لم يُعر السوريون أمر فرار الرئيس المخلوع والهارب بشار الأسد أدنى أهمية، وهم منشغلون بنشوة وبهجة النصر المدهش، وسقوط أعتى الديكتاتوريات في الشرق الأوسطـ، لا سيما أن سقوطه كان في أحلك ساعات الثورة السورية وأبلغها يأسا، وهي من شهدت منذ وقت قريب كيف تسعى دول فاعلة “أوروبية وعربية” لإعادة تعويمه وتأهيله، ليستمر في حكم السوريين والبطش بهم إلى زمن غير معلن.
هذا إضافة إلى الحماية القديمة التي تصبغها عليه وعلى نظامه دولة إسرائيل، بوصفه السياج الحامي لحدودها وضابط إيقاع خصومها في الجبهة الشمالية.
لكن مع اقتراب استقرار الوضع في سوريا والذي نرجو أن يكون قريباً، ستعود قضية محاسبة بشار الأسد إلى السطح، كونه العراب الأكبر لمئات آلاف الجرائم والجنايات والمجازر التي ارتكبت بحق السوريين، وبحق أشقاء لبنانيين وأردنيين وفلسطينيين.
علاوة على هذا يعرف المهتمون والمشتغلون بالشأن السوري، أن بشار الأسد هو الصندوق الأسود الذي يحوي أسرار أعظم الفضائح، التي سيكون أمر انكشافها للعلن مدوياً، وربما سيهز عروشا ومحافل سياسية “عربية وأوروبية وفارسية” طالما كانت شريكة لهذا النظام في جرائمه التي لا تحصى، بدءاً من المجازر المستمرة على مدى أربع عشرة سنة، مروراً بتصدير المخدرات إلى دول كثيرة وما رافق ذلك من تواطؤ شبكات عابرة للقارات، استطاعت بناء إمبراطوريات مالية من وراء تلك التجارة المحرمة دولياً.
هل يمكن لروسيا وهي في حالة حرب مستنزفة لا تعرف نتائجها، مع المعسكر الغربي من خلال حربها في أوكرانيا، هل لها أن تحتمل عبء احتفاظها ببشار، مع ما يمكن أن يضيفه هذا الملف الأسود إلى ملفاتها..
كذلك شركات الاتجار بالسلاح والاتجار بالأعضاء البشرية، وتجارة الرقيق الأبيض، واختفاء مئات آلاف السوريين الذين لم يعثر على رفاتهم إلى اليوم ويرجح أنَّ شطراً منهم بِيع ونُقل حياً إلى إيران وروسيا، للاتجار بأعضائهم وليكونوا فئران تجارب لصناعات سرية، وما خفي أعظم.
أمام هذا المشهد المربك ما هي احتمالات بقاء بشار الأسد حيا؟ مع ما تكتنفه هذه المخاطرة من نتائج مضرّة بأصحاب المصالح والجرائم المذكورة آنفاً، هل يمكن لروسيا وهي في حالة حرب مستنزفة لا تعرف نتائجها، مع المعسكر الغربي من خلال حربها في أوكرانيا، هل لها أن تحتمل عبء احتفاظها ببشار، مع ما يمكن أن يضيفه هذا الملف الأسود إلى ملفاتها، وهل يمكن أن تقايض عليه لقاء مكاسب جزئية تتحصل عليها في سوريا؟
وهل يمكن أن يمنح السوريون الناجون نفوذاً جديداً لروسيا التي كانت شريكاً مباشراً في قتلهم وتدمير مدنهم لقاء الحصول على بشار الأسد وتقديمه لمحاكمات عادلة، وربما استعادة جُزءٍ من المليارات التي نهبها هو وعائلته وأعوانه.
