مع دخول تحرير سوريا شهره الثاني، ما زالت الصورة اليوم تبدو ضبابية لكثير من السوريين الذين لم يجدوا أجوبة شافية بعد، بخصوص البدء بمراحل العدالة الانتقالية التي ستكون صمام الأمان بين السوريين، لحماية السلم الأهلي وبناء سوريا جديدة على أساس المواطنة وسيادة القانون.
ولكي نكون منصفين، فإن هذه المدة ليست كافية لترتيب البيت الداخلي السوري أمنياً أو حقوقياً، وقد تأخذ مثل هذه الترتيبات وقتاً لا بأس به، في ظل مطالبات محقة ومستمرة بمحاسبة المجرمين ومن تورطوا بالدماء.
يقترح اليوم الحقوقيون والسوريون الذين ناصروا الثورة تطبيق ما يمكن الاصطلاح عليه بأنه (عقوبات اجتماعية)، يطبقها المجتمع بحق مَن ناصر نظام الأسد وكان من الموافقين على طريقته الوحشية في قمع الحراك السياسي، ومن اضطهدوا ونبذوا السوريين الآخرين ممن خالفوهم في الرأي، وتصل المطالبات إلى ضرورة تطبيق عقوبات سياسية أيضاً بحيث يصبح من غير الممكن مشاركته في العمل السياسي، لأنّه كان من المهللين لجرائم الحرب التي ارتكبت بحق سوريين آخرين.
يعد العزل الاجتماعي من أنواع العقوبات المجتمعية غير الرسمية التي تُمارس ضد الأفراد الذين ارتبطوا أو تعاونوا مع النظام الأسدي خلال الثورة أو بعد السقوط..
يسعى السوريون اليوم لفضح كل مؤيد وداعم للنظام السابق من فنانين وكتاب وأدباء وإعلاميين، وتعرية حقائقهم في الإدارة والسياسة والمجتمع، ويعملون على إيجاد آليات من أجل تطبيق الجزاء بحقهم، في الحالات التي لا تنطبق فيها الجزاءات القانونية وخاصة في الأفعال والأقوال التي لا تشكل جرماً منصوصاً عليه، وهو أمر غاية في الأهمية بقدر ما هو غاية في الحساسية، لكنه ضروري لتجنب أي لبس في تعويم شخصيات غير مقبولة اجتماعياً، وفي الوقت نفسه من أجل الحفاظ على المكتسبات الثورية التي حصل عليها الشعب السوري بدفع باهظ الأثمان.
يعد العزل الاجتماعي من أنواع العقوبات المجتمعية غير الرسمية التي تُمارس ضد الأفراد الذين ارتبطوا أو تعاونوا مع النظام الأسدي خلال الثورة أو بعد السقوط، ويعتمد هذا العزل على نبذ هؤلاء الأفراد اجتماعياً بسبب دورهم السابق في دعم النظام أو الاستفادة منه.
يبدو ذلك وكأنه أضعف الإيمان تجاه من دعم النظام، باعتبارهم شركاء في القمع، لأن من والى النظام يُنظر إليه غالباً كخطر محتمل كونه استفاد من السلطة على حساب الشعب، كما يُنظر إلى من دعموا النظام ضد الثورة على أنهم خانوا القيم الوطنية أو الإنسانية.
بذلك قد يُحرم الأفراد من الوظائف أو الفرص التجارية بسبب عدم الرغبة في التعامل معهم وعدم ائتمان جانبهم، ومن المتوقع بطبيعة الحال أن يعمل الناشطون على فضح أعمالهم ليس في المجتمع المحلي فحسب، وإنما في الواقع الافتراضي أيضاً من أجل جعلهم يعانون من التجاهل السياسي فيُمنعون من المشاركة في الحياة السياسية الجديدة أو أي دور قيادي.
