وأخيراً، أدلى عبد الله أوجلان ببيانه المتوقّع من سجنه في جزيرة إمرالي (جنوب بحر مرمرة قرب إسطنبول)، في حضور وفد من البرلمانيين من أعضاء حزب الديمقراطية ومستقبل الشعوب، ليتسلّم منه هؤلاء نصّ البيان، ويعلنوه على الملأ ضمن لقاء عام في إسطنبول، نُقِلت وقائعه عبر الشاشات إلى الساحات في جملة من المدن في كردستان تركيا، إلى جانب بثّ البيان عبر مختلف وسائل الإعلام المحلّية والعربية والدولية. أمّا مضمون البيان، فقد تمثّل في الدعوة إلى التخلّي عن السلاح من مجموعات عديدة مرتبطة بحزب العمّال الكردستاني، إلى جانب الدعوة إلى حلّ الأخير في مؤتمر عام له. وجدير بالذكر أن هذا البيان جاء بعد سلسلة من التصريحات واللقاءات بين الوفد المشار إليه، الذي عرف باسم وفد إمرالي، والأحزاب التركية المُمثَّلة في البرلمان، إلى جانب اتصالات بين مسؤولين في الأجهزة التركية وأوجلان نفسه. وقبل ذلك، كانت مبادرة زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت بهتشلي، والتي طالب من خلالها بالسماح لأوجلان بالقدوم إلى البرلمان ليدلي بالبيان المعني أمام الكتلة البرلمانية لحزب الديمقراطية ومستقبل الشعوب، الذي يُعدّ واقعياً الواجهة السياسية العلنية لحزب العمّال، على أن يحصل أوجلان في مقابل ذلك على حقّ الحياة والحرّية، ومن ثمّ كانت إشادة الرئيس التركي أردوغان بالخطوة من دون أن يقدّم مبادرة سياسية واضحة بخصوص تصوّره لملامح حلٍّ للمسألة الكردية في تركيا ضمن إطار وحدة الشعب والوطن.
تراجع شعبية الائتلاف الحاكم في تركيا يفرض تحالف الحكومة مع الحركة القومية، ومقاربة القضية الكردية بصيغة أكثر مرونة
لافت في السياق حرص وفد إمرالي على السفر إلى إقليم كردستان العراق، واللقاء بالمسؤولين فيه، ولا سيّما الرئيس مسعود بارزاني، الذي لم يعد يُنظر إليه كردياً بوصفه رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق، وإنما زعيم الشعب الكردي بصورة عامّة، وذلك بعد مسيرة نضالية حافلة بالإنجازات السياسية والعسكرية، وعلاقاته المتوازنة مع مختلف الأطراف الكردية والعراقية والإقليمية والدولية. وقبل ذلك كان الرجل قد استقبل قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، ضمن جهودٍ تبذل بالتنسيق مع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية، ومع تركيا، في سبيل إيجاد حلّ مقبول لمسألة اندماج الكرد في سورية سياسياً وعسكرياً، ضمن مشروع إعادة هيكلة الدولة السورية وبنائها بمؤسّساتها المختلفة. وجدير بالذكر هنا أن هذه المبادرة السلمية من أوجلان لا تُعدّ الأولى، وإنما هي واحدة من عدة مبادرات سبقتها، تحوّل بعضها مادّةً للحوارات والمناقشات بين ممثّلين عن الحكومة التركية والحزب المذكور، ولكنّها أخفقت، وكانت حصيلة الإخفاق تجدّد العمليات القتالية بين الطرفَين. ولكن ما يضفي أهميةً خاصّة على مبادرة أوجلان هذه المرّة أنها تأتي في ظروف بالغة الدقّة تمرّ بها المنطقة منذ هجوم إسرائيل على غزّة بعد “طوفان الأقصى”، وبعد إنهاء قوة تأثير حزب الله في لبنان عبر قتل معظم قياداته وكوادره من الصفّ الأول من المدنيين والعسكريين، ومن ثم انهيار حكم بشّار الأسد في سورية، وتلاشي الوجود العسكري الإيراني وأذرعه من المليشيات في سورية (العلني على الأقلّ). هذا إلى جانب الأوضاع المتشنجة في العراق، والمساعي الأميركية الإسرائيلية من أجل تحجيم التأثير الإيراني إلى أقصى حدّ ممكن.
