فاطمة بدري
برغم أن الجنسية التونسية هي الأكثر حضوراً داخل التنظيمات المتطرفة، لكن السلطات في هذا البلد، لا تضع سياسات شاملة وواضحة للقضاء على التطرف، ولإعادة إدماج العائدين من بؤر التوتر، سواء داخل السجون أو خارجها، برغم ادعائها بأنها تضع برنامجاً في الغرض منذ سنة 2017.
بعد أكثر من شهر على سقوط نظام بشار الأسد، يتأهب عدد من الدول، لمواجهة ارتدادات التغيير الكبير الحاصل في سوريا، خصوصاً في ما يتعلق بملف الجهاديين الأجانب في سوريا، المنضوين تحت لواء التنظيمات الجهادية، وأبرزها “داعش”، الذي اعتُقل الآلاف من مقاتليه مع أسرهم وأطفالهم في مخيمات الهول والروج في البادية السورية، ناهيك بآخرين ربما كانوا في معتقلات الأسد، وأُطلق سراحهم أثناء تحرير السجون والمعتقلات.
تونس واحدة من الدول العربية التي تخشى أن يؤدي هذا المشهد الجديد، إلى عودة مواطنيها المتطرفين الذين انضموا بأعداد كبيرة إلى التنظيمات المسلّحة في سوريا منذ سنوات، ناهيك بأنها مطالبة بالاستعداد لوجستياً وأمنياً لمواجهة هذا الخطر، فيما تمرّ بأزمة اقتصادية ومالية خانقة، تجعلها غير قادرة على تحمّل هذا العبء الجديد، فضلاً عن عدم جاهزية السجون المكتظة أساساً لاستقبال هؤلاء العائدين المحتملين؛ الحجة التي تكررها غالبية الدول التي لا ترغب في استعادة مواطنيها الجهاديين من سوريا، كفرنسا مثلاً.
جهاديون تونسيّون في سوريا
منذ سنة 2011، أصبحت الجنسية التونسية هي الأكثر حضوراً في الساحات الجهادية، والأكثر انضماماً إلى المنظمات المتطرفة، بخاصة في سوريا وليبيا وبشكل أقل في العراق، ومرت عملية تسفير المتطرفين التونسيين إلى سوريا بمرحلتين.
الأولى كانت بين سنتي 2011 و2013، وتحديداً بعد فوز “حركة النهضة” في انتخابات المجلس التأسيسي، إذ سمحت خلال هذه الفترة التي أمسكت فيها بكل مقاليد السلطة، لـ”أنصار الشريعة” وغيرها من المجموعات المتطرفة بالنشاط والتنظيم علناً في الساحات والمساجد، كما دعت الحركة المقاتلين إلى السفر نحو سوريا حينها، تحت ذريعة “دعم جهود السوريين في إسقاط نظام الأسد”.
والمرحلة الثانية كانت ما بين سنتي 2013 و2014، وهي الفترة التي تصاعدت خلالها وتيرة سفر المتطرفين التونسيين إلى سوريا، ووُجهت أصابع الاتهام حينها إلى “حزب النهضة”، بتسفير جهاديين إلى سوريا، وبأن أحد أعضائها (رجل أعمال) أسّس شركة طيران، تقول بعض التحقيقات إنها كانت مسؤولة عن نقل الشبان التونسيين إلى تركيا، ليتحولوا في ما بعد إلى سوريا، ويلتحقوا بالتنظيمات الجهادية.
تزامن ذلك مع إعلان أبو بكر البغدادي زعيم “تنظيم الدولة الإسلامية” قيام دولة الخلافة في حزيران/ يونيو 2014. علماً أن بعض المقاتلين التونسيين قد انضموا إلى “جبهة النصرة” في البداية، قبل أن يلتحقوا بـ”الدولة الإسلامية”، بعد الصراع الذي دار بين التنظيمين.كما شكلت ليبيا قاعدة خلفية مساعدة، سواء على مستوى إيجاد مراكز للتدريب أو كمنطقة انطلاق مناسبة نحو تركيا ومنها إلى الداخل السوري والعراقي، لا سيما وأنها قد دخلت في فوضى أمنية في أعقاب سقوط نظام معمر القذافي.
وتجدر الإشارة إلى أن قضية تسفير الشبان التونسيين إلى بؤر التوتر، وتحديداً التنظيمات الجهادية، تُعد اليوم من بين أخطر القضايا التي يحقق فيها القضاء التونسي، من دون أن يتم الحسم نهائياً فيها، برغم توجيه التهم إلى الكثير من المتورطين، أبرزهم نائب رئيس “حركة النهضة” وزير الداخلية الأسبق علي العريض، الذي كان وزيراً للداخلية خلال فترة التسفير، إضافة إلى قيادات أمنية عليا، كما اتُّهم راشد الغنوشي بالمساهمة في تسفير الجهاديين أمام القضاء التونسي، لكنه ينفي هذه التهم “بوصفها محاولات لإقصاء خصم سياسي، من الرئيس قيس سعيّد”.
