هناك حالة سورية لبنانية جديدة فرضتها المتغيرات والتحولات الداخلية في البلدين وكذلك عوامل إقليمية مؤثرة ينبغي قبولها واحترامها والتعامل معها على هذا الأساس.
المسألة في غاية البساطة هناك سلطة سياسية جديدة في سوريا وهناك حكم لبناني جديد في لبنان. كلاهما يريد بداية حقبة مغايرة في العلاقات تنهي حالة التدخل في الشؤون الداخلية وتقديم مصالح بعض القوى الإقليمية على مصالح الشعبين، وتضع حدا للفوضى الحدودية التي استغلها نظام الأسد لعقود واستفادت منها بعض مجموعات التهريب والتنظيمات المسلحة المحسوبة على إيران.
المسألة هذه المرة ليست بمثل هذه السهولة فالمشهد الجديد يستدعي كما أعلن في دمشق وبيروت حماية الحدود المشتركة بطول 375 كلم واحترامها وإنهاء الوضع القديم الذي فرض على الطرفين لأكثر من 5 عقود، وهو ما لا يعجب بعض المتنفذين والمتنفعين تجاريا وسياسيا وحزبيا، لكنه وربما هنا الأهم سينهي الخروقات الأمنية والعسكرية ويضع حدا لعمليات نقل السلاح عبر الأراضي السورية إلى الداخل اللبناني بقرار إيراني.
اعتبارا من صباح الثامن من كانون الأول السوري والتاسع من كانون الثاني اللبناني ظهر إلى العلن واقع مغاير يحمل معه كثيرا من المؤشرات التي تنهي مقولة “الخاصرة الرخوة” في علاقات البلدين، ويعلن أن مستلزمات المرحلة الجديدة تتطلب قراءة واقعية عملية مشابهة لطريقة تعامل عشرات العواصم العربية والغربية مع الواقع اللبناني والسوري الجديد.
لا حاجة لقلق بعضهم بسبب الاشتباكات العسكرية في مناطق الحدود اللبنانية السورية القيادات الأمنية والعسكرية تتعامل معها ولن تسمح باتساعها وتفاعلها وتحولها إلى أزمة سياسية تتفاقم وتستدعي نشر قوات فصل إيرانية مثلاً.
بقدر ما هناك إصرار سوري على إنهاء الوضع الشاذ في المناطق الحدودية بين البلدين، هناك تمسك لبناني بنشر وحدات الجيش وسيطرته على الوضع ومنع تواجد عسكري مسلح لغير قوات الأمن والفصائل العسكرية النظامية. صحيح أن انتشار القوات السورية واللبنانية الشرعية والنظامية على الحدود المشتركة سيكون على حساب شبكات التهريب ونقل السلاح والعبور غير الشرعي، وأن صعوبته بالنسبة لبعضهم هو أنه سيغلق الخطوط والممرات العسكرية الجانبية التي كان يستفيد منها للتنقل كما يشاء وأن عليه البحث عن وسائل وطرق جديدة بعيدة عن الحدود المشتركة هذه المرة لإدخال السلاح. لكن الرمزية السياسية لما يجري هي أنها تنهي دخول وخروج مجموعات “حزب الله” والميليشيات والعناصر الممولة إيرانيا من الأراضي اللبنانية باتجاه الجانب السوري تحت ذريعة الدفاع عن النظام. ما يجري يغضب طهران أولا وأخيرا لأنه يضع حداً لتحركها العسكري كما تريد في تلك المنطقة، وينهي خطوط الإمداد الإيراني الإستراتيجي على حساب البلدين بعد عقود من التسيب والفلتان وهي لن تقبل بخسارة هذه الجغرافية بسهولة. التخادم الإيراني وبعض العشائر التي تعيش على خط الحدود اللبنانية السورية هو المستهدف هذه المرة بقرار سوري لبناني مركزي وبدعم إقليمي يهدف لإنهاء حالة الفوضى والخروقات وغياب السلطة.
هناك عواصم عربية وإقليمية تريد أيضا تجيير تطورات المشهد في البلدين إلى وسيلة بناء علاقات جديدة يحتاجها كلا الطرفين وتتطلبها المرحلة الإقليمية القائمة، بهدف توسيع رقعة التعاون التجاري والخطط الإنمائية
الجيش اللبناني لم يدخل وسيطاً في مسألة تعنيه مباشرة وهو يسترد السيطرة والسيادة على أراضي لبنانية حدودية، كانت لسنوات طويلة تحت سيطرت مجموعات خارجة عن القانون. والقرار السياسي جاء مشتركا بين بيروت ودمشق على طريق بناء الثقة في المسار الجديد بالنسبة للبلدين. ما يجري اليوم يشكل فرصة تحريك قوة دفع سياسية لا يجوز التفريط فيها. واضح جداً أن هناك عواصم عربية وإقليمية تريد أيضا تجيير تطورات المشهد في البلدين إلى وسيلة بناء علاقات جديدة يحتاجها كلا الطرفين وتتطلبها المرحلة الإقليمية القائمة، بهدف توسيع رقعة التعاون التجاري والخطط الإنمائية والاستفادة المشتركة من الموارد الطبيعية والكهرباء والمياه والطاقة المدفونة في قعر السواحل البحرية التي تجمعهما. هذا إلى جانب ملفات اللجوء والهجرة غير الشرعية ومواجهة التهديدات الأمنية المشتركة والتنسيق في ملفات إقليمية تعنيهما.
