ارتبط كثير من الممارسات العنيفة والدموية في التاريخ الحديث بغطاء نظري، غالباً ما يكون متماسكاً، تصوغه نخب من المنظّرين والأكاديميين ومنتجي الثقافة الجماهيرية، بل حتى العلماء. لدرجة أن كثيرا من الدراسات النقدية المعاصرة، في مجال التحديث، الاستعمار وما بعده، النازية والفاشية، التعصّب القومي والإبادة الجماعية، تركّز على المعرفة والخطاب، اللذين كانا جانباً أساسياً من علاقات القوة، المؤدّية لأبشع وقائع العصور الحديثة.
وفي هذا السياق، ربما كان نعت «الهمجية» أحد أهم المقولات والأحكام، التي أطّرت ممارسات شديدة العنف، من التمييز الممنهج وحتى الإبادة الجماعية، تجاه مجموعات بشرية معينة. و»الهمجية» أكثر من مجرّد شتيمة، فهي تعبير يشير، في كثير من الأحيان، إلى انتفاء الإطار والمعيار الحضاري، والقانوني، والأخلاقي، لدى جماعة أو فئة ما. لا يتسم الهمجي بالعنف وحده، فالعنف ظاهرة إنسانية، لا يخلو منها أي مجتمع، ويمكن اعتبارها مؤسِّسة في سيادته وسلطاته وقوانينه، بل في ثقافته نفسها؛ فيما تصرفات الهمجي خارجة عن أي تقليد أو إجراء أو مبدأ، لا قواعد لها، ولا يمكن التنبؤ بها، ويصعب إضفاء أي معنى عليها، ما يجعلها تهديداً دائماً لأي نظام اجتماعي. وهذا هو مصدر العبارة، التي باتت مبتذلة، عن «صراع الحضارة والهمجيّة». بالطبع، معظم من وُصِفوا بـ»الهمجية» كانوا أبناء حضارات وثقافات مختلفة، لها قواعدها وأعرافها الخاصة، وبالتالي فـ»الهمجي» غالباً هو الآخر، الأجنبي، المختلف، أو فئات داخلية، لا تتسق مع ما يُعتبر «الثقافة الرفيعة» للمجتمع، أي لا توافق عرف وأيديولوجيا الطبقة أو العرق أو المنطقة المهيمنة، ولذلك يجب إعادة إدماج تلك الفئات، و»تطويرها»، لتفارق همجيتها. يمكن تخيّل المآسي، التي سبّبها تحرير «الهمج» من همجيتهم.
اتُّهِم «الهمجي» غالباً بسلسلة متسقة ومترابطة من التهم، فهو كافر أو ضال، لا يدرك خلاص روحه؛ وفوضوي، لا يعرف معنى القانون والالتزام بالقواعد؛ ونجس، تمتلئ حياته بكل ما هو مقزّز وقذر، ويشكّل تهديداً بالعدوى؛ وغبي، لا يمتلك القدرات العقلية الكافية لفهم العالم. تتصف لغته، وبالتالي تفكيره، بالبدائية؛ ومُنحل، تتسم رغباته وممارساته الجنسية بـ»الحيوانية»؛ وكل هذه الصفات تجعله لا يدرك قيماً أساسية، على رأسها المُلكيّة الخاصة. هكذا انتُزِعت، عبر التاريخ، الموارد والثروات والأراضي من أيدي «الهمج»، وتعرضوا لأنماط شديدة التعقيد والتراكب من الاستغلال، بدعوى أنهم لم يتوصّلوا حتى لإنشاء نظام مقونن ومدوّن بشكل واضح للمُلكيّة، وبالتالي ليست لهم ذوات قانونية يمكن احترامها، أو الدخول في مساومات وتفاوض معها. كثير من الجرائم، التي رافقت ظواهر تاريخية، مثل الاستعمار والثورة الصناعية والعبودية الحديثة، تمّت تحت هذه الحجة. جانب كبير إذن من «المعرفة»، المؤدّية للتمييز والإبادة، قامت على الفصل بين «الهمجي» و»المتحضّر». ولكن هل هذا يعني أن مفردة «الهمجية» لا معنى لها، خارج هذا السياق؟ أو بعبارة أخرى: هل «الهمج» غير موجودين إلا في التصورات العنصرية والاستعلائية تجاه الآخر؟
الحوادث التي يشهدها كثير من دول المنطقة، قد تجعل طرح مثل هذه الأسئلة أمراً شديد الضرورة، إذ نعاصر أنماطاً من العنف، والحكم، والخطاب، صعبة الفهم حتى على أبناء تلك الدول أنفسهم. فإذا شهدنا، مثلاً، مجزرة طائفية، في قرية سورية أو عراقية أو يمنيّة ما، هل يحقّ لنا أن نصف مرتكبيها، وأفكارهم وممارساتهم، بالهمجية؟ أم أنها جزء من ثقافتنا، التي نستعلي عليها، ونتعامل بعنصرية مع أبنائها؟ يبدو السؤال تهكّمياً، ولكنه ليس كذلك. ربما كان التفكير في العنف المروّع في منطقتنا أحد أكثر المسائل إلحاحاً، وتحديد «الهمجية» فيه أساسي لفهم ذواتنا. هل مرتكبو كل تلك الفظائع هم «نحن»، أم «همج» جاؤوا من «خارج» ما؟
