بعد “انتفاضة القامشلي”، في آذار عام 2004، التي انفجرت كما هو معروف على خلفية مُشاحنات أعقبت مباراة كرة قدم بين نادي «الجهاد» المحلي، الذي يتكون معظم جمهوره من الأكراد، ونادي «الفُتُوَّة» القادم من مدينة “دير الزور”، سارعت السلطات لاستخدام الرصاص الحيّ. ولم يتردد النظام وقتها، وفقًا للكاتب السوري صبحي حديدي، “في استيحاء مجزرة حماة 1982 لتلقين أكراد ِسوريا، وليس منطقة “الجزيرة” وحدها، درساً في الفاشية يمارِسُه الوريثُ من باب استئناف تراث أبيه: في “القامشلي” و”الحسَكة” و”عامودا” و”ديريك” و”الدرباسية” و”عين العرب” و”عفرين”، هذه المرّة”.
بعد تلك الانتفاضة، اجتمعت قوى سياسية كردية وعربية في مدينة الرقة – وكان كاتبُ هذه السطور شاهدًا عيانًا في ذلك اللقاء – لإصدار بيان يحُضُّ على التهدئة كي لا تتحول مجازر النظام إلى مدن أخرى. وكان المأزقُ الكبير أن الاجتماعَ الذي عقدناه لإرسال رسائلِ السلام والتهدئة كان في حد ذاته يحتاج لمن يهدِّئَ الأجواء داخلَه ويفصل بيننا بكل معاني الكلمة. وما أدى إلى انفجار ذلك الاجتماع كان خلافٌ حاد وصل إلى حد التعارك بالأيدي بين أحد ممثلي التيار القومي العربي وزميلٌ له في التيار القومي الكردي، وسبب النزاع الاختلاف حول “ترويسة” البيان: “الجمهورية العربية السورية” أم “الجمهورية السورية”؟ خرجنا من ذلك الاجتماع ونحن نسحب عُقدنا خلف ظهورنا، وتَخَلَّفنا وراء أيديولوجيات باهتة تتحكم في عملنا السياسي!
ما أشبه الأمس باليوم!
تكاد سوريا تتحول إلى كومة من الأشلاء المتناثرة لولا بريقِ أمل سطعَ في منتصف النفق، دلالًا على أن نظام الأبد قد انتهى؛ لكن ما لم ينتهِِ بعد هو نقاش بيزنطي يصر دائمًا على وضع العربة أمام الحصان: ماذا سنطلق “اسمًا” على سورية الجديدة؟ وليس الجديد هنا دلالة على التقدم، بل هو إعادة إنتاج لنفس النقاش وعودتُنا إلى مربّعات قديمة اعتقد الكثير منا أنها وَلّت ولا عودة لها.

أَحدثُ نُسَخ ذلك النقاش هو ما طرحه الصديق “خلف الجربوع”، الناشط السياسي ومعتقل الرأي السابق في عهدي الأسد الأب ووريثه الهارب، على صفحته في فيسبوك. كتب خلف: “العربية ليست قومية بل بُنية ثقافية وهَوية الأغلبية، لذلك أعتقد أن التنازل عن اسم “الجمهورية العربية السورية” لصالح اسم جغرافية سياسية فقط هو جريمة موصوفة الأركان لصالح هويات صغيرة، ستأخذنا إلى طائف سوري”. وعندما سألته: “وماذا لو بقي الاسم/ الشكل وضاع المعنى/ البلد؟” ردّ: “وهل هناك ضمانة إذا غيرنا الاسم ألا يضيع البلد؟” فرددت باقتضاب: “أقلُّها نكون قد أزلنا حاجزًا يقف عثرةً أمام أن نكون سوريين، هذا أبسط شروط العمل السياسي”. وفي سياق هذا النقاش، تابع خلف تمترسه وراء أيديولوجيته – سأبيّن ذلك فيما بعد من المقال – بردٍّ استباقي، حيث صرح في “بوست” منفصل: “تتمايز الأغلبية بحدودٍ تُحدِّدها الأقليات عندما تعلن تمايزها، وإن التفاوض على أن تتنازل الأغلبية عن تمايزها وهويتها لصالح تمايز الأقليات وهوياتها الفرعية سيمهّد الطريق لفاشيّات متقاتلة من كل الأطراف”. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن “خَلَف” في هذا النقاش يطرح مفهوم الأقلية والأغلبية ببُعده العامودي فقط، أي أقليات عرقية متنوعة فيما يفرض سلفًا أن الأغلبية عربية سنية. لذا يضطر هذا المقال إلى متابعة الخوض في مثل هذا النقاش آملاً في المستقبل أن تتجه سوريا الجديدة نحو نقاشات مثمرة. والجديد هنا أن تتحول كل نقاشات السوريين في موضوع الأغلبية والأكثرية إلى بُعدها الافقي – السياسي لنخرج من عَفَن نقاشات ما قبل الدولة الحديثة.
