حصل المحذور في تمرد الساحل السوري عسكريا، كما كان متوقعا وحذر منه خبراء ومحللون أمنيون من عرب وغربيين، ورغم فشل محاولة التمرد التي يقودها ضباط أمنيون وعسكريون في جيش النظام المخلوع، على رأسهم العميد الركن غياث دلا، قائد قوات الغيث في الفرقة الرابعة ورجل اللواء ماهر الأسد المقرب، فإن السلطات السورية الجديدة لم تتمكن من فرض الأمن.
وبالفعل، أوقع فلول النظام مدعومين من أطراف إقليمية ودولية الإدارة السورية الجديدة في فخ نصب لها بعناية، حيث جُرت إلى معركة غير مستعدة لها، بدأت في منطقة بيت عانا والدالية في عمق جبال الساحل السوري، تحرك خلالها مئات المسلحين من فلول النظام السابق في خطة متسقة للغاية، متوزعين في عدة قطاعات بدأت من طرطوس جنوبا وصولا لشمال مدينة اللاذقية. واتضح لاحقا أن الهدف من العملية هو فرض واقع عسكري وأمني يحدث منطقة يسيطر عليها فلول النظام المخلوع، تؤدي لاحقا إلى تدخل روسيا بشكل مباشر بهدف حماية الطائفة العلوية.
سيطر فلول النظام على مناطق متعددة بين بانياس وجبلة واقتحموا مقر القيادة البحرية في قلب مدينة اللاذقية وأسروا عناصر الأمن العام في عدة مخافر منتشرة في الساحل ساعة الصفر يوم السادس من آذار (مارس) الجاري. فقدت وزارة الدفاع القيادة والسيطرة وطلبت قوات إسناد من كافة الفصائل السورية المنضوية تحتها، ووصل عشرات آلاف المقاتلين إلى الساحل السوري، وسلكت القوات المؤازرة طريقي إدلب – اللاذقية /M4 وطريق حمص – طرطوس، وتبين أن فلول النظام قد نصبوا كمائن على المحورين المذكورين لمنع أي تقدم باتجاه الساحل، وبشكل أقل نصبت كمائن على طريق بيت ياشوط وطريق مصياف – بانياس مرورا بالقدموس وهما الطريقان الأكثر خطورة إذا ما تمت المقارنة بالطريقين الأولين. ونجح عناصر النظام السابق بايقاع أعداد كبيرة من القتلى في صفوف قوات الأمن العام، قتل أغلبهم وهم مكبلو الأيدي أو اعدموا ميدانيا وهم أسرى وعزل من سلاحهم.
السيطرة العسكرية
استعادت قوات الإدارة السورية الجديدة السيطرة على مدن الساحل بشكل كامل وترافقت تلك السيطرة مع هجمات شبه يومية على الحواجز والمقرات العسكرية خلال ساعات الليل، ونصبت كمائن ليلية متعددة خصوصا في مقطع الطريق بين طرطوس وبانياس حيث يقع الطريق الدولي أسفل الجبال بشكل مباشر وهو ما يجعل أي قناص متمركز ومتحصن في نقطة غير معروفة يقطع الطريق ناريا ويستهدف القوات العسكرية للإدارة. وبهذه الطريقة سجل مقتل أكثر من 200 مدني أغلبهم على الطرق الرئيسية حسب ما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
إلى ذلك، تستمر كمائن فلول النظام ضد القوات الحكومية من دون توقف – حتى كتابة هذا التقرير يوم السبت – خصوصا ليلا، حيث تتحرك فلول النظام بشكل مريح فيما تتوقف العمليات العسكرية للإدارة الجديدة. وتوقع الخبير الأمني والعسكري العقيد خالد المطلق استمرار العمليات العسكرية في حال بقاء الواقع السياسي على حاله. وأشار في اتصال مع «القدس العربي» إلى أن «الحسم العسكري عملية غير ممكنة» وعزا ذلك إلى عدة أسباب، أهمها أن فلول النظام السابق «أبناء الأرض ويعرفون خباياها وطرقها الثانوية والفرعية بين الغابات والجبال والأحراش، كما أنهم مدربون بشكل كبير ويمتلكون خبرة قتالية في حرب العصابات نتيجة مئات المعارك التي خاضوها في عدة محافظات سورية».