عنف «حضاري»
ربما يكون العنف «الحضاري»، الذي تقوم به دول وقوى سياسية منظّمة، أكثر هولاً بمراحل من العنف «الهمجي». إذ أن كثيراً من مجازر القرن الماضي، وعلى رأسها الهولوكوست، تمت بقرارات بيروقراطية؛ وتحت إطار قانون ما، بما يتضمّنه من حالات استثناء؛ وبدعاوى أيديولوجية، بل حتى فلسفية، لا ينقصها الاتساق النظري، وكانت تنتمي في زمنها لـ»الثقافة الرفيعة»، بل ربما ما تزال كذلك حتى أيامنا هذه. إلا أن كل هذا يجعل التجاوز النقدي لتلك المآسي مهمة ذات أطر محددة: هنالك نمط اقتصادي/اجتماعي، ونظام سياسي، ونص قانوني، وثقافة جماهيرية، وفلسفات ومرويات أيديولوجية، كانت السمات الأساسية للحضارة التي أنتجت المأساة. وقد تمحور جانب أساسي من الثقافة الغربية، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى على الأقل، على نقد أو «تفكيك» تلك الحضارة، التي وُصِفت أحياناً بالبورجوازية، وأحياناً أخرى بالغربية والكولونيالية. هل يمكن تطبيق الأمر نفسه على المجازر، التي نشهدها يومياً في دولنا؟ الإجابة الدارجة هي «لا»، إذ أن نقد حضارة ما، تُنتج كل هذا، يُعتبر من المحرمات في منطقتنا، ليس بسبب التعصّب الديني والقومي فحسب، بل أيضاً لأن دول المنطقة وشعوبها تعتبر من ضحايا «الحضارة البورجوازية» أو «الغربية» الاستعمارية إياها، وبالتالي فإن أي نقد «حضاري» هو تكرار للدعاوى الاستعمارية الاستعلائية تجاهها.
ممارسات مثل المجازر الجماعية والتطهير الطائفي ليست من حضارتنا إذن، إنها «ردات فعل»، خارج أي إطار ثقافي، أو قانوني، أو سياسي، أو أخلاقي نعترف به. إنها بالتالي حالة همجية شاملة، إلا أن هذه النتيجة غير مقبولة أيضاً في الثقافة السائدة، فمرتكبو تلك الجرائم، وجمهورهم، ليسوا همجاً، بل ضحايا للغرب والاستعمار، أو للأنظمة الاستبدادية، التي أنتجها الاستعمار، وهذا يعني أن سبب كل الأهوال التي نعيشها هو الأطر والحضارة والممارسات الغربية، التي ينتقدها المفكرون الغربيون أنفسهم منذ أكثر من قرن من الزمن، والتي جعلت مجتمعاتنا موطناً لـ»ردات فعل» الضحايا التدميرية. يبدو هذا كسلاً فكرياً شديداً من النخب في منطقتنا، وأشبه باحتيال أيديولوجي مفضوح. ولكن، حتى لو وافقنا عليه، فهو لا يجيب عن سؤال الهمجيّة. فأيّاً كان سبب ومبرر «ردات الفعل» الدموية والتدميرية، فهي إما تجري ضمن إطار ثقافي واجتماعي وأيديولوجي ما، يمكن تحليله وفهمه ونقده، وهو بالتأكيد جانب من «حضارتنا» المعاصرة، مهما كانت جذوره؛ وإما تجري خارج أي إطار، وبالتالي هي دليل على همجيّة شاملة.
المقلق أن مثل هذه الأسئلة غير مطروحة جديّاً في ثقافتنا، أي في ثقافة بلدان شهدت أهوالاً مثل الإبادة الإيزيدية؛ فظائع الحرب اليمنيّة والسودانية؛ المجازر الطائفية والعرقية، التي لم تنقطع حتى اليوم في سوريا. قد يعني هذا أن «الهمجيّة» موجودة أولاً عند من نسمّيهم «النخب»، الذين من المفترض أن أولى مهامهم التفكير بالبنى والأطر والأنظمة والمؤسسات والخطابات والمنتجات الثقافية، وعلى المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي فإن عدم طرح السؤال يدلّ على انعدام التفكير الممنهج، أو الغياب التام للمسؤولية، وكلا الأمرين من أعراض الهمجيّة.