يؤدي العزل إلى شعور بالعار، الوحدة، والانعزال وقد يبدو هذا الإجراء تعميقاً لانقسامات مجتمعية وربما يُعاب عليه عدم قانونيته، غير أن ذلك يبدو مبالغاً به نوعاً ما لأن هذا الإجراء لا يميل إلى الشدة ولا يبرر استخدام العنف ويدعو إلى تطمين الضحايا وذويهم، ويمنحهم شعوراً بالتعاضد المجتمعي، ولكن لا يجب أن يتحوّل المجتمع هنا إلى محكمة بحد ذاته ويبقى على عاتق القضاء والمؤسسات القانونية القيام بما يترتب عليهم من واجبات، من أجل تطبيق العدالة تحت سقف القانون.
تعود هنا العدالة الانتقالية إلى الواجهة، فبدلاً من العقاب الجماعي يمكن استخدام آليات عدالة انتقالية تعتمد على محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن الجرائم، وبالتالي من الضروري إيجاد آليات قانونية لذلك بشكل مستعجل.
ومن نافل القول إنه من الضروري التمييز بين من أيّد النظام المستبد بمحض إرادته واستفاد من قمع الآخرين، وبين من اضطر إلى ذلك تحت التهديد أو بسبب ظروف قاهرة، فالعقاب الجماعي قد يؤدي إلى ظلم كثير من الأفراد الذين لم يكن لديهم خيار حقيقي.
قد يبقى مثل هذا الإجراء محفوفاً بالمخاطر ذلك أنه قد يؤدي إلى اضطرابات إذا ما طُبّق بشكل عشوائي ومن دون أدلة حقيقية.
ومن الواجب أيضاً الموازنة بين العدالة والمصالحة، فإذا ركّز المجتمع على العقاب فقط قد يصعب تحقيق استقرار طويل الأمد، ومن الضروري الابتعاد عن الانتقام والتحول من الانتقام الشخصي إلى بناء مؤسسات تحترم العدالة والقانون.
وبهذا علينا تحديد المسؤوليات الفردية بالاعتماد على تحقيقات عادلة تفرّق بين الداعمين النشطين والمجبرين أو غير المتورطين، بالتزامن مع التثقيف المجتمعي ونشر ثقافة التسامح ورفض العقاب الجماعي ودعم العدالة الانتقالية ببناء نظام قضائي قوي، يتعامل مع الجرائم بطريقة قانونية وشفافة لكن ذلك كله يبقى مرهوناً أيضاً بضرورة اعتراف الأفراد الذين دعموا النظام بأخطائهم والمساهمة في بناء المجتمع الجديد.
لقد طبّقت الثورة الفرنسية (1789-1799) العزل السياسي والاجتماعي بعدة طرق كجزء من جهودها لإعادة تشكيل المجتمع الفرنسي والقضاء على الامتيازات الطبقية والنظام القديم (Ancien Régime)، فألغت الامتيازات الطبقية، عام 1789.
وأصدرت الجمعية الوطنية مرسوماً يلغي الامتيازات الإقطاعية للطبقة الأرستقراطية ورجال الدين، وأصبح المواطنون متساوين أمام القانون، كما أُلغيت الامتيازات الضريبية الخاصة بالنبلاء ورجال الدين، مما أسهم في تهميش قوتهم السياسية والاجتماعية.
وفي عام 1792، أُلغيت الملكية بعد الإطاحة بالملك لويس السادس عشر، وأُعلنت الجمهورية، وأدى ذلك إلى عزل العائلة المالكة تمامًا عن الحكم، وأعدموا بشكل علني لإيصال رسالة واضحة بأنه لم يعد لهم أو لمن في حكمهم مكانًا في فرنسا.
من جانب آخر فإنه وبعد بعد انتصار الثورة الفرنسية سُنّ قانونان كان لهما الأثر الأكبر في تطهير الساحة السياسية وتقليص تأثير الأرستقراطيين والملكيين.
قانون النفي السياسي (1791-1792)، الذي استهدف الأرستقراطيين والأفراد الذين تعاونوا مع النظام الملكي، فقد مُنع هؤلاء من ممارسة العمل السياسي أو شغل مناصب عامة لمدة عشرة أعوام فما فوق والقانون ضد الملكيين (1795)، وفرضت قوانين تمنع الملكيين أو المؤيدين للملكية من العودة إلى الحياة السياسية.