تحديات الاستدامة الأمنية
تثبت التكتيكات المتبعة للقوى العسكرية والأمنية في الساحل السوري غياب استراتيجية أمنية فعالة وواضحة لحل أزمة أبناء الطائفة العلوية بالعموم، حيث تقتصر ردود الفعل على حملات تفتيش غير منتظمة ولا تعتمد على قاعدة بيانات للمشتبه بهم المحتملين، وتفرط الإدارة باستخدام القوة والقتل خارج إطار القانون ما أثار انتقادات واسعة في صفوف جماهير الثورة السورية ونشطائها.
وفي السياق، دعا العقيد إلى رسم خطة أمنية، «تقسم منطقة الساحل إلى مربعات أمنية» وطالب الإدارة الجديدة بتشكيل «قوات محلية تتبع لوزارة الداخلية يوكل لها مسؤولية ضبط أمن المناطق بشكل مباشر». ولفت إلى أن القيادة السورية الجديدة لم تأخذ «الانقسام الاجتماعي» الذي خلفه فشل العملية من جانب الفلول وما تسببوا به من مجزرة بحق المدنيين بعين الاعتبار ولم تبن عليها في مراجعة تصوراتها عن معالجة الأزمة في الساحل. إذ يحمل قسم كبير من أبناء الساحل مسؤولية قتل المدنيين إلى فلول النظام وليس لفصائل الإدارة الجديدة وحدها.
وحول شكل معالجة السطات الجديدة لأزمة الساحل، قال مدير قسم الأبحاث في مركز عمران للدراسات معن طلاع، إن الإدارة فاتتها بعض المسائل خلال ذلك، ومنها «عدم الاعتقال الممنهج لمجموعات معروفة بإجرامها سابقاً، كما يشكل عدم الاستناد لمعلومات استخباراتية دقيقة واحدة من الأدوات الغائبة». ويعتقد أن «غياب سياسات تطويع باقي المكونات الاجتماعية إلى الأمن العام واقتصارها على لون واحد هو عدم إدراك حساسية المنطقة».
وشدد على ضرورة العمل على كثير من الحوامل الاجتماعية وتعزيز دورها مثل الوجهاء والشخصيات الاجتماعية وشرائح المتعلمين والمثقفين، كما همشت المؤسسات الاجتماعية والمبادرات الأهلية التي كان من الممكن ان تبقى صلة وصل بين الإدارة الجديدة والمجتمع.
إضافة إلى ما ذكر، أسهم سوء الأحوال المعيشية والتردي الاقتصادي الذي خلفه التسريح الجماعي بخلق أزمة مركبة في الساحل السوري، خاصة وأن العلويين تتجاوز نسبتهم 80 في المئة في الجيش والأمن وهؤلاء قد طردوا جميعا من دون وضع خطة واضحة لمستقبلهم أو إحالتهم إلى نظام التقاعد.
التضليل الإعلامي
وقع مئات النشطاء في خطأ الترويج ونشر الشائعات المتعلقة بهويات الضحايا في الساحل السوري وفبركة منشورات على وسائط التواصل الاجتماعي. وتعتبر الشرائط المصورة التي بثت من أمام قاعدة حميميم العسكرية الروسية من أبرز تلك الفبركات، ولكن تواجد أصحابها أمام القاعدة أعطاهم مساحة للرد على الشائعات وتصوير فيديوهات يدحضون من خلالها التهم التي الصقت بهم على أنهم مسؤولون عسكريون وأمنيون في نظام الأسد البائد.