نظام «همجي»
تنبني النظريات العنصرية عن الهمجيّة على القول بفرق جوهري ما، بين المتحضّرين والهمج، فالأخيرون إما من طبيعة عرقية أو ثقافية مغايرة، تمنعهم من الوصول إلى التحضّر؛ أو، في أحسن الأحوال، ما يزالون في مرحلة «طفولة البشرية»، وعلى المتحضرين، الذين بلغوا الرشد، عبء الأخذ بأيدهم نحو الحضارة الأسمى. إلا أن هناك تقليداً في علم الاجتماع المعاصر، من أعلامه مفكرون مثل نوربيرت إلياس، وتالكوت بارسونز، ونيكلاس لومان، وحالياً أوليفر ناختفاي، يدرّس عمليات التحضّر بعيداً عن أحكام القيمة العنصرية تلك: لا يتعلّق الأمر أساساً بحضارات متقدّمة وأخرى بدائية، وإنما قد يحصل عطب في الوظائف الاجتماعية الأساسية، وعلى رأسها عملية الاندماج الاجتماعي، يؤدي لنوع من نزع التحضّر في مجتمع ما. ويبدو أن «نزع التحضّر» هو أفضل وصف يمكن إطلاقه على ما نعايشه في مجتمعات المنطقة، بمسلّحيها وناشطيها ونخبها و»جماهيرها».
تبدو أنظمة السياسة والقانون، والأخلاق والدين، والفن، المرتبطة كلها بالتحديث الذي أجرته دول المنطقة، خاصة في عصر ما بعد الاستقلال، معطّلة بشكل شبه كامل، وباتت عاجزة عن تقديم الأطر، والإجراءات، والقواعد، والمعاني، والمؤسسات الوسيطة، الكافية لدمج الأفراد والمجموعات في كلٍّ اجتماعي معقّد. وإذا أضفنا إلى هذا اضمحلال العرف، بما في ذلك العرف العشائري والفلّاحي، بعد عقود طويلة من التعاطي مع أجهزة الدول القومية، فالنتيجة ستكون انفلاتاً للنزاعات الاجتماعية، خارج أي إطار حضاري لضبط وقوننة العنف. بمفردة أقل تهذيباً: الهمجيّة.
هذا المنظور ينبّه إلى أن من يمكن وصفهم بالهمج ليسوا منعدمي التفكير، أو معتمدين على نظام لغوي ورمزي بدائي، بل قد يكونون متأثرين بخزان فكري شديد التعقيد، يحوي أيديولوجيات، وعقائد، ومقولات، ورموزاً. إلا أن كل هذه العناصر صارت منفلتة من أي منهج منضبط لإنتاج المعنى، مع اضمحلال الأنظمة الاجتماعية الأساسية، وعلى رأسها السياسة والدين. يمكننا إدراك مدى خطورة هذا، إذا تذكرنا أن ذلك الخزان الفكري تطوّر بالأصل عبر أيديولوجيات لا تنقصها العدوانية والنزعة الإبادية، حملتها دول التحرر الوطني، مثل القومية والإسلام السياسي، فماذا سيكون الحال مع انهيار أنظمة إنتاج المعنى، عقب فشل تلك الدول؟
في الحالة السورية على سبيل المثال، يمكن ملاحظة خلائط غريبة من رواسب القومية العربية، المنحدرة من نظام البعث ومعارضته من اليسار القومي؛ الإسلام السياسي الجهادي، المرتبط بتجربة شديدة الدموية لتنظيم «القاعدة» وتفرّعاته؛ والمقولات الناشطية، التي درجت بعد الانتشار المكثّف لـ»المنظمات غير الحكومية»، بكل ما أجرته من «ورش عمل»، وما روّجته من مفاهيم، خلال السنوات الماضية. والنتيجة: يمكن أن تقع انتهاكات مصوّرة، مسيئة للكرامة الإنسانية؛ وأن تُرتكب جرائم عنف طائفي، عقب تحريض علني، دون أن يثير ذلك أزمة ضمير، لا على مستوى المتن الاجتماعي، ولا على مستوى «النخب».
ليس هذا مجرّد تقصير، بل يمكن وصفه بـ»نظام الهمجية»، رغم تناقض العبارة. لقد تبدّدت معظم أنظمة التحضّر في تلك البقعة الجغرافية، وما يبدو أنه بناء «نظام جديد»، ليس إلا إعادة تجميع لشتات مبعثر، خلّفته حروب البعث والقاعدة، ونشاط «المنظمات» في ما بينهما.
هل يمكن لـ»نظام الهمجية» هذا أن يتجاوز طابعه وظرفه الحالي، نحو بناء نظام مستقبلي أكثر تحضّراً؟ قلنا إن العبارة متناقضة، فالهمجيّة لا تُنتج أنظمة، بل هي نتيجة انحلالها. ربما يحمل المستقبل تطورات ومفاجآت غير متوقّعة، نظراً للتعقيد الشديد للعوامل السياسية والاجتماعية، الداخلية والخارجية، ولكنّ هذا لا يُعفي من محاولة فهم الهمجيّة الحالية، التي لا مؤشّرات حتى الآن على انكسار دوائرها المفرغة.
كاتب سوري
- القدس العربي