سقوط نظام الأسد المخلوع ورغم رفض الكرملين القاطع بتوصيف المجتمع الدولي والعالم للذي جرى في سوريا على أنه هزيمة نكراء لها ولمشاريعها في المنطقة، لكن حقيقة الأمر تقول: شاءت موسكو أم أبت أنّها في الوقت الحالي تواجه تحديات إستراتيجية حقيقية كبيرة، بعد أن كانت على مدار العقد الأخير من أبرز اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي والعسكري السوري، بل وأصبحت في هذه الأوقات أمام خيارات محدودة للغاية في الشأن السوري وحكامه الجدد الذين كانت تصفهم موسكو وإلى وقت قريب بالإرهابيين.
ولا شك أنّ انهيار نظام الأسد السريع مؤخراً قد حجّمَ وبشكل كبير النفوذ الروسي وسطوته، وجعل آفاق بقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا ضبابياً وموضعاً كبيراً للشك، وأن توافق المصالح بين الطرفين مهمة تبدو معقدة لموسكو، لكنها وبحسب تصريحات الطرفين ليست مستحيلة أبداً، رغم الضغوط الغربية والإقليمية والأميركية على إدارة العمليات العسكرية، لإخراج روسيا من سوريا ومن المشهد الجيوسياسي في المنطقة.
المعطيات الحالية بجميع أبعادها تشير إلى أنّ الوجود العسكري الروسي في سوريا بل وربما في الشرق الأوسط كله بات معلقاً بخيط رفيع..
عملياً وفي الفترة الأخيرة التي تلت سقوط “الأسد” المجرم فهناك ووفق تصريحات لمسؤولين روس فإن حالة من الترقب الحذر والقلق يُرجح أن قواتهم العسكرية تعيشها على الجغرافيا السورية، ولا سيما أن هذا السقوط المفاجئ للنظام الخائن شكّل ضربة قوية لطموحات الكرملين وأهدافه الإستراتيجية البعيدة في المنطقة، خاصة بعد تصريحات سابقة للرئيس فلاديمير بوتين، خلال زيارة له لقاعدة حميميم عام2017، وقوله: إنّه يخطط ويعتزم لأن يكون الوجود الروسي في سوريا مشروعاً وطويل الأمد.
لكن المعطيات الحالية بجميع أبعادها تشير -في غالبها- إلى أنّ الوجود العسكري الروسي في سوريا بل وربما في الشرق الأوسط كله بات معلقاً بخيط رفيع، يأتي هذا رغم تأكيدات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قبل أيام، أنّه يتفق مع وصف القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع بأن العلاقات السورية الروسية علاقات تاريخية وإستراتيجية، وإشارته إلى أنّ بلاده تعوّل على استئناف التعاون النشط مع السلطات الحاكمة الجديدة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وخاصة في شؤون وقضايا الاقتصاد والاستثمار ومراحل إعادة الإعمار.
وشدّد على أنّ روسيا تعوّل على استئناف التعاون الاقتصادي مع السلطات السورية الجديدة، وأيضاً على الصعيد الدبلوماسي والعسكري بعد أن منحت إدارة العمليات العسكرية فرصة لموسكو من أجل تصحيح علاقاتها مع الشعب السوري، وهو وفق ما يرى كثيرون، أنّه يحتاج إلى جهود روسية هائلة.