في كلمته التي أعقبت لقاءه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كرر الرئيس السوري أحمد الشرع جملة “الجمهورية السورية” أكثر من مرة من دون أن يستخدم الصيغة المتعارف عليها في وصف تلك الجمهورية بـ”العربية”.
هل هي مجرد زلة لسان، أم صيغة اعتمدها الرئيس الجديد ليعطي ملخصاً مكثفاً وإشارات وإجابات غير مباشرة على جملة واسعة من التساؤلات التي تتمحور حول شكل الدولة القادم ونوايا القيادة الجديدة في أسلوب تعاملها مع السوريين، ولا سيما فيما يتعلق بالمكونات غير العربية وعلى وجه الخصوص المكون الكردي؟
لا شك أن تصريحات الرؤساء لا يمكن أن تكون اعتباطية، فكل جملة بل وكل كلمة في خطاب أي رئيس وحتى الإيماءات والسكتات ولغة الجسد تعد إشارات ذات دلالة، فما بالنا برئيس لا يزال العالم كله يضعه تحت المجهر ويترقب تصرفاته وتصريحاته وخطاباته وكلماته ويراقبها بتركيز شديد للوصول إلى بنية تفكيره العميقة ومحاولة فهم توجهاته، أما السوريون فهم يتلهفون بدورهم لمعرفة كثير من التفاصيل التي يمكن أن تطمئنهم أن رئيسهم الجديد هو بالفعل رجل الدولة الذي يمكن المراهنة عليه في العبور إلى مرحلة آمنة وقيادة سوريا إلى الوجهة الصحيحة، ولهذا فإنهم يدققون في كل إشارة تصدر عن الرئيس ويحللون دلالاتها وأبعادها..
في أثناء زيارته إلى تركيا، لم يكن قد مضى على أحمد الشرع سوى أيام كرئيس لسوريا، وبالتالي فإن خبرته البروتوكولية ربما لم تكتمل بعد للتدقيق في كل مفردة يستخدمها، وعليه فإن إهماله لوصف الجمهورية السورية بالعربية قد لا يحمل كل تلك الدلالات، غير أن خبرة الشرع بالسياسة وطريقة تعامله مع مختلف القضايا، تدل على وعي تام بحساسية التصريحات، وهو ما يرجح أن إهماله لكلمة العربية أمر مقصود وواع ولا سيما مع تكرار التوصيف لأكثر من مرة، الأمر الذي يرجح أنه يقصد تماماً ما يقول..
ورغم ما يثيره حذف كلمة العربية في وصف الجمهورية السورية من حساسيات ومخاوف لدى فئات واسعة من السوريين الذين لا يتحملون وقع التسمية الجديدة -فيما لو كانت مقصودة ومعتمدة-، ولا يتخيلون سلخ سوريا عن ثوبها العربي، إلا أن إهمال كلمة “العربية” -في حال كان ذلك فعلاً مقصوداً من قبل الرئيس الشرع- سيكون من أكثر رسائله أهمية وذكاءً وعمقاً، وخاصة في ظل المشكلات البنيوية التي لا تزال عالقة مع غير العرب من القوميات السورية وبشكل خاص الكرد الذين يتوقون منذ عشرات السنوات لسماع اسم الجمهورية السورية بعيداً عن تقييدها بكونها عربية، ليس بسبب موقف من التسمية، بل لأن حصر الجمهورية بمكونها العربي وحده يثير حساسية الكرد ويشعرهم بأنهم ليسوا سوريين، وتلك كانت إحدى أوجه معاناة الكرد في أثناء حكم آل الأسد..
ثمة كثير من النظريات التي تؤكد أن حذف كلمة “العربية” في توصيف الجمهورية السورية لن يلغي بالضرورة صفة العروبة عنها، وإنما يؤكد على اتساع الجمهورية لكل الإثنيات والأعراق التي تسكن هذا البلد منذ آلاف السنين، بل إن مهر الجمهوريات بالطابع القومي أو الديني يحد من حجم الجمهورية ويضيّق مساحتها بالمعنى الوطني الشامل ويعلي من شأن المرجعية الأيديولوجية على حساب مفهوم المواطنة، وهذا العنوان (المواطنة) هو التوجه الأهم وهو ما نحن اليوم بأمس الحاجة للتمسك به دوناً عن كل العناوين الأخرى التي تحيل لانتماءات متعددة لا تنفي بالضرورة مفهوم المواطنة ولكنها تضيق معناه..