كذلك صودرت أراضي النبلاء الذين حصلوا عليها كامتيازات لولائهم، وأعيد توزيعها على الفلاحين أو بيعها لدعم الخزينة العامة مما أسهم في عزل النبلاء وتقليل نفوذهم الاقتصادي والاجتماعي، وفي النتيجة فإنّ هذه السياسات أسهمت في تفكيك البنية الطبقية القديمة، وتحقيق بعض المساواة الاجتماعية.
وكمثال آخر لا تبدو ألمانيا مختلفة بإجراءاتها بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية، عام 1945، فقد تبنت سياسة شاملة للتعامل مع أعضاء النظام النازي وجرائمه، كان الهدف الأساسي هو تفكيك النظام النازي وإعادة بناء ألمانيا الديمقراطية.
وكان الهدف في إجراءات اجتثاث النازية إزالة تأثير الحزب النازي من جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وطبقت الفصل من الوظائف العامة حيث فصلت المسؤولين وأعضاء الحزب النازي من المناصب الحكومية، العسكرية، والتعليمية، وأُجبر المواطنون على ملء استبيانات حول انتمائهم للحزب النازي، وصُنِّف الأفراد إلى خمس فئات بحسب تورطهم، وبذلك لم يكن تطبيق العقوبة عشوائياً.
كذلك عُقدت محاكمات للقادة النازيين الرئيسيين وصنفت جرائمهم بحسب الضلوع فيها، فقُسمت إلى: جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، والتخطيط لحرب عدوانية، وأُعدم و سُجن العديد من القادة النازيين، في حين انتحر آخرون مثل هتلر.
النقطة المهمة التي من الواجب الإشارة إليها أن العزل السياسي والاجتماعي يجب أن يكون ضمن إطار قانوني واضح وإلا سيكون عائقاً للتقدم ولا يحقق العدالة للجميع..
في العقود التي تلت الحرب، خصوصاً في ألمانيا الغربية اشتغلت المؤسسات المختصة على مسألة التثقيف العام، فأُدرجت جرائم النازية ضمن مناهج التعليم، واعترفت الدولة بمسؤوليتها فقدمت تعويضات مالية لضحايا النازية، كذلك بُنيت العديد من المتاحف والنُصب التذكارية لتخليد ذكرى المحرقة والجرائم النازية.
ولاحقاً، ظهرت قوانين صارمة لمنع أي نشاط نازي جديد، بما في ذلك تجريم إنكار المحرقة ومراقبة الأحزاب اليمينية المتطرفة، واستمرت ألمانيا، حتى اليوم، في محاكمة أفراد متورطين بجرائم الحرب النازية، بغض النظر عن أعمارهم، مثل حراس معسكرات الاعتقال تُعتبر هذه الجهود جزءاً من الالتزام بعدم نسيان الماضي وضمان عدم تكراره.
ويعد تعامل ألمانيا مع النظام النازي بجدية بالغة، إذ مزجت بين العقاب والاعتراف التاريخي بهدف بناء مجتمع قائم على الديمقراطية والعدالة، رغم التحديات، أصبحت هذه الجهود نموذجاً لكيفية تعامل الدول مع الأنظمة الشمولية السابقة.
النقطة المهمة التي من الواجب الإشارة إليها أن العزل السياسي والاجتماعي يجب أن يكون ضمن إطار قانوني واضح وإلا سيكون عائقاً للتقدم ولا يحقق العدالة للجميع، ويجب إشراك السوريين في العملية القانونية، لأن ذلك من شأنه نزع الاحتقان من الأطراف كلها وإرساء حالة من السلام بينهم.
للحقيقة أيضاً لا يمكن مقارنة الحالة السورية بغيرها من الحالات المشابهة، بسبب مجموعة من المعطيات والظروف التي تجعل منها أكثر تعقيداً من غيرها إلى حد ما، لكنها على الأقل بفرادتها يمكن أن تشكل أنموذجاً جديداً جيداً من التسامح والانتقال السياسي السلس في حال أديرت المرحلة بشكل صائب.
- تلفزيون سوريا