كم عدد الجهاديين التونسيين؟
لا توجد إحصاءات دقيقة لأعداد المقاتلين التونسيين مع التنظيمات المسلحة، إذ يشير تقرير للأمم المتحدة يعود إلى العام 2015، إلى وجود أكثر من 5 آلاف مقاتل تونسي في سوريا والعراق وليبيا، لكن آخر الأرقام الرسمية التونسية (الرئاسة التونسية) تقول إن عدد المقاتلين التونسيين المنتسبين إلى جماعات جهادية مسلحة في سوريا وليبيا والعراق، يُقدر بـ2926 مسلحاً، وإن “السلطات تعرف كل كبيرة وصغيرة عن عدد التونسيين الملتحقين ببؤر التوتر، للقتال ضمن مجموعات إرهابية، وتوزّعهم على البلدان”.
وتؤكد تقارير عدة أن المتطرفين التونسيين هم أخطر المقاتلين، ويتولون مراكز قيادية ضمن تلك الجماعات، وقد كانت مشاركة اثنين منهم في عملية تعذيب الطيار الأردني المعتقل معاذ الكساسبة وقتله، إحدى أبرز العمليات التي تم تداولها.
وبعد الحملات الدولية التي شُنت ضد بعض التنظيمات في سوريا، بخاصة تنظيم “داعش”، قُتل الكثير منهم، وألقت السلطات السورية السابقة و”قوات سوريا الديمقراطية” القبض على عدد منهم أيضاً.
وفي ظل الرفض الشعبي الواسع في تونس لعودة هؤلاء المقاتلين، كما حصل في عام 2016، إذ دعت التظاهرات آنذاك إلى عدم السماح بعودتهم، لم تستجب السلطات التونسية لدعوات “سوريا الديمقراطية” كل الدول، لاستعادة مقاتليها من مخيمي الهول والروج. كما أنها لم تعمل على استعادتهم من نظام الأسد، برغم أن الأخير قدم للسلطات التونسية كل المعطيات عنهم، وبرغم التنسيق الأمني بين الطرفين، كما ذكرت مصادر رسمية.
ولكن، وفي ظل المستجدات الراهنة في سوريا، تتالت الأصوات الداعية للاستعداد جيداً لعودة المتطرفين من هذا البلد، إذ حذر “المرصد الوطني” للدفاع عن مدنية الدولة، من الأخطار التي تهدد تونس نتيجة الوضع الجديد في سوريا، والمتعلقة بإمكانية عودة عدد من التونسيين الذين شاركوا في القتال في سوريا.
وقال منير الشرفي مدير المرصد، إن “هؤلاء الأشخاص من المفترض أن تطلب منهم القيادات والجهات التي جندتهم، العودة إلى بلدانهم بعد انتهاء مهمتهم في سوريا، وهو ما يمثل تهديداً كبيراً للأمن القومي في تونس، بخاصة في ما يتعلق بتطرفهم الديني العنيف، الذي يشكل تهديداً للمسار المدني للدولة التونسية، فضلاً عن احتمال تكليفهم بمهمات قد تؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد”.
بدوره، يقول الخبير في الجماعات الإسلامية علية العلاني لـ”درج”، إن “عودة المقاتلين المتشددين بعد سقوط الأسد، تشكل تهديداً خطيراً لا على تونس فحسب، بل على المنطقة المغاربية عموماً. ومن المرجح أن تكون ليبيا البوابة الرئيسية لتسلّل المقاتلين العائدين من سوريا إلى تونس، نظراً الى الوضع الأمني الهش في ليبيا، ووجود حواضن تنظيمية للمقاتلين المتطرفين فيها”.
إجراءات استباقية في تونس
يبدو أن السلطات التونسية، قد استشعرت الخطر، وتتجه للاستعداد لفرضية عودة المتطرفين، سواء من طريق تركيا أو عبر ليبيا. وتحاول اتخاذ بعض الإجراءات الاستباقية، وإن لم تعلن صراحة أنها متعلقة بالمخاوف من عودة مجموعات من المقاتلين المتشددين من الأراضي السورية، في ظل المشهد الجديد في هذا البلد.