فاليوم، هناك من جهة مساع أميركية، وغربية على وجه العموم، لإيجاد حلّ لموضوع كيفية دمج قوات “قسد” مع الجيش السوري الجديد، الذي لم تكتمل ملامحه النهائية بعد، وهي جهود تنسجم مع رغبة واضحة من التحالف الدولي لمحاربة “داعش” في البقاء إلى إشعار آخر في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية، ربّما بهدف الاحتفاظ بأوراق الضغط في الداخل السوري، والبقاء، في الوقت نفسه، بالقرب من العراق، وحتى من الجنوب السوري عبر قاعدة التنف، استعداداً للمتغيّرات التي قد تشهدها المنطقة في مختلف المستويات.
هذا إلى جانب حقيقة أن الوضع التركي الداخلي يفرض هو الآخر على الحكومة التركية الحالية، التي يقودها حزب العدالة والتنمية بالتحالف مع الحركة القومية (المتطرّفة)، مقاربة القضية الكردية بصيغة أكثر مرونة، فهناك تراجع في شعبية الائتلاف الحاكم لأسباب عدّة، في مقدّمتها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تركيا منذ سنوات، وهي أزمة تُنهك أصحاب الدخل المحدود، وحتى قسماً من الفئات الوسطى التركية، وهو الأمر الذي يستغلّه حزب الشعب الجمهوري عبر ماكينته الإعلامية، ويوظّفها ضمن إطار استعداداته للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة. لذلك، يريد الائتلاف الحاكم من خلال الانفتاح البراغماتي على حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، إعطاء وعود تبشّر بحلّ عائم غير ملموس.
تجاوب أوجلان في بيانه أخيراً مع مبادرة سلمية، حتى ولو كانت ناقصة، طرحتها الحكومة التركية بخصوص القضية الكردية، تحدّثت عن حقّ الحياة أو الحرّية لأوجلان، وعن الأخوّة الكردية التركية، ولكن لا يوجد أي ذكر للحقوق التي يمكن أن يحصل عليها الأكراد، رغم أن الحكومة التركية بادرت في السنوات المنصرمة إلى خطوات عدّة، كان مجرّد التفكير فيها يعد سابقاً من الأحلام المحفوفة بالمخاطر. ومنها افتتاح محطّة تلفزيونية كردية رسمية، إلى جانب السماح بتأسيس مراكز النشر الكردية لطباعة الكتب الكردية وتوزيعها في مختلف الاختصاصات، فضلاً عن افتتاح الأقسام الكردية في جامعات في جنوب شرقي تركيا، وهي المناطق التي تدخل ضمن إطار كردستان تركيا، وقد شكّلت تلك الخطوات وغيرها تحوّلات نوعية في العقلية السياسية التركية تجاه المسألة الكردية في البلاد، المسألة التي يمكن أن تكون جسراً للتواصل بين تركيا ودول المنطقة، التي فيها وجود كردي لافت على صعيدي الأرض والشعب، عوضاً عن النظر إليها مشكلة تستوجب التعاون بين دول المنطقة المعنية في سبيل الحدّ من تبعاتها، ومحاولة التخلّص منها قدر الإمكان.