نماذج الدولة التي مر بها التاريخ القديم والمعاصر كثيرة ومتنوعة ولا يتسع المجال هنا لاستعراضها جميعًا، لكن ما يهمنا في نقاشنا الحالي وسوريا، بعد سقوط النظام، أننا نقف أمام مفترق طرق: أي دولة يريدها السوريون؟ لو سألت أي سوري حاليًا هذا السؤال، سيجيبك سلفًا: أريد دولة عدالة ومساواة وحقوق، كذلك ألا تستأثر فئة أو طائفة معينة بخيرات البلاد. وهنالك الكثير من الخطابات تتبنى هذا الاتجاه، لكن الشيطان يكمن دائمًا في التفاصيل. هل سنعيد إنتاج العربة من جديد أم نحاول الاستفادة من تجارب سابقة في هذا المجال؟ الأمثلة السابقة التي اٌفتتح بها هذا المقال لا تبشر بالخير، وكذلك القيادة السورية الجديدة، رغم براغماتيتها، لا يمكنها أن تؤسس لدولة حديثة بعيدة عن القوميات والأيديولوجيات الدينية؛ وهذا يعني أننا أمام تحديات صعبة ودورات مغلقة لا يمكن كسرها إلا باتفاق وطني شامل: أن نكون أولًا سوريين قبل أي انتماء آخر، وأن يُترجم هذا الشعار في دستور يُلغي أي استئثار أو تمايز عرقي وقومي وديني، مفضيًا إلى دولة حديثة تحترم كل مواطنيها. وإلا ستظل أوكار صراعاتنا مشتعلة وسنتحول إلى دولة فاشلة، إن لم نكن نحن فيها الآن.
نموذج الدولة الذي كان سائداً في عهد النظام الأسدِي هو نموذج أيديولوجي يتجاوز حدود الدولة وشعبِها – أتكلم نظريًا من خلال الدستور الموجود – وهو لا يعترف بسوريا وطنًا نهائيًا للسوريين. إنه قائم على شعارات القومية العربية وإيديولوجيتها العابرة للحدود والأوطان، ولا يختلف عن الأيديولوجيات الأخرى سواء كانت شيوعية أو إسلامية التي طُبِّقَت في دول أخرى. جميع هذه الأيديولوجيات شكلت “يوتوبيا” تسعى لتحقيق “فردوس” متخيل غير موجود، سواء كان ذلك أمة إسلامية أو أممية عابرة لكل الحدود. الإشكالية في هذا النموذج أنه عابر، وكذلك أيديولوجي، هوياتي وتمييزي ولا يؤسس لدولة المواطنة الحديثة. ولا جديد بأن الدولة الحديثة عبارة عن مؤسسة وجهاز تنظيمي إداري محايد، وتتصف بأنها غير مَعَرَّفة بهوية دينية أو قومية أو طبقية؛ فهي تدعم التنوع وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية. وهذه الدول هي التي تسود حاليًا، وصديقنا “خلف” يعيش في واحدة منها – المانيا – ويتمتع بكل مزايا المواطنة.
