ملخص
أثار القرار التحذيري الذي أصدره اتحاد الناشرين السوريين في شأن المراقبة المسبقة على الكتب جدلاً واسعاً في أوساط المثقفين، ووجدوا فيه عودة إلى القرارت “البعثية” التي كانت تصدر خلال الحكم السابق.
كان هيثم الحافظ رئيس اتحاد الناشرين السوريين، طالب في قراره الأخير جميع دور النشر المحلية بتقديم الكتب التي لم تحصل على الموافقة الرسمية من وزارة الإعلام إلى مديرية التقييم الإعلامي في الوزارة، وذلك من أجل أخذ موافقة تداول داخل البلاد أو من أجل شحنها للمشاركة في معارض الكتب الدولية. وشمل القرار الذي اكتظ نصه بالأخطاء الإملائية والنحوية جميع الكتب التي صدرت بعد تاريخ الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقبل هذا التاريخ. أثار هذا الأمر غضب عدد من المثقفين، وأطلق سجالاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، فأعاد إلى الذاكرة مخاوف عدد من الناشرين والكتاب بالرجوع إلى الوضع السابق زمن سلطة “البعث”. وللوقوف عند هذا الموضوع استفتت “اندبندنت عربية” آراء بعض المثقفين والناشرين السوريين.
“قفزة هائلة إلى الوراء”، هكذا عنون مروان عدوان مؤسس ومدير دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع في ما كتبه على صفحته الشخصية عبر “فيسبوك”، وقال “في وقت تتجه فيه معظم الدول العربية نحو تخفيف إجراءات الرقابة أسوة ببقية دول العالم، فإن أحد أول قرارات وزارة الإعلام الجديدة كان فرض رقابة مسبقة على الكتب، سواء للتداول داخل سوريا أو خارجها. أعتقد أن على الحكومة الأولى بعد الثورة التي كانت الحرية أول هتافاتها، والتي دفع السوريون ثمناً باهظاً من أجلها، أن تضمن أبسط حقوق الناس في حرية التعبير والنشر”.
وعلى اتحاد الناشرين السوريين ألا يكون ذراعاً تنفيذية لهذا القرار، بل يجب أن يقف في وجهه ويعارض أي إجراء يعيد الرقابة المسبقة أو يقيد حرية النشر، وفق عدوان. ويضيف “يجب أن يوجه الاتحاد كتاباً رافضاً للقرار إلى وزارة الإعلام، لا أن يشكرها ويدعو إلى الالتزام بتعميمها. إن دعم صناعة النشر في سوريا لا يكون بتضييق الخناق على الكتاب والناشرين، بل برفع القيود عن الكتب وعدم التدخل في المحتوى، والمطالبة بإلغاء وزارة الإعلام نفسها واستبدالها بهيئة ناظمة للعمل الإعلامي. لا للرقابة على النشر، لا لعودة مملكة الصمت”.
إعدام الكتب
جدل واسع يدور اليوم بين وزير الإعلام حمزة مصطفى ورئيس اتحاد الناشرين أخبرنا عنه أحد الناشرين السوريين (فضل عدم ذكر اسمه)، إذ طالب الوزير السوري رئيس الاتحاد بتقديم اعتذار عن قراره، لكن الحافظ رفض ذلك متذرعاً بأن الوزارة هي من طالبته شفهياً بإصدار هذا البيان، ويمكن أن تشكل العودة عنه فرصة للنيل من صدقية الاتحاد لدى أعضائه. وبدوره أوضح مؤسس ومدير “دار التكوين” سامي أحمد رأيه في القرار الأخير، فتحدث لـ”اندبندنت عربية”، “حاولنا طوال 30 عاماً أن نلغي الرقابة المسبقة على الكتاب السوري أسوة بالبلاد المجاورة، وحلمنا كناشرين أن نصبح بلداً متحضراً يحترم حرية التعبير، وأن تكون الرقابة على الكتب بعد صدورها لا قبله، تماماً كما هي الحال في بيروت والقاهرة. والمشكلة الحاصلة اليوم بحسب نص القرار الذي صدر عن مسير أعمال اتحاد الناشرين هي تغييب قانون المطبوعات، فهو الفيصل بين الجهة المدعية والمدعى عليها في أي كتاب يصدر عن دار نشر محلية”.
وهذا القرار سيجعل كثيراً من الناشرين يغادرون البلاد، وفق سامي أحمد، مضيفاً “هي طريقة لتهجير الناشرين الحقيقيين. المشكلة بدأت قبل ثلاثة أشهر بقرار صادر أيضاً عن اتحاد الناشرين فرض فيه الاتحاد مبلغاً وقدره 400 دولار أميركي على كل واحد طن من الكتب التي تُشحن إلى المعارض الخارجية. هذا ما عدا أجور الشحن، مع أن الكتاب في سوريا لم يكن خاضعاً للرسوم الجمركية، حالنا كحال أية دولة عربية، والآن الجمارك تعوق عملية إنتاج الكتاب وإيصاله إلى القارئ العربي”.
