اللعب على المكشوف في سورية لم يعد ممكناً.
سقط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وبدأت سورية تخطو خطواتها الأولى نحو الخروج من حالة الدمار التي عاشتها على مدار الأربعة عشر سنة الماضية، خطوة أولى نحو التاريخ الحديث الذي سيصنعه أبناؤها اليوم، ليتوّجوا به نهاية الثورة العظيمة وكتابة صفحة مضيئة في تاريخهم المعاصر. السوريون اليوم أصبحوا على أبواب مرحلة انتقالية حاسمة ومهمة لإعادة بناء الدولة السورية وعيونهم شاخصة نحو الحرية والكرامة.
في نظر السوريين، تمثّل المرحلة الانتقالية القادمة فرصةً عظيمة؛ ليستعيدوا حريتهم وحقّهم في إرساء أسس نظام سياسي جديد، يستند إلى مبادئ الحكم الرشيد والمشاركة الشعبية واحترام حقوق المواطن وحرياته، والتعددية السياسية والثقافية والدينية والمذهبية للمجتمع السوري.
هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ سورية تتطلب مواجهة التحدّيات الكبيرة، المتمثلة في دمار كبير في البنية التحتية للبلاد، وشلل تام في مؤسسات الدولة، وبقاء بعض المناطق خارج سيطرة الإدارة الجديدة، وحالة فوضى السلاح (رغم ضآلة حجمها) التي قد تتسبب في انعدام الثقة بين مختلف فئات المجتمع. ولكن ما يقلق السوريين اليوم هو خوفهم من بدء وجود ملامح ثورة مضادة تظهر من خلال التدخلات الخارجية الناعمة حتى الآن. سورية وُلِدت من جديد، ويقودها فريق إدارة جديد.
طموحات أبناء سورية كبيرة جداً، وهي طموحات مشروعة. ولكي يُحصِّن السوريون أنفسهم، ومن خلفهم الإدارة الجديدة، وحتى نحقق ما نطمح له، يجب فهم لعبة المصالح الدولية أولاً.
سنبيّن فيما يلي مصلحة كل دولة وموقعها في سورية الجديدة.
- الإدارة السورية الجديدة
الإدارة السورية الجديدة بدأت تمسك خطوط التوازن، ومفاتيح اللعب، واحتراف الصنعة. ويبدو أنه درس مكثف تلقاه فريق الإدارة الجديدة قبل الوصول إلى دمشق، رغم ما يبدو من هدوء في ملامح أحمد الشرع، وذاك الدفء في صوته الذي فتح الآذان، لترتدّ كلماته ابتسامات وتطمينات لأغلب السوريين، رغم تحفظ القليلين هنا وهناك. إلا أن الصرامة والجدية في التعامل مع القضايا المهمة لم تكن غائبة، بل نستطيع القول إن الرسائل الحادة قد وصلت إلى سامعيها، ومحاولات لَيِّ الذراع التي مارسها البعض لم يكتب لها النجاح، بل يمكن أن نقول إنها ارتدّت بعكس ما أراد لها فاعلوها. وتمكّنت الإدارة الجديدة من الاقتراب أكثر من محيطها العربي بضمانات قطرية تركية، والمبادرة الكريمة من المملكة العربية السعودية التي فتحت ذراعيها على اتّساعها لتقريب السوريين أكثر من أشقائهم العرب. وتكلل كل هذا الجهد بلقاء الرياض الذي لمّ شمل سورية مع باقي الدول العربية، وسهّل فتح خطوط تواصل مع الجميع، رغم نبرة الحذر التي تتردد بين طيات حديث بعض الأطراف. كل هذا الجهد المبارك عزّز لدى السوري الذي تنشّق عبير الحرية من جديد مشاعر الفرح التي حملها تحرير سورية، والتي يكاد يُسمع صداها في جدران سجون صيدنايا الصماء.
