قبل الوصول إلى الحكم في سوريا والعراق عام 1963، كان حزب البعث بيد القيادة المدنية وفي صفوف المعارضة. ومن موقع السلطة العليا أحكمت “اللجان العسكرية” سيطرتها وانقلبت على القيادة المدنية وبعضها على البعض الآخر، إلى أن تمّ الاستئثار الكامل بالقرار بعيداً عن أيّ محاسبة أو منافسة، ليسود الاستقرار، إلى أن تحوّل لاحقاً مدخلاً للتوريث. حصل التوريث في سوريا من الابن الأوّل الذي قضى قبل تولّيه الحكم إلى الثاني، ولم يُنجز في العراق بعد السقوط القسري للنظام والعائلة. الواقع أنّ التوريث لم يغِب عن بعض الأنظمة الاستبدادية، والحالة الأبرز كوريا الشمالية مع الجيل الثالث من حكّام الثورة الدائمة.
لكنّ ثمّة خصوصية لحزب البعث بالمقارنة مع الحالات الحزبية في الأنظمة المشابهة. فمؤسّس الحزب في أربعينيّات القرن الماضي، ميشال عفلق، حكم عليه بالإعدام في الدولة التي حكمها البعث، وحيث وُلد وأطلق الحزب من دمشق. انتقل عفلق إلى بيروت ثمّ إلى الاغتراب في البرازيل، إلى أن عاد إلى العراق رمزاً بلا سلطة أو قرار. أمّا صلاح الدين البيطار، رفيق عفلق في التأسيس والنضال، فتمّ اغتياله في 1980 في باريس. وبعد عفلق والبيطار، انتقلت راية التأسيس الرسمي في ظلّ حكم حافظ الأسد إلى زكي الأرسوزي. إنّها الحالة الوحيدة في العالم التي كان فيها المؤسّس بعد وصول حزبه إلى السلطة في القبر الفعليّ أو المجازيّ.
في سوريا الأسد وعراق صدّام كان البعث الحزب الحاكم، والأصحّ بإمرة الحاكم. خلافاً لأحزاب الأنظمة السلطوية المعروفة
العروبة وسيلة توسّع
مفارقة أخرى متّصلة بالقيادة الحزبية، المدنية والعسكرية. في أحزاب الأنظمة الشمولية في الاتّحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، مثلاً، ظلّ الحزب الشيوعي على رأس السلطة إلى حين الأزمات الكبرى عندما سيطر العسكر، مثلما حصل في بولندا في السنوات الأخيرة قبل سقوط النظام. أمّا حزب البعث فتحكّم به العسكر مع تبوّئه السلطة وأصبحت القيادة المدنية، القطرية والقومية، أداة طيّعة بيد الحاكم أو واجهة لشعارات واهية منفصلة عن الواقع.
مفارقة إضافية تخصّ علّة وجود البعث منذ نشوئه: إنجاز الوحدة بين دول قائمة ومجتمعات متنوّعة لجهة أوضاعها التاريخية والاقتصادية والدينية منذ ما قبل البعث بقرون. ففي حين أنّ الأحزاب العقائدية الأخرى تصدِّر الثورة وأدواتها مقابل الولاء الكامل، فإنّ حزب البعث أراد دمج الدول والمجتمعات في بوتقة قوميّة واحدة. فلا الاتّحاد السوفيتي في ذروة نفوذه سعى إلى الوحدة مع دول أوروبا الشرقية أو سواها، والصين اليوم تريد استعادة أرضها حصراً في تايوان. وفي المنطقة، إيران وتركيا تسعيان إلى النفوذ لا الوحدة.
مع البعث تحوّلت العروبة وسيلة توسّع في أيّ اتّجاه ممكن. صدّام حسين اجتاح الكويت وألغى الدولة وضمّها إلى العراق جاعلاً منها محافظة إدارية لاستعادة عروبتها الناقصة. والأسد اجتاح لبنان وما فيه، وتحديداً منظّمة التحرير الفلسطينية، واستكمل الضمّ الفعليّ لا الرسمي في التسعينيات بأدوات الترهيب والترغيب وبغطاء إقليمي ودولي. الواقع أنّ المشترك المحلّي بين البعثَين تجلّى في محاولات تعريب الأكراد بالقوّة أو بالحرمان. لكنّ في عراق ما بعد صدّام أخذ الأكراد مرادهم وإن تحت سقف الدولة الواحدة، وفي سوريا مصير الأكراد معلّق بين تركيا وأميركا والحكم الجديد. أمّا في جنوب اليمن البعثيّ فاختلفت الحال، حيث الجغرافيا البعيدة وخصوصيّة انقسامات الداخل المتعدّدة تغلّبت على الأيديولوجية واعتباراتها.
حاربت سوريا إسرائيل منذ ما قبل 1948 وتشاركت مع مصر في حرب 1973، وبعدها ذهب كلّ منهما في طريقه
الاستعمار المغامرة والأنظمة المقامرة
مسألة أخرى مرتبطة بإسرائيل هي العدوّ المشترك. إلّا أنّ أعداء عراق صدّام حسين المباشرين هم إيران الفارسية والكويت العربية وسوريا البعثية. ولسوريا أعداء، منهم الثابت ومنهم المتحرّك. حاربت سوريا إسرائيل منذ ما قبل 1948 وتشاركت مع مصر في حرب 1973، وبعدها ذهب كلّ منهما في طريقه: مصر باتّجاه معاهدة سلام مع إسرائيل وسوريا باتّجاه الهدوء في الجولان والحرب من لبنان، وكادت أن توقّع معاهدة سلام مع إسرائيل في عام 2000 لولا رفض إسرائيل الانسحاب إلى حدود 1967. أمّا عداء سوريا الثابت فكان تجاه العراق البعثيّ ومصر الناصريّة بعد الانفصال في 1961.
سقط نظام الأسد وفي سوريا أربعة جيوش متحرّكة في البرّ وإسرائيل من الجوّ. وبعد السقوط توسّعت إسرائيل جنوباً وتركيا شمالاً وباتت التشقّقات الداخلية أكثر وضوحاً وحدّة. وفي العراق، حروب صدّام حسين مع إيران والكويت وجنوح أميركا باتجاه مشاريع واهية بعد اعتداءات 11 أيلول، قضت عليه. فوجئ النظامان، واحد بالاجتياح الأميركي والآخر بالانهيار الداخلي.
لكن في المحصّلة ساهم البعث عن غير قصد في انبعاث الدولة الوطنية التي طالما تصدّى لها وأنكر وجودها. حقيقة الأمر أنّ ما صنعه الاستعمار مغامرة وما صنعته الأنظمة مقامرة. وتبقى المؤامرة أداة متاحة للتنصّل من المسؤوليّة وتجاهل الأقوال والأفعال من جيل إلى آخر.