“لا نعرف فعلاً أين ستصل بنا التنازلات للرقابة الجديدة، يقول مدير دار التكوين الدمشقية ويضيف “بحسب القرار الأخير، يقولون إنهم سيعيدون قراءة الكتب الصادرة قبل تاريخ سقوط النظام وبعده، وهذا يعني أن كثيراً من هذه الكتب ستُعدم لعدم وجود موافقة رسمية عليها. كنا نأمل في عهد انتصار الثورة على الطغيان أن تلغى الرقابة المسبقة على الكتب، لكن من أسف لم يحدث ما تمنيناه بل على العكس، إذ تصرفوا أخيراً معنا في دار التكوين بتفتيش جميع الصناديق التي كنا نقوم بشحنها إلى معرض الدوحة الدولي للكتاب. وحدثت وقتها عدة إشكالات انتهت بالإذعان والموافقة على الشحن، لكننا اليوم في مشكلة كبيرة مع الرقابة الجديدة، فأيام النظام البائد كنا نعلم محظورات النشر، وعلى رغم ذلك كنا نضطر أحياناً لطباعة كتب ’دار التكوين‘ في بيروت وفي دول أخرى للتهرب من الرقابة ’البعثية‘. واليوم لا نعرف مع هذه الرقابة المدعومة بالجمارك على الكتب إلى أين نحن ذاهبون”.
سلطة متشددة
الكاتب والناشر محمد أمير ناشر النعم سرد قصته مع الرقابة عبر حسابه الشخصي على الموقع الأزرق، وقال “قضيت ردحاً من الزمان ناشراً وأنا أردح في وزارة الإعلام جيئة وذهاباً من أجل الحصول على موافقات نشر الكتب التي كنت أود نشرها، وكنا نحن الناشرين نبصق دائماً على هذه السلطة التي تلزمنا بهذه الموافقة ونقارن بين سوريا وبقية البلدان العربية التي لا يتطلب النشر فيها أية موافقة رسمية”.
وأضاف “يبدو أن السلطة الحالية ما زالت تستعذب بعض قرارات السلطة الأسدية، فالسلطة الحالية لا تستطيع أن تخلع عنها عباءة السلطة البائدة في إجراءاتها وقراراتها الرقابية، وأظن أن أولى مهام اتحاد الناشرين السوريين هي الاعتراض على هذا القرار بدلاً من تبليغه”.
ويرى الأكاديمي والحقوقي السوري حمزة رستناوي أن “الرقابة المسبقة على النشر انتهاك لمبدأ حرية التعبير”، داعياً عبر حسابه على “فيسبوك” إلى إطلاق حملة وطنية يشارك فيها الكتاب والمثقفون والصحافيون السوريون لرفض قرار اتحاد الناشرين. ويضيف “تقييد الأفكار هو مقدمة لتقييد الأوطان، إذ إن الرقابة المسبقة على النشر من ممارسات النظام الأسدي البائد. وفي كل دول العالم الحر لا توجد رقابة مسبقة على النشر. الرقابة هي رقابة الضمير، والأصل هو إبداء الآراء المختلفة دون تنميط، وذلك لتوسيع مجال ودائرة النقاش الفكري والسياسي في الشأنين السوري والإنساني (…) نناشد الحكومة السورية وقف العمل بهذا القرار”.
وللرقابة المسبقة على الكتب السورية حكاية تعود إلى عام 1971، وهو تاريخ انعقاد المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب العرب برئاسة الأديب الراحل صدقي إسماعيل. رفع المؤتمر وقتها شعار “لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير”، وبموجب هذا الشعار رُفعت رقابة الكتب المؤلفة والمترجمة من وزارة الإعلام، وأنيطت المهمة باتحاد الكتاب العرب، فصار الأذى الأكبر يأتي من رقابة الكتاب لمخطوطات بعضهم، إذ تعرض عدد من الكتب للمنع، وتعرض عدد من الكتاب لحملات اعتقال”.
ويروي نبيل سليمان الروائي ومؤسس دار “الحوار” قصته مع الرقابة، قائلاً “في أحد مؤتمرات اتحاد الكتاب خلال تسعينيات القرن الماضي تقدمت أنا وحسين العودات ووليد إخلاصي باقتراح لإلغاء صلاحية الاتحاد في هذا الشأن، وإعادة رقابة الكتب والمخطوطات لتكون من صلاحية وزارة الإعلام، وفعلاً نجح المقترح عندها بتصويت غالبية أعضاء مؤتمر الاتحاد، ولكن رئيس الاتحاد السابق علي عقلة عرسان نجح في الالتفاف على هذا القرار، إذ جرت العادة زمن نظام الأسد البائد أن تكون الرقابة مسبقة من قبل وزارة الأوقاف على الكتب ذات الطابع الديني أو التي لها علاقة بالدراسات الصوفية، فلم تكن وزارة الإعلام تنظر في هذه النوعية من المخطوطات”.
ويتابع الروائي نبيل سليمان “في سوريا زمن ’البعث‘ كان دائماً هناك رقابتان على الكتب، الأولى رقابة مسبقة على المخطوط والثانية رقابة لاحقة تتم بعد إيداع الكتاب في المكتبة الوطنية، إذ يتقدم الناشر بخمس نسخ مطبوعة مع المخطوطة الأصلية لوزارة الإعلام حتى تُعطى موافقة السماح بالتداول، أما الكتب المنشورة خارج سوريا فكانت زمن النظام البائد تحتاج إلى موافقة تداول، وهذا لم يرد بعد في قرار رئيس اتحاد الناشرين الجديد. وكل الخشية أن تعاد الرقابة أيضاً على مسألة استيراد الكتب من الخارج”.
- إندبندنت