– تركيا
تركيا اليوم مدفوعة بنشوة الانتصار في الساحة السورية، من خلال دعمها وتأييدها للإدارة السورية الجديدة، وتحقيق النصر في دمشق، وإسقاط نظام الأسد الذي جثم على صدر السوريين 54 عاماً . هذه النشوة، وهذا الانتصار، يدفعان تركيا إلى مربع مختلف تماماً عما كانت فيه قبل إسقاط النظام السوري. عقد أستانا الذي كان يربطها بروسيا وإيران، لم يعد موجوداً، وهزيمة إيران في لبنان وسورية، فرّقت جمع الميليشيات الولائية في العراق، ولن يكون لديها القدرة أو أي إمكانية في تهديد تركيا، أو استخدام ورقة تهديد الأمن القومي التركي، باستثناء محاولات إيران اللعب على ورقة دعم مقاتلي حزب العمال الكردستاني، (العصب القوي لقوات قسد .(مصادر موثوقة من العاملين مع قسد، أكدت وجود عناصر إيرانية من الحرس الثوري، استُقدمت بعد الثامن من ديسمبر 2024 للقتال مع قسد). هذه الورقة لن تساعد إيران كثيراً في حال قرر سيد البيت الأبيض رمي قسد تحت الباص. (تركيا اليوم لن تقبل بالحلول الوسط في علاقتها مع الدول المجاورة، فما قبل سقوط الأسد ليس كما بعده، وامتداد تأثير تركيا على الداخل السوري سياسياً وعسكرياً بشكل مؤقّت، حتى إنهاء عناصر الـ (ـب ك ك)، سيمنح تركيا أوراق قوة أكثر في مفاوضاتها مع ترامب. بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض، تركيا لن تجازف) رغم قدرتها على ذلك( ، أو لن تفكر بالمجازفة بمشاركة قواتها في بدء هجوم ضد مناطق قسد وإبعاد عناصر حزب العمال الكردستاني من كامل الأراضي السورية قبل الاتفاق مع إدارة ترامب على تفاصيل التواجد التركي على الحدود الشمالية لسورية ومستوى العلاقة مع الإدارة الجديدة في سورية. ورغم كل ما تتناقله وسائل الإعلام من أنباء عن معركة كبيرة قادمة، فلا يوجد قرار سياسي أو عسكري على الطاولة التركية بهذا الشأن، أو يمكن القول : إن تركيا تضع بقدر أكبر في ميزان مصالحها تأثير وتبعات هذا التقدم على مصالحها مع الولايات المتحدة وفرنسا. وحتى اللحظة هي تعود لاستخدام خيار ( ما لا يؤخَذ بالحرب يؤخَذ بالسياسة (الذي استخدمته خلال السنوات السابقة، ولكن نستطيع القول، إن كل ما سبق من تشابك للمصالح التركية مع المصالح الدولية، لن يمنع تركيا في النهاية من إنهاء التواجد العسكري لحزب العمال الكردستاني في شمال وشرق سورية ، وذلك ما يصب في مصالح الشعب السوري، بلا شكّ.
– إيران الخاسر الأكبر في الساحة.
لعبت إيران في سورية على عامل الزمن، وعلى تحقّق أهداف بقائها الطويل الأمد في سورية، وذلك من خلال لعبة توازن (تمتلك أدواتها في المنطقة) بين الأهداف والمصالح الإيرانية والعربية من جهة، والإيرانية الدولية من جهة أخرى، وبين تأثير نتائج الخطاب السياسي وارتداداته على الساحة العربية وتحديداً الخليجية والسعودية، والخطاب العقائدي الذي تبنّته في كل من لبنان والعراق واليمن ونجحت به، وفي سورية أخيراً، والتي بدأت تبني على أساسه بقاءها ونصرها البعيد، مستندة على إستراتيجية التغيير الديمغرافي في الساحة الشرقية والجنوبية، ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، وسقط مشروع إيران، ليس في سورية فحسب، بل في المنطقة كلها، بداية من لبنان وإنهاء حزب الله عسكرياً من خلال ضرب القواعد الأساسية في منظومة حزب الله الجهادية، مروراً بسورية، حيث تبخّرت الميليشيات الإيرانية والعراقية والأفغانية خلال أيام معدودة، وذهب ذلك “الهيلمان” الذي صنعته لنفسها في سورية، وهذا السقوط لن يتوقف في سورية فقط، بل سيمتد إلى العراق، فما يُعدّ للميليشيات الإيرانية في العراق، هو سيناريو قد يكون أقرب إلى سيناريو حزب الله من حيث ضرب القواعد، في حال لم يتمّ الاتفاق على حلّ الحشد الشعبي (غير مرجح)، الفاتورة الإيرانية في العراق ستكون أكبر، فخسارة العمق الجغرافي الذي تمددت فيه إيران، هو المسمار الأخير الذي سيدَقّ في نعش المشروع الإيراني، ولن يكون السيناريو بالنسبة للحوثي مختلفاً، فالعمليات الاستباقية والغارات الجوية قد فعلت فعلتها حتى الآن.
الرهان الإيراني سينحصر في إمكانية تجنب ضربة تدميرية للمشروع النووي الإيراني من خلال تقديم الكثير من التنازلات في ساحة العراق واليمن، ولا تدل المؤشرات على أن إسرائيل ستقبل بهذه المقايضة؛ لأن تدمير المفاعل النووي الإيراني، هو مشروع نتنياهو الذي بنى قوة حكومته عليه، وسيبقى يراهن على تحقق هذا الهدف حتى يومه الأخير في الحكومة.
عودة إيران إلى سورية من خلال العلاقات الدبلوماسية أو التجارية أمر غير مطروح حالياً لدى الإدارة الجديدة، وهو على ما يبدو غير مستحبّ، ولا يمكن أن يقبل السوريون بغير ذلك، ولا يمكن نسيان ما فعلته إيران في الشعب السوري حتى لو بعد مئة عام.
- كاتب سوري