ناهيك بأن الدستور التونسي لا يبيح منع عودة أي مواطن تونسي إلى بلاده، كما ينص قانون “مكافحة الإرهاب التونسي لعام 2015” على “عقوبة السجن، من ستة أعوام إلى 12 عاماً، لكل من انضم عمداً، بأي عنوان كان، داخل تراب الجمهورية أو خارجه، إلى تنظيم أو وفاق إرهابي”، لكن التنصل من المسؤولية وحماية الدولة لمواطنيها، يشابه الموقف الأوروبي من مقاتليه في سوريا.
وكانت أولى الخطوات لمحاولة ضبط العائدين أو تسللهم، إعلان شركة الخطوط التونسية المملوكة من الدولة، قبل أيام، أنه سيتم تحويل الرحلات القادمة من تركيا إلى محطة منفصلة عن مطار قرطاج الرئيسي، والمخصصة عادة لرحلات الحجيج والمعتمرين. ما يعني أن المسافرين القادمين من تركيا، سيخضعون إلى إجراءات تفتيش صارمة في محطة جمارك منفصلة، ذلك لأن تركيا كانت البوابة الرئيسية لالتحاق التونسيين بالتنظيمات الجهادية المتطرفة.
برغم أهمية هذه الخطورة، لكنها تبقى منقوصة، لا سيما وأن تونس ظلت تركز على المعالجة الأمنية، وتُسقط آليات عملية إعادة الدمج. كما أن تونس ستواجه تحديات عدة في التعامل مع متطرفيها إذا ما عادوا.
تواجه تونس أزمة إيواء العائدين داخل السجون المكتظة أساساً، وخطر اختلاطهم بالمساجين الآخرين، إذ ستتحول السجون في حال حدوث ذلك، إلى أوكار لزرع الأفكار المتطرفة، وحتى إعداد البعض للانضمام إلى التنظيمات المتطرفة بعد مغادرة السجن، وهذا قد حدث فعلاً في سنة 2016، إذ ذكرت بعض التقارير أن الجهاديين الذين تم القبض عليهم بعد عودتهم من سوريا وليبيا، قد سيطروا على السجون التونسية بطريقة تشبه عمل العصابات، وأنهم كانوا يعتدون على كل من لا يخضع لهم.
تونس مجبرة على توفير فضاءات خاصة بحجز العناصر العائدين، ولكن هذا الأمر يمثل تحدياً كبيراً لها، بسبب الاكتظاظ الذي تعاني منه سجونها، وسيكون من الصعب توفير سجون جديدة خاصة بهؤلاء، في ظل الأزمة المالية الخانقة التي تعيشها البلاد. كما أن الأجهزة الأمنية ستكون بحاجة إلى رفع عتاد الكوادر المتخصصة في مكافحة التنظيمات الجهادية وتدريباتها، وبالتالي هي تحتاج إلى موارد مالية كبيرة، وهذا ما تفتقر إليه تونس اليوم.
هناك أيضاً خطر الشبكات الجهادية المتشددة الناشطة داخل البلاد، التي قد توفر للعائدين فضاءات لتجنيد مجموعات جديدة، بخاصة وأن هؤلاء العائدين يمتلكون خبرات قتالية اكتسبوها من مشاركتهم في الحرب السورية. وهذا الخطر مرتبط أساساً بالمتطرفين الذين سيعودون بطريقة سرية أو بهويات مزيفة، لا سيما وأن بعض التقارير تقول إن هؤلاء قد تحصلوا في سوريا على هويات مزيفة، حتى بعد الأحداث الأخيرة التي استجدّت فيها.
هناك إشكالية رفع التصنيف عن بعض الجماعات إثر سقوط الأسد، قد يخلق صعوبات في التعامل مع مسألة الإرهاب والمتطرفين العائدين من سوريا. ومن المحتمل أن يجد القضاة التونسيون أنفسهم إزاء تعقيدات كبيرة، لأن المصنف إرهابياً في تونس، قد لا يكون كذلك في دول أخرى، وهذا قد يكون عاملاً يحول دون ملاحقته قضائياً.
برغم أن الجنسية التونسية هي الأكثر حضوراً داخل التنظيمات المتطرفة، لكن السلطات في هذا البلد، لا تضع سياسات شاملة وواضحة للقضاء على التطرف، ولإعادة إدماج العائدين من بؤر التوتر، سواء داخل السجون أو خارجها، برغم ادعائها بأنها تضع برنامجاً في الغرض منذ سنة 2017. وتواصل الرهان على الحل الأمني، من دون أن تفكر في المشاريع الاجتماعية القادرة على الحد من تطرف الشباب، والخطوات اللازمة لوقف عملية التجنيد داخل السجون، والأهم آليات العودة إلى الحياة، أي تصوّر لطرق العودة إلى الحياة المدنية بعد السجن، بعيداً عن الإجراءات الأمنية.
- صحفية تونسية