ولعلّه من الكلام المُكرّر، إذا أشير إلى أن انفتاح تركيا على أكرادها، وحلّ قضيتهم على أساس عادل، وهي قضية تخصّ وفق التخمينات بين 20 إلى 25 مليون إنسان، سيكون في صالح تركيا أولاً، ولصالح كردها، ولصالح تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها. كما أن مثل هذا الحلّ سيمكّن تركيا من تطوير علاقاتها مع دول أوروبا الغربية، ومع الولايات المتحدة أيضاً. هل ستتجاوب قيادة جبال قنديل (القريبة من إيران)، مع دعوة أوجلان، وتعلن قبولها التخلّي عن العمل المسلّح، بل تذهب إلى حدّ حل حزب العمّال الكردستاني، للانتقال إلى مرحلة جديدة تشهد الانتقال إلى اعتماد العمل السياسي السلمي، والقطع مع العمل المسلّح؟ … هذا هو السؤال الأهم الذي يطرحه اليوم المؤيّدون والمعارضون لمبادرة أوجلان، أو وبكلام دقيق لدعوة أوجلان، التي لا تتضمّن أيَّ مطالب، ولا تقدّم خريطة طريق مع تحديد السقف الزمني. وإنما ما هناك كلّه مطالبة غير تفصيلية بإلقاء السلاح من دون أيّ توضيح للجهات أو المجموعات التي يشملها هذا المطلب، ولعلّ هذا ما يُفسّر التصريح الذي أدلى به مظلوم عبدي، الذي أشاد فيه بنداء أوجلان “التاريخي”، على حدّ قوله، ولكنّه بيّن أنه نداء لا يقصدهم أو يعنيهم، خاصّة أنه قد سبق له أن صرّح بأنهم ليسوا تابعين تنظيمياً لحزب العمّال الكردستاني. هل يقصد أوجلان بدعوته الوحدات العسكرية التي شكّلها حزب العمّال في منطقة سنجار بالتنسيق مع وحدات الحشد الشعبي، التي تحصل على السلاح والأموال من ميزانية وزارة الدفاع العراقية، بينما هي تتبع في واقع الأمر التعليمات والأوامر الإيرانية؟ أم يقصد قوات حزب العمّال بصورة عامة، ولا سيّما المتمركزة في قنديل، وفي مناطق عدّة في إقليم كردستان العراق، وربّما حتى في الداخل التركي؟ والسؤال الآخر الذي يُطرح بإلحاح في السياق ذاته: هل هناك مبادرة جادّة من الائتلاف الحاكم في تركيا، ومن حزب العدالة والتنمية على وجه التخصيص، لمعالجة الموضوع الكردي بغية التوصّل إلى صيغة حلّ عادل يكون في صالح الجميع، أم أن الموضوع لا يعدو كونه مجرّد صفقة بين أوجلان والأجهزة التركية، لكي يتمكّن أوجلان من الحصول على حرّيته، أو على الأقلّ استبدال الإقامة الجبْرية بالسجن؟
لا تتضمن دعوة أوجلان مطالب ولا تقدّم خريطة طريق بسقف زمني محدّد
السؤال الأكثر إشكالية: هل سيرضى النظام الإيراني الذي استثمر كثيراً، بالتنسيق مع سلطة آل الأسد في عهدي الأب والابن، بالتخلّي عن ورقة حزب العمّال، ممثلاً في قيادة قنديل، ويسمح بفتح الطريق أمام تركيا لتتصالح مع كردها، الأمر سيجعلها في موقع تستطيع بفعله ممارسة التأثير في المجتمعات الكردية التي ظلمتها مصالح الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وكانت الحصيلة تقسيم الكرد بين دول ذات ثقافات وتوجّهات واستراتيجيات متباينة؟
هذه الأسئلة (وغيرها) تفرض نفسها على المتابعين لأبعاد وخلفيات بيان أوجلان، وهو البيان الذي ينتظر جواب الحكومة التركية، المفترض أن يكون في صيغة مشروع حلّ يُجسّد وجهة نظرها بشأن القضية المعنية، ليغدو هذا المشروع موضوعاً للنقاش بين مجمل القوى السياسية في تركيا حتى يتم التوافق على حلّ مقبول يكون في مصلحة الجميع في تركيا نفسها، وفي الإقليم برمته.
- العربي الجديد