كانت القوى الإقليمية والدولية وحتى الأمس القريب تؤثر سلباً على مسار العلاقات اللبنانية السورية. الوضع تغير اليوم فمصالح كثيرين باستثناء إسرائيل تتطلب دعم التقارب السوري اللبناني بعد متغيرات الداخل في البلدين في الأسابيع الأخيرة. الدعم العربي والغربي المقدم للجانبين على طريق التغيير في الداخل لا يجوز التفريط به، لأنه قد لا يكون هناك فرص مشابهة مرتبطة بالتحولات السياسية الحاصلة اليوم في الإقليم. المطلوب الآن هو عدم التفريط بالإرادة السياسية الموجودة في الجانبين المصحوبة بأجواء إرادة إقليمية تسير لصالحهما على طريق إخراج البلدين مما هما فيه.
التأزم والانفراج في العلاقات بين بيروت ودمشق كان لها ارتداداتها على علاقاتهما بالإقليم وكذلك نظرة الإقليم إليهما. دخلت سوريا الأسد بشكل مباشر إلى لبنان بعد العام 1975. ثم أشركت إيران في العام 1982. حاول نظام الأسد الاستقواء بمعاهدة ” الأخوة والتعاون ” في العام 1991. لكنه غادر الساحة اللبنانية في العام 2005 بعد ارتدادات جريمة اغتيال رفيق الحريري. فاتحا الأبواب أمام حليف إيران اللبناني “حزب الله” ليدخل إلى لبنان من دون علم المسؤولين ويبقى هناك حتى مطلع كانون الأول الماضي.
عقود طويلة عاشها لبنان تحت تأثير تدخلات نظام الأسد. بالمقابل عاش الشعب السوري 13 عاما كان لبعض القوى اللبنانية تأثيره السلبي فيها. القوى العربية قادرة هنا على إنهاء هذا الوضع. دور المجموعة العربية هو محوري نظرا للتاريخ المشترك الذي يجمعها بالطرفين، ووسط حاجتهما للدعم الاقتصادي والاستثمارات العربية في هذه المرحلة، لكن ما هو بين الأهم ربما، غياب شبح إيران الذي حوم لعقود في سماء البلدين.
اعتبارا من صباح الثامن من كانون الأول السوري والتاسع من كانون الثاني اللبناني ظهر إلى العلن واقع مغاير يحمل معه كثيرا من المؤشرات التي تنهي مقولة “الخاصرة الرخوة” في علاقات البلدين، ويعلن أن مستلزمات المرحلة الجديدة تتطلب قراءة واقعية عملية مشابهة لطريقة تعامل عشرات العواصم العربية والغربية مع الواقع اللبناني والسوري الجديد. الترجمة العملية الأولى كانت عبر اتصال التهنئة الذي أجراه الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس اللبناني المنتخب جوزيف عون وذلك بعد ساعات من استقباله رئيس حكومة تصريف الأعمال وقتها نجيب ميقاتي. دلالات سياسية مهمة في مرحلة حساسة بالنسبة للبلدين في منتصف الشهر الماضي، إذ لم يكن البعض في لبنان ينتظر هذا التحول السياسي والحكومي السريع في مشهد عكس معه كثيرا لناحية تزامن المتغيرات في البلدين.
نظم أهالي الموقوفين السوريين في سجن رومية اللبناني وقفة احتجاجية عند معبر جوسية الحدودي بين سوريا ولبنان، مطالبين بالإفراج عن أبنائهم على خلفية الثورة السورية أو تسليمهم للسلطات السورية. ثم أعلن مشايخ العشائر اللبنانية الحدودية مع سوريا أنهم تركوا الأمور إلى الدولة اللبنانية وقيادة الجيش والأجهزة المختصة لتتعامل مع متطلبات الوضع الأمني القائم على الحدود المشتركة. تحسن العلاقات السورية اللبنانية يتطلب جهدا كبيرا بسبب أكثر من أزمة سياسية وأمنية بين الطرفين. لكن التواصل الرسمي وإعطاء المصالح المشتركة واحترام السيادة الوطنية لكلا البلدين الأولوية، والتعاون في المجالات الاقتصادية والأمنية، والابتعاد عن التدخلات في الشؤون الداخلية هو وحده مفتاح تحقيق استقرار دائم بين البلدين.
من الصعب تحليل شكل العلاقات السورية اللبنانية بعيدا عن العوامل الإقليمية المحيطة التي كانت دائما عقبة أساسية أمام مسار هذه العلاقات. كان لإيران وإسرائيل تحديداً دورهما السلبي الكبير في رسم معالم هذه العلاقة. المتغيرات الحاصلة في المنطقة تتحول اليوم إلى فرصة للالتفاف على الكثير من الرواسب والخلافات وأسباب التباعد، ويبدو أن القيادات السياسية في البلدين لا تريد التفريط بها.
- تلفزيون سوريا