لقد استغل حزب البعث ومن بعده نظام الأسد مفهوم العروبة وحولاه إلى شعار فارغ من المعنى وتعيّشا عليه على مدار أكثر من خمسين عاماً وكانت النتيجة قطيعة مع معظم الدول العربية وعلاقة عداء مع بعضها وحالة من عدم الانتماء للقومية العربية إلا من خلال الشعار، في حين كانت علاقات النظام مع إيران الفارسية هي الأكثر حضوراً وخصوصاً بعد اغتصاب الوريث للسلطة في العام 2000، وهو الأمر الذي طمس ملامح الهوية العربية وربما كان ممنهجاً من قبل نظام الأسد رغم كل شعارات العروبة التي رفعها وتاجر بها..
وتبدو سوريا الجديدة اليوم أحوج لمواطنيها من أي وقت مضى بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية، فدروس الأعوام الأربعة عشر السابقة علمت السوريين مدى هشاشة الانتماءات غير الوطنية ومدى قابليتها للتفكك والتصادم والانقسام ومدى قابلية استخدامها وتوظيفها في صناعة الكراهية سواء من قبل الطغاة -حين يحتاجون لذلك كما فعل الأسد- أو من قبل الخارج -كما فعلت إيران- وصولاً للنزاعات والحرب الأهلية التي من شأنها أن تنهك الوطن وقد تنهي وجوده، وهو المصير الذي كان ينتظر سوريا لولا حدوث معجزة التحرير..
إن مفهوم المواطنة هو الحصان الرابح الوحيد الذي يمكن الرهان عليه في إنقاذ سوريا من أي سيناريو مظلم وسوداوي من تلك السيناريوهات التي كانت تهدد الوجود السوري، وبالتالي فإذا كان الرئيس الشرع قد تعمد إهمال وصف الجمهورية بالعربية فإن ذلك سيكون دليلاً على حنكة سياسية وحرص على سوريا وليس دليلاً على التخلي عن البعد العروبي، وسيكون إعلاناً لأولويات بناء الدولة في اعتمادها على الروابط الوطنية العميقة وليس على الانتماءات الهوياتية المتعددة..
كما تأتي هذه الإشارات في مرحلة شديدة التعقيد والخطورة، فلا تزال قوات سوريا الديمقراطية تشكل تهديداً كبيراً لوحدة الدولة السورية، ولا تزال المفاوضات مع قسد تمر بمرحلة حرجة وسط تخوفات كثيرة للكرد غير المنتمين لقسد أيضاً في أن تبقى نظرة الدولة الجديدة لهم متشابهة مع نظرة دولة الأسد بكل ما تعنيه من اضطهاد وتهميش، ومن هنا فإن استخدام الرئيس مصطلح الجمهورية السورية في هذا الوقت سيشكل ضغطاً كبيراً على قوات سوريا الديمقراطية وسينزع أهم الذرائع التي لا تزال تقف عقبة أمام المصالحة الكردية العربية..
إن استخدام توصيف العربية في وصف الجمهورية اقترن لدى الكرد بمعاناتهم الأساسية بتوجهات حزب البعث وبكل ما مثله ذلك الحزب من اضطهاد وقهر لهم على مدار العقود السابقة وأثار لديهم الإحساس بالإقصاء وبأنهم ليسوا مواطنين من الدرجة الأولى، وقد آن لهذه الإشكالية أن تجد حلاً منطقياً يعتمد على تصدير المواطنة كعنوان رئيسي.
وفي هذه المناسبة يمكن التركيز على أن مزايا وجود الكرد في النسيج السوري وشعورهم بأنهم مواطنون من الدرجة الأولى في بلدهم، سيبدو أكثر أهمية من توصيف الجمهورية بشعار العربية وتقييدها ببعد أيديولوجي معين.
بالطبع ليس من حق الشرع أن يقرر حذف توصيف الجمهورية بالعربية، فذلك يحتاج إلى مراجعات دستورية، غير أن إشارات الرئيس تدل على انفتاح على هذه المسألة، كما تدل على نوايا للمضي بالدولة وفق المفهوم المدني الواسع المنفتح على جميع المكونات والذي من شأنه أن ينهي أكثر من خمسين عاماً من احتكار سوريا من قبل أصحاب الشعارات المتاجرة بالمفاهيم كما فعل حزب البعث ونظام الأسد..
تبدو سوريا اليوم على مفترق طرق صعب، وكلما زادت إشارات الانفتاح والتطمين من قبل القيادة كلما شكل ذلك رابطاً جديداً يوحد الشعب حول انتمائه لسوريا، ويضمن اقتلاع أسباب جوهرية للخلاف بين مختلف مكونات الشعب، ويفكك القنابل الموقوتة التي تهدد سوريا بالانفجار عند أي تحول..