ناقشت أعلاه، وباختصار ما يتطلبه مقال رأي سريع حول أن “العربية ليست قومية بل بُنية ثقافية وهوية الأغلبية” وأن التنازل عن اسم الجمهورية العربية السورية لصالح اسم جغرافية سياسية فقط هو “جريمة موصوفة الأركان”. كما يقول “خلف”. أناقش الآن رَدَّهُ الاستباقي المغرق بـ”الهويات القاتلة” وكأن سوريا لا تزال كيانًا استاتيكيًا لم تمُر عليه ثورة اقتلعت في طريقها كل شيء!
عبارة “خلف” وبوسته الاستباقي تحمل طابعًا تحذيريًا قد يبدو مبالغًا فيه عند الإشارة إلى أن التفاوض على الهويات سيؤدي إلى “فاشيات متقاتلة”. هذا الطرح يُغفل حقيقةَ أن التعددية الثقافية والدينية ليست دائمًا مصدرًا للصراع، بل يمكن أن تكون أساسًا للتكامل إذا تم التعامل معها بحكمة ضمن إطار من الاحترام المتبادل. كما يظهر موقفًا دفاعيًا مسبقًا يُفترض فيه أن الأغلبية تواجه تهديدًا من الأقليات، مما قد يعكس تصورات مسبقة تُعقّد الحوار بدل أن تعززه. هذا النهج قد يعزز انعدام الثقة بين الأطراف المختلفة ويعيق فرص التفاهم، خصوصًا في مجتمع متنوع ومعقّد كالذي في سوريا. لذا هناك حاجة إلى تجاوز هذه المخاوف والانتقال نحو بناء جسور التعاون بدلًا من حواجز التنافر.
التجارب العالمية تُظهر أن التنوع يمكن أن يكون مصدر قوة وليس ضعفًا. دول مثل كندا وسويسرا استطاعت تحويل تنوعها إلى عامل استقرار وازدهار من خلال تعزيز قيم المواطنة والمساواة، ما يُظهر إمكانية بناء نظام يحتضن التنوع دون أن يؤدي إلى تفكك أو صراع.
إن طرح “خلف” يفترضُ ثنائية حادة بين الأغلبية والأقليات، وكأن العلاقة بينهما محكومة بالتصادم. هذا التوجه يتجاهل أن الهويات يمكن أن تتعايش في إطار متكامل، حيث تُحفظ الحقوق الجماعية والفردية ضمن إطار وطني أوسع. والتركيز على الهوية الجماعية وحدها يغفل حقوق الأفراد، التي غالبًا ما تكون أكثر شمولًا وتمثل أساسًا لأي نظام ديمقراطي مستدام.
ومن المهم أن يدرك “خلف” وغيرُه أن الربط بين التنازل من الأغلبية لصالح الأقليات وظهور الفاشيات يبدو تبسيطًا للواقع. إذ لا تنشأ الفاشية فقط من التنازلات، بل من ظروف أكثر تعقيدًا تشمل الأزمات الاقتصادية والسياسية وتدهور النظام العام. وهذا الربط قد يسهم في تعميق الانقسامات بدلاً من معالجتها.
وأختم: في السياق السوري، لا يمكن اختزال العلاقات بين المكونات المختلفة في تصنيف الأغلبية والأقليات فقط.
هناك عوامل متعددة سياسية واجتماعية وثقافية تسهم في صياغة هذه العلاقات وتحديد طبيعتها. أيُّ طرح يتجاهل هذه التعقيدات قد يقصر عن فهم الواقع بشكل شامل. وبدلاً من تصوير “التفاوض” كتهديد، يمكن اقتراح بديلٍ يُركز على أهمية بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على أساس المواطنة المشتركة. يجب أن يعترف هذا العقد بالتنوع الثقافي والديني كقيمة إيجابية، مع ضمان حقوق الأفراد والجماعات ضمن إطار عادل ومتوازن. هذا النهج يمكن أن يفتح المجال لبناء هوية وطنية جامعة تحتضن الجميع وتمنع الانزلاق إلى الصراعات.
- شفاف الشرق الأوسط