مبادرة الطائفة السورية
في سياق منفصل، رعت محافظة حلب وبالتعاون مع عدة منظمات وجمعيات خيرية وأهلية، بالإضافة إلى نشطاء وقادة مجتمعيين، إطلاق «مبادرة الطائفة السورية» التي تهدف إلى دعم العائلات المتضررة وتعزيز التماسك المجتمعي في سوريا. وجاء في بيان إطلاق المبادرة أنها تساند «عوائل شهداء الجيش والأمن العام، والمصابين، بالإضافة إلى عوائل المدنيين الذين طالتهم يد الإجرام في الساحل السوري». وأعلنت المبادرة أنها تسعى للوقوف إلى جانب الضحايا بغض النظر عن انتماءاتهم أو خلفياتهم، وتعزيز التضامن المجتمعي في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها السوريون.
وأعربت المبادرة عن انطلاقها «بعيدًا عن الفتن والانقسامات»، مؤكدة أن السوريين، رغم كل التحديات، يقفون معًا ضد الظلم ويتطلعون إلى وطن يسوده العدل والقانون، حيث يُحاسب المجرم بدون تمييز.
وصرح الناشط المدني عبد الفتاح شيخ عمر، أحد مؤسسي المبادرة والمتطوعين فيها أنه خلال اليوم الأول من المبادرة، استهدفت الحملة ريف اللاذقية، حيث قامت الفرق الميدانية بزيارة قرى الزوبار، شريفة، مختارية، وبرابشبو في ريف البهلولية. وكان الهدف من هذه الزيارة «التأكيد على أهمية الوحدة والتماسك المجتمعي بين مختلف أطياف المجتمع السوري، مع التركيز على التفاعل مع الأهالي والاستماع إلى معاناتهم». كما وزع المتطوعون المساعدات الغذائية الأساسية على العائلات في تلك المناطق كجزء من الجهود العاجلة لدعمهم. وفي اليوم الثاني وصلت الحملة إلى مدينة اللاذقية وقرى صنوبر وخربة أبو خسرف وعين العروس.
ويشارك في الحملة عدة مؤسسات منها، وحدة دعم الاستقرار ومؤسسة الرسالة وكفاف و Caritas Syria والمركز المدني (Civil Center) وشبكة بوند للتنمية المجتمعية Bond Network for Community Development والجمعية النسائية السورية (Syrian Women’s Association) وعشرات النشطاء المدنيين المستقلين.
البحث عن العدالة
بعد إفشال التمرد العسكري بموجته الأولى، وما رافقه من انتهاكات خطيرة ترقى إلى جرائم الحرب بحق المدنيين العزل والنساء والأطفال، ينتظر أهالي الضحايا انصافهم وانصاف قتلاهم باحقاق العدالة ومنع ارتكابات مستقبلية بحقهم وهو ما تبناه الشرع من خلال تشكيل لجنة تحقيق مستقلة وتشكيل لجنة للسلم الأهلي مكونة من الشيخ حسن صوفان القائد الأسبق لحركة أحرار الشام الإسلامية والذي عبر في تصريحات له عن رغبة في تدارك ما حصل ومحاسبة الجناة، كما عين الشيخ المعروف أنس عيروط ابن مدينة بانياس والمقرب من الشرع عضوا في اللجنة ومعهما رجل الأعمال خالد الأحمد المقرب من الأجهزة الأمنية في نظام الأسد وابن القيادي السابق في حزب البعث عبد الله الأحمد.
وفي الإطار، قدم محافظ اللاذقية محمد عثمان وعضو اللجنة العليا للسلم الأهلي الشيخ حسن صوفان واجب العزاء للسيدة زرقة سباهية أم أيمن، التي اشتهرت بصورتها إلى جانب جثث ابنيها وحفيدها القتلى وهم شبه عراة.
وعبر عثمان عن تعازيه العميقة، وأكد التزام الحكومة بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم التي وقعت، وتقديم الدعم الكامل لأسر الضحايا، مع ضمان ألا تتكرر مثل هذه الحوادث المؤلمة في المستقبل، حسب ما نقلت وكالة الأنباء الرسورية الرسمية «سانا».
- القدس العربي