هل ستقبل إيران ببقاء سيف الفضائح الذي يمكن لهذا الصندوق الأسود المملوء بالمخازي أن يسلّطه عليها، في حال تقديمه للعدالة الوطنية أو الدولية، كذلك الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، التي تواطأت مع هذا المختل المخلوع على مدى بضعٍ وعشرين سنة، في نسج خيوط العمالة وتعزيز الدعم والحماية له، ليبقى حارساً أميناً لحدودها؟
وخير شاهد على ذلك دكُّ طيرانها وتدمير جميع المواقع التي يحتمل أن تحوي وثائق تخابرهم معه فورَ فراره من دمشق، إضافة إلى مخازن السلاح السوري ومستودعاته، وقد كشفت العديد من الوثائق ضلوع بشار الأسد في تسليم الأجهزة الإسرائيلية أدق الخرائط والمواقع اللازم تدميرها، لحمايته وحمايتهم.
في الجانب الروسي وهو من أهم الجوانب في هذه القضية كونها الدولة التي منحت بشار الأسد لجوءاً إنسانياً، فإن الحفاظ عليه من الناحية الأمنية سيكون مكلفاً على المدى الطويل، ومُلِّوثاً لسمعة روسيا المغمّسة أصلاً بدماء الشعب السوري على مدى عشر سنوات على الأقل، كما أنها بهذا ترسّخ عداءَها للدولة السورية الحديثة، وللشعب السوري الذي لم يعد مهمّشاً بعد اليوم، وهي في أمسّ الحاجة لمد الجسور مع سوريا الحديثة كونها من بقايا المنافذ النادرة لها على منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط.
الأمر الآخر الذي يعزز احتمال قيام الروس بتسليمه لمحكمة الجنايات الدولية، عبر صفقة تأخذ عليهم بموجبها تعهدات بعدم نشر أي معلوم يسفر عنه التحقيق مع بشار الأسد، وهو وجود وثائق تدين القوات الروسية بالإشراف على استخدام السلاح الكيميائي ضد السوريين المدنيين العزل.
ولتجنب الإدانة التي أشار إليها التقرير التاسع لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية والتي كان لمنظمة الخوذ البيضاء السورية الفضل الأكبر في كشف تفاصيلها، وتقديم الأدلة العينية الموثقة على ضلوع روسيا فيها.
ربما تعمد الإدارة الروسية إلى مقايضة بشار الأسد بذلك الملف، شريطة ألا تسمح المحكمة الدولية بوصول صوت بشار إلى أجهزة الإعلام لو فكر بفضح المستور.
سيبقى من حق السوريين محاكمته ومحاسبته والقصاص منه، ليكون عبرة لكل طاغية، وشفاء لقلوب آلاف الأمهات والزوجات والشقيقات اللائي اغتصب أحلامهن ودمر مستقبلهن، وحتى لا يستمرئ أي حاكم..
هل يمكن أن يقدم بشار الأسد على الانتحار؟ مع المعرفة العميقة بهشاشته النفسية، وجبنه الذي يحول دون اتخاذ قرار جريء كهذا، أم أنهم سينتحرونه بعدة طلقات في الرأس على غرار انتحار رجل المخابرات غازي كنعان ورئيس الوزراء السابق محمود الزعبي، ذلك الانتحار الصبياني المزعوم، أم هل ستكون بضع قطرات من مادة سامة أو غاز سام كفيلة بذلك؟
أسئلة برسم المستقبل، من الصعب التكهن بها، إلا أن اختفاءه وتصفيته تتواطؤ عليها مصالح دول عدة لن تجد الاطمئنان إلا بموته، واختفاء ما يمكن أن يتسرب عنه في ظروف غامضة.
سيبقى من حق السوريين محاكمته ومحاسبته والقصاص منه، ليكون عبرة لكل طاغية، وشفاء لقلوب آلاف الأمهات والزوجات والشقيقات اللائي اغتصب أحلامهن ودمر مستقبلهن، وحتى لا يستمرئ أي حاكم دماء شعبه كما فعل الأسد وسلفه في الشعب السوري من استباحة وإجرام لم يفعله طاغية في هذا العصر.
- تلفزيون سوريا