سباق لفظي محموم وفتوحات قولية نهاياتها مفتوحة، وعلى غير احتمال، هي السمة الغالبة على جلّ، إن لم نقل جميع، الحلول الاقتصادية أو الخطط المقترحة، لخروج الاقتصاد السوري من مستنقع الخراب الذي أغرقه به حكم الأسدين، منذ نيف ونصف قرن. وربما عدم الدراية بواقع الاقتصاد السوري هي تهمة، حسنة النية، لمن يطرح تلك الحلول، أو استعراض ومحاولة سرقة الضوء، وفق النوايا المختلطة ومحاولة حجز مكان ومكانة بكراسي سورية الفارغة.
وقد يصل الشك إلى سوء النوايا، حينما يكون المقترح أو الخطة، “مفصّلة” على مقاس قائلها أو تخدم مصالح من يقدّمها، بغض النظر عن مدى مساهمتها في الاقتصاد المريض، أو تناسبها مع صيرورة أرخت تبعات وأحدثت بنية عامة، ليس من البساطة نسفها، لما يمكن أن تترك خللاً بنيوياً بالاقتصاد أو تحدث كوارث اقتصادية واجتماعية، ربما أولها البطالة وأقصاها رهن الاقتصاد، وحتى سياسة الدولة، لدول أو مؤسسات مالية، لن تترك حلم السوريين يتحقق، بواقع شروط وعراقيل ووصفات، لا قدرة لسورية والسوريين على تطبيقها أو تلبية شهوات المانحين والمقرضين، أو حتى مقترحي تلك الحلول المشبوهة.
قصارى القول: سمعنا، حتى ممن تبوأ مناصب رسمية إلى جانب ضيوف القصر الرئاسي الكثر، أن اقتصاد السوق هو النمط الاقتصادي الذي ستضعه الدولة وتسير عليه القطاعات الاقتصادية، من دون أن نسمع، من الحكومة أو الضيوف، كيف لاقتصاد، كما الاقتصاد السوري اليوم، أن ينهج اقتصاداً حراً مفتوحاً، من دون أن يتهدد بالتلاشي، أو يتحوّل إلى سوق حرة بأحسن الأحوال.
فقبل بناء الزراعة وإعادة هيكلة ودعم الصناعة وضبط قوائم المستوردات، ليس لدى سورية ما يقيها من تهافت الإنتاج الخارجي الذي سيأتي على بنيتها الإنتاجية وينهي إرثها الصناعي وخصوصيتها الزراعية. وسمعنا من المسؤولين المؤقتين والضيوف الدائمين، عن إحياء اتفاقيات التجارة الحرة وإزالة الرسوم، مع بعض دول الجوار، وربما يتمادى هؤلاء، ليطالبوا بتوأمة وتحرير التجارة وصفر رسوم، مع دول عريقة ومتقدمة، إن بالإقليم أو ما بعده، متناسين أن الانفتاح على تلك الدول، بواقع مرض الاقتصاد السوري، يمكن أن يهدم ما فاض عن سياسة الأسدين، من بنى وهياكل اقتصادية، ويدفع الصناعة إلى إعلان استسلامها والرساميل هجرتها، في زمن هو أحوج ما تكون خلاله سورية، لكل دولار ولأي مشروع، يستثمر موادها الأولية لأقصى قيمة مضافة ويمتص ولو جزءاً من البطالة التي تزيد عن 80%، ويستعد لاستقبال الداخلين الجدد إلى سوق العمل.
ولم تقتصر حالات “التنجيم” أو الخطط غير المدروسة أو المسؤولة، على الضيوف والمسؤولين المؤقتين، بل قرأنا وسمعنا لمسؤولين أممين، طروحات منفصلة بالمطلق، عن واقع سورية واقتصادها المترنح، فمرة يتحدثون عن خصخصة، وأخرى عن دمج مؤسسات، إنتاجية ومالية وخدمية، وثالثة عن قروض دولية بذريعة إفلاس البلاد، وضرورة الإسراع بالإعمار، وتسريع دوران عجلة الإنتاج. ويردف كل قوّال أمانيه أو ما سمعه وقرأه على عجالة، بما يستأهل من غلفنة لها علاقة بالحرص والوطن والإنسانية.
خلاصة القول: المتعارف والمعمول به عالمياً، أن الشركات وحتى الدول، تطرح مناقصة خلال شراء آلة أو خطوط إنتاج لمنشأة أو تجهيزات لبنى تحتية، تحدد خلالها الشروط الفنية والتشغيلية والسعر، في حين قلما نسمع عن مناقصة للخطط، أو لمن سينفذها، أو سيشغّل الآلة، أو يدير خطوط الإنتاج، أو يشرف على تنفيذ وتأهيل البنى.
بمعنى مباشر، لماذا لا تعلن سورية عن مناقصة، إن صحت التسمية، لخطط واقتصاديين ومسؤولين يديرون الاقتصاد السوري، تحدد خلال المناقصة الشروط والمواصفات والكفاءة، وتطلب ملاءمة الخطة ووضوحها وإطار تنفيذها الزمني، وتلزم، قبل فض العروض، المتقدمين بعدم استثمار مالهم الخاص، أو استغلال المنصب والمال العام، وتفرض فريقاً للعمل أو العمل وفق الفريق، وتؤكد، بشرط جزائي، على تنفيذ مرحلي بأزمان ونسب ومواصفات محددة.
إذ وجراء المتابعة، لاحظنا أن كل مقترح ومدعي إنقاذ، يشد الحبل لطرفه، فالعامل بقطاع النفط يركز على الطاقة، ومستثمر الخدمات يوصي بالفنادق، والتاجر يدعم خطة تحرير الأسواق والتجارة، ليأتي ممثلو المنظمات أو سماسرة المؤسسات والدول، بطروحات أكثر جرأة وضبابية وخطراً، كما سمعنا عن خصخصة أو تشاركية ونسف لخصوصية سورية الزراعية والصناعية، طبعاً بعد أن كرسوا واقعاً محبطاً وسدوا الطرق على تنمية ذاتية أو انطلاقة محلية.
ما قد يوصل سورية، بواقع الاستجابة ولو لجزء من تلك الخطط أو تنصيب هؤلاء المستوزرين، إلى مزرعة، يصعّب بعد التورّط، على الحكومة وحتى الدولة، تحديد ملامح الاقتصاد وضبطه بنهج ونمط ورقابة، أو تسخيره لما يمكن أن يطور وينمي وينقل السوريين من واقع البؤس، مهما حاولوا وادعوا أنهم يعلمون مقاصد المقترحين ومسايرتهم، بحجة أن الوضع ضاغط والحاجة ماسة، أو بذريعة التوازنات وفتح العلاقات.
- العربي الجديد